“حَفيانْ في بَلدْ مَليانَه جِزَمْ” .. تأملات في أدب الركشة

 


 

 

كان التقاط وتدوين ما يُكتب على المركبات، خاصةً اللواري وحافلات المواصلات والركشات، هواية قديمة إعتدت عليها لبعض الوقت، ونتج عنها مجموعة كبيرة من طرائف هذا المكتوب ضاع أكثرها وبقي القليل, ما أعادني لهذا الموضوع تحقيق شيّق أجراه مؤخراً الصديق حسن الجزولي مع بعض سائقي الركشة حول وسائلهم ومنهجهم في إختيار بعض صور المشاهير ورسمها أو طباعتها فوق جسم الركشة. وما يُكتب أو يرسم على المركبات تقليد، بالطبع، قديم عندنا وعند غيرنا، لكن فاقت الركشة رصيفاتها من المركبات في هذا "الأدب"؛ ليس فقط بسبب هذا الغزو الكثيف والمفاجيء للركشة وحضورها أينما إلتفتنا، ولكن لأن هذا الغزو جاء في منحنى تاريخي أطبقت فيه الأزمة السياسية والتدهور المعيشي على مفاصل الحياة فتحول هذا الأدب إلى خطاب جهير تحمله الركشة أينما حلّت.
وما نعنيه بالأدب هنا في إرتباطه بهذه المركبة يتجاوز تعريفه المعتاد كنوع فني ليصبح ضمن التعريف المعاصر للثقافة البصرية Visual culture والذي يشمل كل ما هو مُشاهد وكل ما هو مُنتج أو موضوع بهدف مشاهدته وكذلك الطريقة التي يُشاهد ويُفهم بها. وهذا يشمل كل شيء من الفنون البصرية بأنواعها والمعمار وفن الفديو والفن الرقمي والسينما والتلفزيون والإنترنت والموضة وصالات العرض والحدائق وحتى ما يُرسم ويُكتب على أجسام القطارات والطائرات والمركبات وواجهات العمارات. إذ يمكن الحديث هنا عن إنعطافة بصرية visual turn شاملة معنية بما تقع عليه العين بشكل مباشر وأثر ذلك في الأفراد والجماعات، وهو إتجاه يتزايد تأثيره في ثقافات الشعوب بشكل مطرد. وأدب الركشة بهذا المعنى يصبح مادة بصرية مكتوبة ومعروضة بطريقة معينة لفضاء إجتماعي معين بهدف مشاهدتها وفهمها بإعتبارها "خطاب" و"موقف"؛ وبذلك تتحول الركشة إلى سبورة وصحيفة ومنصة، حاملةً ركابها، في تجوال لا يكل في شوارع المدينة وأزقة الأحياء ودروب الريف.
ولا بُدّ قد إنتبه أصحاب التخصصات في العلوم الإجتماعية والإنسانية عندنا، كل من منظوره، لظاهرة الركشة، لكن لا يمكن تجاوزها بأي حال كمؤشر بليغ في الإقتصاد السياسي للدولة والنظام القائم. وما هو مكتوب أو مرسوم فوق جسمها، وتحديداً في تلك المساحة الصغيرة المستطيلة والمخصصة لذلك في خلفيتها، ليس سوى منطوق هذا الإقتصاد السياسي. فهي وإن أسهمت، بل أنقذت، عدد يصعب حصره من الأسر والأفراد على مستوى القطر من أسر الفاقة المهينة وأصبحت وسيلة متاحة لكسب العيش إلا أنها تظل وسيلة عابرة ومهنة محدودة الأفق لا تقترب أبداً من طموح هذا الجيل، يلجأ إليها آلاف الشباب ممن إنسدت أمامهم أبواب العمل وآلاف من خريجي الجامعات ممن أضناهم البحث عن وظيفة مهما قلّ شأنها. ومن هنا إكتسب أدب الركشة الذي نعنيه طابعه المميز كمرآة لواقع زاخر بالمتناقضات. أنظر مثلاً إلى جملة "حَفيانْ في بَلدْ مَليانَه جِزَمْ"، والتي سنأتي إليها لاحقاً، مكتوبة بخط إحترافي في هذا المستطيل في إحدى الركشات، صاحبها شاب في مقتبل العمر، ولا بد قد جاء إختياره لهذه الجملة عن وعي ناضج ومكابدة لأسباب ووسائل كسب العيش في عتمة الأزمة الإقتصادية الحالكة. وآخر كتب في هذا المستطيل هاتين الكلمتين الصاعقتين: "البقت بقت". كذلك، وكما ذكر لي أحد الأصدقاء، ظهر لفظ "أوكامبو" في هذا المستطيل لإحدى الركشات بعد وقت قصير من صدور قرار المحكمة الجنائية حول عمر البشير. وهذا أمر معتاد في إلتقاط الحدث السياسي أو الإجتماعي أو الفني والتفاعل معه خاصةً من جانب سائقي الركشة من الشرائح المتعلمة من الشباب أو الطلاب.
كذلك إنتشرت الركشة في نواحي الريف حاملةً معها "ثقافتها" في تطور عفوي يحكي جانب من آليات إنتقال المدينة إلى الريف، فأحدثت تطور، بعضه هام وعميق، في حيوات الناس، وبرزت شواهد قد تبدو غير ذات أهمية إلا لأهل الإقتصاد والإجتماع ودارسي التراث الشعبي. فقد حلّت هذه المركبة، مثلاً، محل الحمار كوسيلة إنتقال في كثير من القرى التي إستجابت جغرافيتها لحد ما لمقدمها فأحدث ذلك "ثورة" في شبكة التواصل وقضاء الأغراض وتنشيط الأسواق. كذلك فقَدَ هذا الحيوان قدراً كبيراً من مكانته في إقتصاد الريف وتضاءلت أعداده في بعض المناطق، وإختفى ذلك الإهتمام بفصائله وأنسابه، كما إختفى "حوش الحمير" والذي كانت له مساحته ضمن الأسواق الكبيرة ورواده من إختصاصيي أنواع الحمير والبصير العارف بعللها ووسائل علاجها وكذلك حلاقيها وبائعي سروجها.
من ناحية أخرى، سرعان ما تطغى ثقافة تلك الناحية من الريف أو ذلك الجزء من الوطن وتفرض موروثها على أدب الركشة. لقد جاءت هذه المركبة كتقنية حضرية حديثة ترافقها تقاليدها التي نمت وترعرعت في ظل هذا الواقع السياسي الإقتصادي الإجتماعي البائس والملتبس في أذهان قطاع واسع من أجيال الشباب في المدن والقرى. ويلتقط سائقي الركشات في الأرياف والأجزاء المختلفة من الوطن هذه التقاليد في منهجها وأساليبها، وتجري عمليات تثاقف تشمل كل ما هو خاص ومحلي ويبدأ أدب الركشة هنا في طرح هموم وقضايا وأشواق تلك الناحية بأسلوبه الخاص حتى لنرى نصوصاً بلغات محلية مكتوبة بالأبجدية العربية.
وكما ذكرنا في الفقرات السابقة، فالنصوص المكتوبة أو الأشكال والعلامات المرسومة على أجسام المركبات أمر معتاد. وكان هذا التقليد في بداياته، ومع ظهور الأجيال الأولى من المركبات، قد تميّز بنبرة هادئة وموضوعات محدودة تجدها في نص ديني مثل البسملة أو دعاء للحماية وزيادة الرزق مثل "يا قوي يا متين" و"الخالق رازق" أو صفات القوة والسرعة مثل "أسد الخلا" خاصةً في اللواري، وتجدها في أسماء الأغاني مثل "خداري" و"يا ساير يا ماشي". ومع تكاثر المشاكل وتعقيدها مع التطور الجاري في حياة المجتمع تتنوع كذلك أشكال الإستجابة ورد الفعل، ويبتدع أصحاب المركبات أو سائقيها على أيامنا هذه صيغاً جديدة فيها الطريف المبتكر، مثل"دى العَوْلَمَة" مكتوبة على عربة صهريج مهيأ للشفط بالهواء، ومثل "الوجع رجع" على إحدى الحافلات و"فات الأوانْ" على أحد اللواري تعبيراً عن هموم وموجبات هذه المهنة، ومثل "عِزْ الخيل لَجِمْ وعِزْ الحَريمْ وِلْيانْ" على إحدى الدفارات من ناقلات الطوب والرملة يعلن صاحبه عن رأي وإنحياز صريح في قضايا إجتماعية. وواضح أن التحول في هذه النصوص، في حدة نبرتها ووجهة رسالتها يترافق طردياً مع إشتداد الأزمات السياسية والتدهور المعيشي المتصاعد. وهكذا جاء أدب الركشة هذا ميراثاً وإمتداداً طبيعياً لتقليد سائر؛ وتزامن دخول هذه المركبة بقوة ضمن سبل كسب العيش ومع إنسداد هذه السبل أمام هذا الجيل من الشباب مما أنتج خطاباً له سماته النوعية المميزة.
من ناحية أخرى، يندرج جانب كبير من نصوص هذا الأدب كخطاب ضمن أشكال الوعي المتصاعد بالأزمة المستحكمة، ويشير إلى طبيعة الإقتصاد السياسي لهذه الدولة ونظامها الموروث كما ذكرنا من قبل، وإن تفاوتت مدارك أصحابه ومدى إستيعابهم لجذور الأزمة وتاريخ تطورها وتحليلها. فهذه النصوص، في تنوع موضوعاتها ومضامينها، هي تمثلات جليّة لهذه الأزمة يبوح بها كل نص كما أراده صاحبه تعبيراً عما يجيش في دواخله من كوامن إنسانية تجاه واقعه المُعاش، فنجد فيها التصريح والترميز والإحتجاج، والسخرية والإشمئزاز، والتحسر والندم، وقليل من التفاؤل وكثير من الشك، خاصةً وهذه النصوص راجعة في زمن رصدها إلى السنوات الأخيرة من حكم الحركة الإسلامية.
كذلك تتميز طائفة كبيرة من هذه النصوص في مبناها اللغوي بالإقتصاد في ألفاظها وبقدر من الإيقاعية في وزنها تركيزاً على دارج اللسان السوداني، كما حافظت على النهج القديم في الإستعانة بالحكمة الموروثة والمثَلْ السائر ولازمات الأغاني. كذلك يتجلى تميُّز هذا الجيل من سائقي الركشة في الجرأة والقدرة على الإستلاف وتحوير المستلف والتحرر من أي قيد في هذا المسعى مما يجعلها، في بعض نماذجها، أشبه بأسلوب مغنيي الراب، sampling وهو إجتزاء مقاطع من أغاني أو موسيقى قديمة أو محدثة وإستيعابها في مجرى أغانيهم. هذا وأي مقاربة تحليلية لهذه النصوص تستلزم، بالطبع، مراعاة ما يتناسب من قواعد التفسير والتأويل، مثل عامل السن ومستوى التعليم والحيز الزمني والوضع المعيشي والمحيط الإجتماعي والحدث السياسي الجاري إلى جانب العامل الذاتي وكل ما يشكل السياق العام الذي يفضي إلى التفسير والفهم الأقرب. مثال ذلك صيغة "دى العَوْلَمَة" المار ذكرها والمخطوطة على صهريج عربة شفط السايفون وغيره. فمن المستبعد في، ضوء عدة قرائن، أن يكون المعنى المقصود في كلمة العولمة هنا هو المعنى المقصود بمدلولاته السياسية والإقتصادية والآيديولوجية في لفظة globalization المشتقة من لفظة globe بمعنى العالم، وواضح أن صاحب العربة قصد فيها معنى العلم والتكنولوجيا فجاء بلفظ العولمة كإشتقاق من العلم في سعيه لتسويق عمله، خاصةً وأنها صيغة أقرب للمزحة كما تبدو كذلك "ماركة تجارية" تميزه في السوق.
والنظر في المكتوب على الركشة يضع المرء في حالة إنتقال دائم بين الذات والموضوع، فهو أكثر صعوبة في محاولة فهم المقصود فيه والمستهدف به مما يجعل من التجربة سياحة متصلة في ضروب من التفسير والتأويل والتخمين. فجملة "حَفيانْ في بَلدْ مَليانَه جِزَمْ" التي عرضنا لها سابقاً والتي لا بد قد إنتزعت إبتسامة عريضة من كل من لمحها في ظهر تلك الركشة قبل أن تتوارى في تجوالها، سرعان ما يتمحور مضمونها، في أول محاولة لإدراك معناها، في كلمة "جِزَمْ". وأن المستهدَف برسالتها كما يبدو كل صغير وكبير في هذا البلد. فهذه الجملة، منظوراً لها ضمن سياق معيّن يشمل سائق الركشة، سنّه ومستوى تعليمه وهيئته (والتي لحظها هذا الكاتب) والحيّز الزمني – وهو سنين الإنقاذ الأخيرة – غالباً ما تقود في نهاية التحليل إلى أمر واحد وهو فضح ورفض واقع الحال. فلفظة حفيان ترمز للحرمان ولفظة جِزَمْ ترمز للوفرة. لكن هذا الترميز وبهذه الشحنة العاطفية التي يبثها نسق العلاقة بين مفردات هذه الجملة يدفع بقوة إلى البحث عن سبب هذا التناقض البائن، وهذا ما يقود بسهولة وفي ضوء السياق الأشمل المشار إليه إلى المعنى الأبعد والمقصود في هذه الجملة وذلك بتحويل كلمة "جِزَمْ" من إسم إلى صفة وربط السبب من ثمّ بهؤلاء الحكام "الجِزَمْ"؛ وهي صفة تعني في الدارج من اللغة منتهى الوضاعة والتحلل من كل القيم النبيلة. وعموماً، يظل هذا التفسير لهذه الجملة ضمن العديد من المحاولات والتي لا بد قد إرتآها آخرون ممن وقعت أعينهم علي نصها، فهو، كما يُقال عادةً عن الأدب وأنواع الفنون، حمّال أوْجُه.
وهناك نصوص تبين بوضوح هوية سائق الركشة كطالب أو خريج جامعي، وتكشف ما تعانيه هذه الشريحة من الشباب، كما يبدو ذلك من إشارات محددة وتصريح مباشر في هذه النصوص. فهذا نص من كلمتين: "تحْلمْ حِلِمْ" هما مقطع من رائعة محجوب شريف "عَمّا قريبْ" يستصحبها هذا الطالب – أو الخريج – كدعامة دائمة للتفاؤل والأمل في إنفراج قريب. وهذا نص آخر بالإنجليزية: “keep the dream alive” ينصح به صاحبه في مخاطبة للذات أن تمَسّك بحُلمك حياً لا يفتر، وقد إتخذه شعاراً يلهمه الصمود في نضاله لتحقيق هدفه. لكن طالب آخر يعلنها على الملأ دون مواربة في هذه الجملة: "طالب مستقبلو جايِطْ" مكتوبة بخط إحترافي، وهي في أبسط وأقرب تفسير لها حكم بالإدانة لهذا المجتمع مع بيِّنة شاخصة أمام الجميع وهي تركه مقعد الدراسة وجلوسه على مقود هذه الركشة. وطالب آخر يتبع نفس أسلوب المفيد المختصر كما في "تحلمْ حلمْ" و"البِقَتْ بِقَتْ" فيختار كلمتين: "آخِر سِمِسْتَرْ". ربما كان سيتحدث الساعات الطوال أو سيملأ العديد من الصفحات إذا ما طُلب منه ذلك. لكنهما، على كل حال، كلمتين ربما قصد بهما مشروعه ومخططه الخاص أو ربما هما إنذار مغلّف لأسرته الصغيرة أو مُوجّه لهذا الفضاء الممتد من المجتمع ومنظومته التعليمية المضطربة.
إلى جانب هذه الأشكال والأساليب التي يتبعها سائقي الركشة في بث خطابهم يفضل بعضهم أسلوب الدعابة والتهكم فيدفعك إلى الضحك قبل أن يأخذك إلى التأمُّل. فقد كُتب بخط جميل في ظهر إحدى الركشات: "أبْ غُرّه أبْ كلمةً مُرّه". ويبدو أن سائقها قد جمعته تجربة قاسية مع أحدهم لكنه قصدها رسالة تتجاوز الخاص إلى العام وتشير إلى "نفاق" بعض أصحاب "الغُرَرْ" التي تتوسط جباههم. وهذه ركشة أخرى تتجول وفي خلفيتها كُتب: "النقراشي باشا". يمكن الإفتراض في هذه الحالة بأن سائق الركشة قد قرأ أو سمع في وقت ما بهذا الإسم. لكن لماذا يختار إسماً لسياسي غريب وبعيد في بطن التاريخ مقروناً بلقبه؟ ليس هناك من تفسير آخر غير عامل اللغة وهذه المشاركة في عدة حروف ومخارجها في تركيبة اللفظين "نقراشي" و"ركشة" الأمر الذي ألهم سائقاً هزلياً ساخراً خيار هذا التشبيه خاصة وهناك لقب "باشا" والذي يوظفه "كقيمة مضافة" إلى كيان الركشة، هذا إلى جانب إضافة أداة التعريف إلى نقراشى فيتم بذلك إستحواز الإسم واللقب وتصبح الركشة هي "النقراشي باشا". إنه طابع المزاح والذي هو من صميم ثقافة مجتمعاتنا ترطب به الأجواء في كل وقت. ومزحة أخرى كتبها سائق ساخر آخر: "دى بيبي"، وبيبي في الإنجليزية baby تعني طفلة صغيرة أي ركشته هذه والتي هي أحوج للإهتمام والرعاية. لكن دعابة أخرى جاءت في نص لركشة أخرى أكثر بلاغة وأبعد معنى: "تكبري تبقي ليْ برادو"؛ وهي وإن صدرت كدعابة لكنها في الواقع أوجزت كل ما يمكن أن يقال عن مجتمع غشته لحظة من التفاوت الطبقي الفاحش وعن زمن إختلّ فيه ميزان القيم فصار سافلها عاليها مع مجيء سلطة الحركة الإسلامية.
وأخيراً، ربما نرى ونقرأ بعض ما في أدب الركشة ما لا يعجب البعض، أو نسمع بعض ما يبثه مسجل الركشة من أغاني يرفضها البعض. لكن لنا في قولة مارتن لوثر كنج ما يشفع لهذا الجيل من سائقيها حين قال واصفاً ما يحدث من شغب وعنف أثناء مظاهرات وإحتجاجات السود في أمريكا: "الشغب هو صوت غير المسموعين".

abusabib51@gmail.com

 

آراء