حينَ تَختبـِيءَ المَديـنـةُ في المَكْتـبـَة
أقرب إلى القلب :
Jamalim1@hotmail.com
تمهـــيــد:
كنت قد أصدرتُ روايتي "دفاتر القبطيّ الأخير" أواخر عام 2016 ، وكعادة أكثر الكتاب سعيت لأدفع بنسخٍ منها إلى الأستاذة إخلاص صبحي التي تدير "مكتبة مروي"، بعد رحيل صاحبها العزيز "جرجس". وبعد مضي بضعة أشهر، ذهبت إلى "مكتبة مروي" لأراجع مبيعات روايتي، فراعني أنّ المكتبة نفسها لم تعد في مكانها، بل علمت أنه تم طرد المكتبة طرداً مبينا. رأيت أكداس الكتب ملقاة أمام شارع البرلمان ومقر المكتبة مغلق، وأن شهادة وفاة قد صدرت لـ"مكتبة مروي" التي عرفناها شامخة في ذلك المكان، منذ أكثر من ثلاثين عاما. . أبلغَ بنا الحال أن نعامل المكتبات وكأنها أمكنة لنشر الرذيلة وإشاعة الفواحش. . ؟
أيّ مدينة هذه التي تغلق المكتبات وتقذف بالكتب إلى قارعة الطريق. . ؟ لو ذكّرك ذلك الفعل وزير الدعاية عند "هتلر" الذي تحسّس مسدسه أمام المثقفين، لهان الأمر، ولكن تعيد الصورة إلى ذاكرتك، فعل "هولاكو" بمكتبات بغداد، قبل قرون بعيدة. .
أما أنا فقد تذكرت بكائيتي على مكتبة أم درمان المركزيةقبل عامين، فليتكم تبكون معي أحوال المكتبات هذه الأيام. .
(1)
للأمكنة سحرها الأخاذ، كونها تعتصر الزمن حبيساً بين جدرانها وأسوارها، ولكون الرأسيّ يلتقي الأفقيّ فيها بلا تضاد . للمفارقة بُعدها الفلسفي الموحي، إذ التضاد بين المكان والزمان هو تمويه لمتقاربين لا متنافرين. هي "الزمكنة" إن تحملت اللغة مزجاً مناسبا. مبتدأ المكان قد يكون في لحظة الانفصال عن المشيمة واستشراف الميلاد بصرخة الحسرة، بعد مفارقة دفء التخلق في الرحم. ثمّة أمكنة ندخلها بالمعلوم فور الخروج من مجهولها. الطفل يجد مهده . العصفور يكبر في عشّ أمه . النحل ينمو في خليته مما ابتنت النحلة. الضبّ يستيقظ في جحره. المكان هو الزمن الابتدائي الجديد ، حيث تنفلت الذاكرة على فطرتها، يصير الزغب أجنحة لعصفور يطير، والصرخة الأولى تكون أول سطرٍ في اللغة والكلام، يطلقها طفلٌ يسعى صغيراً ، ثم يكدّ كبيراً كهلا . .
الأمكنة وسحرها ..
لو أسقطتْ الذاكرة تفاصيل سنوات الكبر، فإنها تحفظ بدايات التشكّل، وكسب المهارات الجديدة في اجتراء الإمساك بعالم كبير بأيدٍ صغيرة رخوة الأصابع. في البدايات يكون النحت راسخاً في حجر العقل بهذه الأصابع الواهنة، فتثبت أبنية الذاكرة من تفاصيل المرئيات في عالم الخارج. وتبدأ من بعد ذلك رحلة المزاوجة بين الفطري والمكتسب ، فتزدهر مكونات الثقافة والموروثات ، وتنشأ ثوابت الحضارات .
(2)
لابدّ من إجابة لمن يستوضح : ما أصل هذا الكلام ، وما مبعثه ، ما نهاياته؟ وهل تتحمل صحيفة، مهما علا شأنها أو صغر، إلكترونية معجلة أو ورقية مِبطاء ، جدلاً يقترب من تخوم الفلسفة، يكاد يبلغ لغة التقعر، ويستدني المستحدثات من محسنات اللغة وغرائبها ؟
ربّما تلتبس الإجابة مثلما التبس السؤال . غير أني أفصح موضحاً، أن الذاكرة أعادتني إلى سنوات الصبا، بداية اكتشاف مشوار الحياة وبناء الشخصية، تشبعاً بقيم مجتمع نشأنا فيه، وتعليماً تلقيناه . .
ذات يوم ليس ببعيد، كنت أعبر خلاله طريقاً إلى سوق مدينة أم درمان ، مروراً بمستشفى "التجاني الماحي"، إذ أرى مبنى مكتبة أم درمان المركزية ، أو ما كان يوماً مكتبة لأم درمان. ولعله مبنى استأجرته وزارة التربية خصيصاً للمكتبة. لم يكن مروري مروراً معجلاً ، بل كنت أقف متمهلاً أنظر إلى الباب العتيق وقد لحق الصدأ حديده، ودهانه غادر من لونه وبهت. الجدران الخارجية قد آلت إلى سقوط مبين. لم يكن المنزل القديم يشي بأن حياة فيه لساكن . ليكاد أن يحسب الواحد أن بعض جنّ سليمان عليه السلام ، قد أووا إليه بعد هروب أسطوري قبل زمان الرسالات .
لكني أتذكّر كيفَ أمعنتُ النظر فكدتُ أن أشتمّ رائحة السنوات القديمة تعبق في المكان، قوية نفاذة . "مكتبة أم درمان المركزية". وأنت تدخل البهوَ، تصادفك أرفف حديدية وخشبية ، ملأى بأصناف الكتب. على يمينك الأدب العربي والتاريخ. في الغرفة الأولى يجلس أمين المكتبة، معلم أصلع في خمسيناته أو ستيناته ممسكاً بسيجارته، قليل الكلام لا يحكي مع أحد ، ويحدّث وهو ينفث دخانه إن احتاج همسا . لم يكن الدخان- في ظنِّ البعض- مهلكاً وقتذاك !
(3)
أدلف إلى القسم الذي يلي مدخل المكتبة. أقف عند الروايات العربية: روايات نجيب محفوظ وقصص محمود تيمور ومسرحيات توفيق الحكيم وقصص السباعي واحسان عبدالقدوس، وغيرهم من رواد الأدب والرواية العربية . في قسم الشعر العربي، ترقد دواوين الشعر الجاهلي في الأرفف السفلى بأغلفة سميكة ، ودواوين الشعر الحديث نسبياً، بأغلفة ورقية، ويشمل ذلك شعر أحمد شوقي كما شعر البارودي وحافظ إبراهيم وشعراء "أبوللو"، دواوينهم في أرفف على مستوى البصر. الغرفة الأخيرة تُحترز فيها أعدادٌ من الصحف والمجلات القديمة. في يوم صادفتُ عدداً من مجلة "حوار" اللبنانية/اللندنية ، ولم أكن أعرف إثارتها لأيّ جدل وقتذاك، لكني أتذكر كيف قفزت عيناي من محجريهما وأنا أطالع نصّاً عنوانه "موسم الهجرة إلى الشمال" لسوداني لم أسمع به من قبل، إسمه الطيب صالح.. !
كنتُ أتسلل خلسة بدراجتي- البسكليت- قبل أن يضبطني والدي فيمنعني، وأنا لم أتجاوز الرابعة عشر، وهي سنّ لا يطمئن معها على تركي أقود دراجتي إلى مسافات أبعد من الحيّ الذي نقيم فيه، جنوبي "خور أبي عنجة. أما إلى "المغالق"، على قول خليل فرح، والذهاب إلى سوق أم درمان، أو لمكتبة أم درمان المركزية، فتلك مغامرة غير محسوبة. هناك تشرّبت ذاكرتي من الكتب ودواوين الشعر التي كنت أستلفها بعد التسلل بدراجتي كلّ أسبوع من "حيّ أبوكدوك" إلى مكتبة أم درمان المركزية.
من تلك القراءاتِ استقام "مزاجي الأدبيّ والشعريّ"، ونما بمرور الأيام ، وأيضاً ممّا تلقينا من رعاية معلمينا في المرحلة المتوسطة : المعلم الراحل عمر علي أحمد، والشيخ حسن أبو سبيب ولم تكن قد استهوته السياسة بعد، وحمدي بولاد، قبل أن تأسره شاشة التلفزة ، وأستاذ اللغة الإنجليزية جمال عيسى والأستاذ المربّي عمر خالد مضوي، مدير مدرسة النهضة في أم درمان، على تلكم الأيام. أولئك قد حفروا ، مثلما حفرتْ المكتبة ، ما رسخ قوياً في الذاكرة من علمٍ وأدبٍ وثقافة . .
(4)
يا لسحر المكان ، ويا لرسوخه الأمين في الذاكرة الرّطبة . .
"مكتبة أم درمان المركزية" الآن: أتكون أثراً بعد عين؟ هاهيَ الآن وقد أصبحت أمام ناظريّ دِمناً يصلح أن ينسب فيها شاعر أمويّ مثل "الأخطل" أو "ذي الرُّمة"، أو صارت أطلالاً غادرها الشعراء ، فلا مَـيّ كانت هنا ، ولا أهلها تركوا أثراً من رحلهم يتأسىَ به شاعرٌ ولِهٌ عاشق. كنتُ أرى في الباحة الأمامية للمكتبة وفي الناحية الشمالية، حديقة صغيرة ممتدة إلى جدارٍ قامت بمحازاته شجيرات ليمون وأزهار فلٍّ. في سنواتٍ تلتْ انقلاب جعفر نميري في مايو من عام 1969، ظلت المكتبة وحديقتها الصغيرة ، مكاناً ومنتدىً، يتحلق فيه وحوله أدباءٌ ومثقفون وسياسيون، سودانيون وأجانب .
لن أنسى أمسية سياسية، تحدّث فيها المناضل الفلسطيني "نايف حواتمة" في تلك الحديقة ، وكان شاباً مشتعلاً نشاطاً وحيوية، خارجاً لتوّه من حظيرة الجبهة الشعبية (جورج حبش) لينشيء – مستقلاً - الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين . سحرنا "نايف" بحديثه ورجّنا الحماس ونحن في سن الصبا والانطلاق. كانت الخرطوم بعد الانقلاب، قبلة لليسار ووسط اليسار العربي، وبوجه خاص اليسار الفلسطيني. من زوّار الخرطوم الرائعين وقتذاك الشاعر "نزار قباني"، فتياُ متحدياً بـ"هوامش دفتره" واقع الهزيمة والانكسار في عام 1967. كانت الخرطوم ذلك المكان الذي رفعت فيه الكرامة العربية رأسها بعد "نكسة" يونيو 1967. في تلكم السنوات، كانت هي المكان المشبع بسحر اللاءات الشهيرة. في مكتبة مدينتي الحبيبة، نفثت الخرطوم بعض روحها وحيويتها . .
ولأن الخرطوم زهتْ بكلّ هذه الحيوية في جانب ، فإنها بالمقابل سدّدت ثمناً قاسياً في جانبٍ آخر، إذ جرى اختطاف الدبلوماسيين الأجانب، وأغتيل القائم يالأعمال الأمريكي وزميله البلجيكي، في حفل السفارة السعودية، بعد ذلك في سنوات السبعينات. لا عجب أن يقع ذلك في المكان المشبع بانبثاق الكرامة بعد "نكسة" مُذلة، نظر العالم بعدها دهشاً لشعب يصفّق لقائدٍ مهزوم، إسمه جمال عبد الناصر. وبرغم ذلك فقد علِقَ بهاءُ مُستدام بعاصمة السودان. إلى ذلك كسبتْ "مكتبة أم درمان المركزية" عطرها الباقي، أبيداً في فضاء تاريخ المدينة . .
أما الآن فهاهي وقد آثر معتمد المدينة أن يوسع الطريق والمداخل إلى بطن سوق أم درمان، فطال التوسيع أطرافاً من المباني التي كانت تشغلها تلك المكتبة، وجرى ترحيل كتبها إلى مكانٍ قصيٍّ، يقع في أطراف "مدرسة المؤتمر الثانوية" في أم درمان ..
(5)
لو كتب "ت. س. اليوت" في قصيده ، أن الفردوس يخرج من الوردة ، أو لو سمّى شاعرنا السفير "محمد المكي إبراهيم" مجموعته الشعرية: "يختبيء البستان في الوردة" ، فإن بهاء مكانٍ صغير هو "مكتبة أم درمان المركزية" ، قد اختبأت فيه روح مدينةٍ تميّزت بتزاوج أعراقها وتصاهر ثقافاتها، وإني لأرى المكتبة الحبيبة وردة فوّاحة، خبأتْ في بتلاتها بهاء سنوات لن تبلى أيامها ، وأمكنة رسختْ في جدران الذاكرة ، حرّة طليقة. فإن قالت الأسطورة أن رشّ الملح على رماد القواقع والأصداف، كفيلٌ باحيائها من جديد، بمثلما جاء في الأثر عن طائر الفينيق الخرافي، فما يدريك أن يلتفت صديقنا معتمد المدينة بمثل التفاتته لتوسيع مداخل سوق ام درمان، إلى إصلاح حال "مكتبة أم درمان المركزية"، القابعة في مكانٍ قصيٍّ بـ"مدرسة المؤتمر الثانوية"، في الشاطيء الغربي للنيل. ليت القائمون على أمر "المكتبة الوطنية"، يشحذون الهمم للعناية ب:"المكتبة المركزية" لأم درمان ، فقد يكون ذلك كفيلا بأن يعيد للمدينة روحها وفوح بهائها . .