من مقدمة مخطوطة لكتاب حوى مجموعة مقالات وخواطرعن الفنان حسين مامون شريف(1935-2005) جمَال مُحمّد ابراهـيْم
(1) بعد سنواته اللندنية الأربع، وتخرجه من كلية "ســليد" للفنون، عاد حســين شريف ، إلى الخرطوم في عام 1959 ، وعمل محاضراً بكلية الفنون الجميلة، وكانت آنذاك إحدى كليات معهد الخرطوم الفني. درّس حســــين طلبته مادة الرسم والتلوين. كتب راشد دياب ، نقلاّعن صحيفة لبنانية، وذلك حين أقام حسين معرضاً لأعماله في "جاليري ون" في بيروت: "إنك لا تجد في أعمال حســـين ورسوماته، أيّ شيءٍ مسبق، بل تجد العفوي ، يخرج دفقاً من روحه باتجاه المستقبل الذي يصعب أن تجد ما يماثله في الواقع المرئي". يقول دياب في كتابه بعنوان : " الفن التشكيلي في السوداني" ( 2012) : "إن أعماله غنية في التعبير والعطاء، وإن توغلنا في عوالم حســــين، لاكتشفنا حقيقة شاعريته وشاعرية مناوراته باللون والشكل. يغازل اللون الأحمر غزلاً صريحاً، ولكنه يتفاعل مع الأزرق بشاعرية وبساطة". يعدّه دياب رائداً أصيلاً من روّاد التجريد في حركة التشكيل السودانية المعاصرة.
(2) إن المتمعّن في أعمال حســين، سيجد روح الشاعر تطفر من موج فرشاته، وتمازج ألوانه وذوبانها الضبابي، فلا تبصر خطوطاً تتمدّد أفقياً أو رأسياً، بل يمنحك دفقاً متزاحماً ومتلاشياً في تكويناته المترعة بشاعرية باذخة. للرجل رسالة تخرج من أعماقٍ بعيدة ، لا مرجعية لها، إلا في روح الشاعر الذي يسكن وجدانه. لذلك لم يكن الرّسام في حقيقته العميقة، إلا شاعراً ينظم الشعر بفرشاته وبألوانه، ولكنه على ذات النحو، ينظم الشعر الجميل بقلمه الرشيق، وبلغته الإنجليزية الناصعة. تجد في بعض فصول هذا الكتاب، بعض ما ترجمتُ إلى العربية من شعر حســين شــريف، بلغته الإنجليزية الزاهية ، معتذراً عن قلة حيلتي في نقل روح خياله، أو هو خيال روحه، أيّهما قبلت.
(3) وسم القرن العشرين سنوات نصفه الأول، بحربين عالميتين أزهقت خلالهما أرواح الملايين، فإذا المستضعفون يبتدرون ولوجاً أكثر رحابة وأقدر جرأة، إلى سنوات النصف الثاني من القرن العشرين. تراجع الاستعمار عن القارة الأفريقية والآسيوية، وكسبت الشعوب حقوقها في الحرية والاستقلال واستعادة الكرامة . غير أن مشاريع التغيير، تظلّ على الدوام عرضة لطغيان سلاطين من نُخبٍ لم يكن بصرها باتساع مساحة الحلم ، فإذ الطغاة الكولونياليين، قد حلّ محلهم طغاة محليّون. ذلك حال أكثر بلدان القارة الأفريقية التي استقلت في السنوات الوسيطة من القرن العشرين. يحلّ في السودان حكم عسكري يدوم لسنوات ست ، من 1958 إلى 1964، ثمّ في انتفاضة السودانيين في 21 أكتوبر 1964 ، تشرق شمس الحرية من جديد . تلك السنوات شهدت نضوج قدرات حسين في الرسم والتلوين. بعد سنواته في تدريس تلكم المادتين في كلية الفنون الجميلة، بدا لحســين أن روحاً جديداً حلّ بالوطن، وأن قلق الرسالة التي سكنتْ وجدانه ، آن لها أن تخرج إلى ساحات أكثر براحاً لإبداع فكري مفتوح، ولاجتراحات تشكيلية عبقرية. عمل حسين في مرسمه على معالجة تعقيدات الهوية السودانية ، فتحولت عنده إلى ألوان تتمازج بين الأحمر والأزرق .
(4) إتسعت تجربة الفنان إلى أبعد من الفرشاة ، ولامس قلمه مساحات إبداع جديدة. بعونٍ من ابن خاله الصادق الصديق المهدي ، دلف حســـين إلى الدخول إلى تجربة في مجال النشر الفكري ، إختار لها عنوانا يشي ببشارات التغيير المنتظر، بعد الربيع السوداني في 21 أكتوبر 1964. أنشأ حســـين إصدارة شهرية ، باللغة الإنجليزية، سمّاها "واحد وعشرون" ، ذلك من وحي استلهامه ذلك الربيع . موسم ربيع أكتوبر السوداني كان هو "الثورة" الشعبية، التي انقشع بعدها ضباب الحكم العسكري ، واستبشر الوطن بأيامٍ حبلى بنعمى الحريات وبخيرات الإنفتاح، وبنقلةٍ مأمولةٍ نحو الديمقراطية والنماء. حفلت أعداد تلك الإصدارة القصيرة العمر، بأصوات أفريقية عالية النبرات لكتاب أفارقة ، قليل من السودانيين من سمعوا بهم أو عنهم. كانت التفاتة نحو القارة الأم تلاقت مع أصوات الغابة والصحراء ، في توصيف مبكر لمكوّنات الهوية السودانية.
(5) لكن لم تدم تجربة حسين في النشر القكري، سوى أشهر قليلة، إذ كانت بدايتها في يناير من عام 1965 ، ثم توقفت في يونيو من ذات العام . إني لأرجّح أنّ صدورها باللغة الإنجليزية ، أضعف فرص انتشارها في بيئة ثقافية عربية. لكنها تجربة لم تفتّ من عضد صاحب الرسالة. هو الفنان الذي يحمل بين جنبيه صيراً كصبر الأنبياء. ممّا في جيناتها، ومن روح أبيها، تنظم إيمان حسـين شريف، قصائد فيها من رِقة حســـين ومن خياله الشاعر الكثير. حدثت في قصيدة بديعة – وهي على ما درج حسين- تكتب بانجليزية رصينة، أبيات شعر مضيئة بحزنها ، وكأنها تنعي تجربة "واحد وعشرون" المُجهضة. . لعلك تجد يا قاريء العزيز، في ترجمتي لتلك القصيدة إلى العربية، ما يعيد إليك شفافية روح حســين، وقد شابهت روح كريمته الشاعرة، التي نظمت في 21 يناير عام 2014، بكائية عن إصدارة حسين "واحد وعشرون"، ولكنها كانت بكائية تستدر الدمع على فنان رحل قبل اكتمال رسالته : "واحدٌ وَعشرون"، رمزٌ لإنسانيةٍ، فيها تلتقي الفرادة بالرّوح، فمَا ذلك التضاد في شموله؟ إذ مع ذلك الرّقـم، بَرزتْ مَجلتك وفي حضنِها ثقافاتنا، بمُساهماتِ أقلامٍ في بَهاءِ العَظَمَة تبتدرَ وتُشاركَ سَــعدَها، بكتاباتٍ تنضح ثقافةً وَعبقريّة، يالهُ مِن مَشروعٍ سـابقٍ لزمـانِه، في شرْخِ طلعـهِ، لكنّه لمْ يـدُم طويـلاً، حينَ يكون حاصِلُ جمعِ واحدٍ وإثنين هو ثلاثة ! * * * "واحدٌ وعشرون" ، علامةٌ لكَ أنت، إذْ حينَ يقترب القـدَرُ، في ذالك اليومِ تنسدلَ السـتائرُ، خليطٌ بينَ الرّمادي والأسوَد، مزيجٌ مِن ضياعِ الأملِ وَمَحضِ ضَياع. .! في رحيلك المُباغت بكيناك، لألمٍ يلازمنا كالظلِّ، كما يلازم التوأم توأمه، كانَ ذلك في فصلِ الشتاءِ، حينَ يسّـاقط البردُ القارس، ومثلما رحلَ مشروعك ، كذا رحلتْ روحُك. .! * * * "واحدٌ وعشرون"، رقمٌ لإكمالِ الإجادة، فكلّ الفصولِ إلى رَحيلٍ وإلى تبدّل، خريفٌ وشتاء . . ربيعٌ وَصَيْف، هنالك في كلّ فصلٍ لألوانكَ التماع، شـاعرٌ ورسّـام: "سـلام إليكَ يا "مُخرجي الكبير"، لكَ التحايا كلّها، إذ انّ "واحداً وعشرين" تشكل هدية إلى روْحكَ، أملي أن تكون بداية جديدة لوطني، دمٌ جـديــدٌ، تتفتّح فيهِ ابتكاراتنا وإبداعنا في الفنـون!
"واحدٌ وعشرون"، أزمانٌ تجيء وتذهـب، كم سيزيد فرحُكَ، كم سيكبر كبرياؤك، نَـم هانئـاً، أيّها الحبيب، بالمشيئة ستمضي مسيرتكَ إلى غاياتها ، لمستقبل برّاق لشبابنا، وبتقديرٍكبيرٍ وبإعزازٍ لـكَ، أواه، إمضِ يا روحي الحييّة الجميـلة، يطلّ إبداعُك شامخاً هناك، يحتفي بإسمك أصدقاؤك وأقرباؤك بقلوبٍ كسيرة، كأنّها الوردُ يُطلقَ بتلاته، تَهُـبّ أنتَ في هـدوءٍ مِن كرسيّك أيّـها "المُخرج"، قطعة من التميُّزِ المُبـدِع. .!