حيدر وكمال .. لكما الحب والعافية !
بعيداً عنكما وعن وطن أعياكما حبه حتى حافة التهلكة، أود أن أزفكما للقارئين من أبناء وبنات السودان وأقول لهم: إن الكتابة الجادة مسئولية لا يحتملها إلا الشجعان. يشرفني أنني عرفت كلاً منكما ذات يوم في ظرف مختلف فعرفت فيكما الإنسان بكل ما تعني الإنسانية من معنى ، وشجاعة الرأي بكل ما تعني الشجاعة من إقدام وتضحية ونكران ذات. حمداً لله على سلامتكما. إنني هنا احتفي بكما على طريقتي الخاصة ما دام زماني حرمني أن أكون جواركما اليوم!
الدكتور حيدر ابراهيم علي .. مفكراً
كنت بالخليج في النصف الثاني للتسعينات، حين وقع بيدي كتاب : (أزمة الإسلام السياسي: الجبهة الإسلامية القومية في السودان مثالاً)، لمؤلفه الدكتور حيدر ابراهيم علي. قرأت الكتاب في زمن وجيز وسط دهشتي للتحليل الراقي والممتع للخطاب الإسلاموي المتأزم في السودان؟ عرفت أن المؤلف أستاذ جامعي سوداني ، ترك وظيفته في دولة خليجية ليذهب إلى المغرب ويقيم مركزاً للدراسات السودانية، وانتقل بعدئذ بمركزه إلى مصر. صرت صديقاً دون تعارف لحيدر ابراهيم علي وحصلت على معظم ما كتب آنذاك من معارض الكتب المختلفة. كان نظام الإسلامويين وقتذاك في أوج (انتفاخه الكاذب): وعيد بنشر مشروعه الحضاري الوهم في العالم كله بدءاً بدول الجوار العربي والأفريقي ، والأناشيد التي تنادي بدنو عذاب أمريكا وروسيا معاً، وانتهاءً بحملات غزو جنوب السودان ووعود الحور العين!
في ذاك الجو الخانق كان فرحي بكتابات الدكتور حيدر ابراهيم علي لا يعادله فرح. أذكر أني يومها كتبت في صحيفة خليجية مشيداً بالمركز كأداة تنوير. ويمضي عقد من الزمان قبل أن ألتقي بالمفكر حيدر إبراهيم في ندوة أقامها مركز الدراسات السودانية في القاهرة حول (الثقافة والتنمية في السودان). تنادى للندوة مثقفون سودانيون جاءوا من كل حدب وصوب. منهم على سبيل المثال: السيد الصادق المهدي والدكتور فرانسيس مدينق دينق والدكتور فاروق احمد ابراهيم. في ذاك المؤتمر الفريد تم تكريم الروائي العظيم الطيب صالح وقيثارة النغم السوداني عثمان حسين. وإذ استقبلني حيدر في مكتبه قبل انعقاد المؤتمر بيوم واحد طلب مني أن أقوم بمهمة مقرر المؤتمر دون أن يقبل نقاشاً في الموضوع. عقد المؤتمر بإحدى قاعات دار الأوبرا المصرية وقد أمه خلق كثيرون ضاقت بهم القاعة والبهو الملحق بها. نجح المؤتمر لدرجة أن أحد المؤتمرين علق بالإنجليزية ضاحكا: (هذا المؤتمر صار ضحية نجاحه (This conference has become the victim of its success!. من يومها وحيدر هو أستاذي وصديقي الذي يكتب لي وأقرأ له. وأجزم أنّ مؤلفاته بدءاً بكتاب "أزمة الإسلام السياسي" و"لاهوت التحرير" و"سقوط المشروع الحضاري" مروراً "بالتيارات الإسلامية وقضية الديموقراطية" وانتهاءً بسيرته الذاتية الموسومة "أزمنة الريح والقلق والحرية" وما كتبه من مقالات عديدة في صحف ودوريات سودانية وعربية .. أجزم أن هذا الكم من الكتب والمقالات يضع حيدر ابراهيم علي في رأس القائمة من مفكري العالم الثالث وليس المحيطين العربي والأفريقي. في كتابات د. حيدر ابراهيم علي وأبحاثه أكاد أبصر عالم الاجتماع الذي يمسك بيمناه إزميلا يثلم به حجارة صماء من جبل البحث ليحولها إلى أيقونات من المعرفة والفكر السديد.
حين نصف كاتباً مثل هذا بأنه مفكر، فإننا لا نفعل سوى إطلاق الاسم الصحيح على المسمى. عوفيت يا أستاذي .
كمال الجزولي.. الشاعر في جبة الحقوقي و السياسي الثائر!
قرأت – وأنا طالب بالجامعة- قصيدة (ام درمان تأتي في قطار الثامنة)التي بهرتني كثيراً حتى إنني حفظت بعض أبياتها. قيل لي إن شاعرها إسمه كمال الجزولي وأنه يدرس القانون بأكرانيا. ومضت الأيام لألتقي شاعر القصيدة التي أحببت. ولكي أكون أميناً ، فإن أول انطباع لي عن الرجل كان سيئاً. كان انطباعي أنه شاب شيوعي متعجرف، أم درماني –لا يعبأ بقروي مثلي جاء من سهول وأودية كردفان! لم أعط المسألة أكثر من حجمها. ويكمل الزمن دورة أخرى فنلتقي: كمال وأنا وشاعر الشعب – حبيب الكل محجوب شريف – صهر كمال الجزولي. التقينا في أمسية نادرة جمعت نخبة من الشعراء نزلاء السجون بعد المصالحة الوطنية في عهد مايو. أقامت الأمسية الجمعية الثقافية لكلية الهندسة بجامعة الخرطوم. قرأ كمال في تلك الأمسية شعراً جميلا وبديعا وجديدا في الشكل والمضمون وبشجاعة يحسد عليها. وأحسبه الطبع البدوي المصادم في داخلي ، إذ وجدتني اقترب خطوة من الرجل وأنسى ما رميته به من عجرفة. وتريد لنا الظروف أن نلتقي مرة اخرى..دعيت لعشاء بالمقرن احتفاء بزواج توأم شعري عالم عباس. يا للمفاجأة. كان عراب الحفل والقائم عليه هو كمال الجزولي، الذي كان يضحك ويضحك الجميع بقفشاته الممتعة. سألت نفسي فيما بعد: أين اختفى الشاب المتعجرف ؟ كنت على خطأ وكان كمال الذي عرفته فيما بعد ولأكثر من ثلاثين سنة من أصدقائي المقربين. عرفت في كمال الجزولي مناحي لا يعرفها إلا من اقترب منه فلمس فيه قلباً ينبض بمحبة الآخرين حتى التعب، لذا لم يكن بدعاً أن يخضع لمشرط الطبيب. عرفت فيه الشاعر المرهف الذي تدمع عينه لحدث محزن ، والمثقف الذي يضع قضية أتحاد الكتاب السودانيين فوق (أكل عيشه)، والكاتب عف اللسان حتى حين يصل الصراع مع خصمه حد الجفاء. وعرفت في كمال انتماءه للوطن في أركانه الأربعة. يتحول تطرفه في حبه لام درمان إلى حب عارم لجبال النوبة والأنقسنا وكجبار ودار فور وتلال البحر الأحمر والجزيرة الخضراء ..لا يفرق بين ساكنيها. قال لي ذات مرة: (تعرف ياخي أنا متهم بإنو كل صحباني غرّابة: محمد المكي ابراهيم وعالم عباس وإنت الجالس جنبي دا !!) أضاف بضحكته العالية: (أمشي منكم وين؟!)
يا صديق الحرف المقاتل، ألف حمد لله على سلامة قلبك.. كنت أعرف أنه لا يمكن لقلب بشر أن يحتمل الحب الذي تحمله لكل من قابلك بالابتسام! سلمت لوطنك وأحبابك!
فضيلي جمّاع
لندن، 11 يناير 2016
fidajamb@yahoo.com