دارفور …جدلية السلام والعدالة
خالد البلولة ازيرق
24 February, 2009
24 February, 2009
dolib33@hotmail.com
جدلية ظلت تسيطر على المشهد السياسي، ومخرجات الأزمة التى تعيشها دارفور منذ إندلاعها العام 2003م، فبعد إفرازات الصراع المسلح بين الحكومة والحركات المسلحة بدارفور، ظلت قضية تحقيق السلام والمصالحة السياسية بدارفور ترتبط بقدر كبير بموضوع تحقيق العدالة في الإقليم.
وظلت قضية تحقيق العدالة في اقليم دارفور مرتبطة بمسارات الحل السياسي في كل مراحل التفاوض التى جرت بين الحكومة والحركات المسلحة في دارفور في مواقعها المختلفة، وقد تباينت الرؤى ووجهات النظر بين مختلف مكونات المسرح السياسي السودانى حول تحقيق العدالة في الإقليم كمدخل حقيقي وسليم لمعالجة الأزمة الدارفورية والوصول لتسوية سياسية بين الأطراف المتصارعة في الإقليم.وقد اخذت قضية تحقيق العدالة في دارفور حيزاً كبيراً من إهتمامات القوي السياسية السودانية والمجتمع الدولى كذلك، وشكلت مسارا في محور الصراع في دارفور، فضلا عن أن الإهتمام بها قاد الى تصعيدها دولياً الى ان إنتهت الى المحكمة الجنائية الدولية التى اصدرت أمراً بالقبض على وزير الدولة بالشئون الإنسانية احمد هارون وعلى كوشيب القيادي بالدفاع الشعبي، وينظر قضاتها الآن في اصدار أمر بإيقاف السيد رئيس الجمهورية بتهمة جرائم تتعلق بالانسانية وجرائم حرب ارتكبت في دارفور.
إن جدلية السلام والعدالة شكلت متلازمة في جهود حل مشكلة دارفور، فهناك من يرى تحقيق السلام أولاً في الإقليم ومن ثم اقرار العدالة والمصالحة بين مكونات الإقليم، وهناك من يدعو الى تحقيق العدالة أولاً ومن ثم الشروع في عملية المصالحة والسلام، وقد قادت مسيرة تحقيق العدالة في الإقليم نتيجة للتجاوزات التى أرتكبت فيه إبان الصراع المسلح الذي اندلع في الإقليم منذ العام 2003 الى جملة من التجاوزات من أطراف الصراع قادت الى إحالته مؤخراً الى المحكمة الجنائية الدولية من قبل مجلس الأمن الدولى بموجب الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة في العام 2005م. وقد ظلت قضية تحقيق العدالة في دارفور ومحاسبة مرتكبي التجاوزات التى تمت في الإقليم إبان الصراع المسلح محوراً في كل جولات التفاوض التى عقدت بشأن إحداث السلام في دارفور، وظلت مطلباً لكل الفعاليات السياسية في السودان وكذلك مكونات المجتمع الدارفورى بمختلف أطيافه التى مستها تلك التجاوزات من كل اطراف الصراع المسلح في الاقليم.
وقد قادت تلك التجاوزات الى تشكيل لجنة التحقيق الوطنية التى شكلتها الحكومة برئاسة مولانا دفع الله الحاج يوسف، تلك اللجنة التى خلصت في تقريرها النهائي الى وجود انتهاكات حدثت تستوجب المساءلة، وقد كان تقرير اللجنة الوطنية هو الاساس الذي اعتمدت عليه لجنة الأمم المتحدة برئاسة «كاسيانو» التى شكلت من قبل الامم المتحدة لذات الغرض «البحث في الإنتهاكات الانسانية والجرائم التى حدثت اثناء الحرب» وهو التقرير الذي قاد الى دفع مجلس الأمن الدولى الى احالة القضية الى المحكمة الجنائية الدولية بعد أن أثبتت وجود انتهاكات حدثت اثناء الحرب في الفترة بين عامى «2003- 2005».
وقد تباينت مواقف القوى السياسية الوطنية حول تحقيق السلام والعدالة، ما بين داعٍ لتحقيق السلام اولاً ووقف الاقتتال في الاقليم ومن ثم تحقيق العدالة والمساواة ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب، وبين من يدعو لتحقيق العدالة أولاً ومن ثم تحقيق السلام والمصالحة بإعتبارها المدخل السيلم لحل الازمة. وكان ملتقى أهل السودان الذي انعقد بمبادرة من السيد رئيس الجمهورية قد خلص الى ضرورة اجراء المصالحات الداخلية بعيداً عن التدخلات الدولية في الشأن الداخلى لتحقيق السلام في السودان، كمدخل لإستعادة ملف دارفور من الخارج بعد أن اختطفته القوى الدولية وهو موقف يمثل رؤية أغلبية القوى السياسية السودانية التى تري بضرورة تحقيق العدالة وتوطينها من الداخل فيما يتعلق بقضية التجاوزات التى ارتكبت في دارفور. وكان الحزب الاتحادى الديمقراطي من أوائل الاحزاب التى دعت الى ضرورة تحقيق العدالة بالداخل ورفض أى تحقيقي لهذه العدالة عبر الآليات الدولية خاصة عبر المحكمة الجنائية الدولية وهو موقف الحزب الذي عبر عنه مؤخراً مولانا محمد عثمان الميرغني بقوله «لن نسلمهم ولن نخزلهم» في اشارة لمن تتطالب بهم المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمتهم في احداث دارفور، ولكن القيادي بالحزب الإتحادى الديمقراطي الدكتور على السيد قال لـ»الصحافة» ان العدالة والسلام متلازمتان ولكن لإستمرار هذا التلازم فالعدل أولاً وهو اساس الحكم، واضاف «في دارفور السلام لن يتحقق الا اذا توفرت العدالة، والعدالة هنا ليست بمعناها القضائي فقط انما الحقوق والواجبات ورفع الظلم، التى على ضؤها يتم السلام، لأن الازمة في دارفور بحسب السيد ليست ازمة متعلقة بالسياسات وإنما بالظلم الاجتماعى الذي يؤدي الى الحروب التى تنشأ من عدم العدل لذا فهو الاساس، وبعد ذلك يبني عليه السلام، ليأتى العدل القضائي بعد العدل الاجتماعى، معزياً فشل محاولات إقامة السلام الى الاحساس بعد العدل، وقال من الناحية القضائية ينبغي ان تكون هناك محاكمات عادلة لمرتكبي هذه الجرائم لنتجاوز بها المحاكمات الدولية، وهذا يتطلب العدل القضائي، وقال «لنستعيد السلام في دارفور لابد من رفع الغبن وتحقيق بنية العدل، لأن عدم تحقيق ذلك العدل هو ما أدى لفشل اتفاقية أبوجا، والحكومة مازالت تسلك نفس الطريق الآن في الدوحة، لتكون محصلته النهائية هى نهاية خليل ليظهر خليل آخر». فيما يذهب حزب المؤتمر الشعبي في رؤيته لهذه المتلازمة الى موافقة ما يجري في المحكمة الجنائية الدولية لتحقيق العدالة لتجاوزات التى ارتكبت في دارفور لحيادية تلك المؤسسات. وهو رأى يتفق مع معظم آراء التى تطلقها الحركات الدارفورية المسلحة الداعية الى ضرورة تحقيق العدالة ومحاسبة مرتكبي التجاوزات أولاً قبل البحث في مشاريع السلام، وهو الموقف الذي تتمترس حوله بشدة حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، وكانت حركة العدل والمساواة بقيادة د.خليل ابراهيم قد اشارت في كلمتها الافتتاحية في مفاوضات الدوحة الى ضرورة تحقيق العدالة والمساواة ومحاسبة مرتكبي التجاوزات في دارفور لمعالجة القضية، بل ذهب رئيسها خليل ابراهيم الى الحديث ان حركته هى من دفعت بقضية دارفور الى محكمة الجنايات الدولية لتحقيق العدالة في الاقليم.
أما حزب الأمة القومى بزعامة الصادق المهدى فقد ظل حريصاً طيلة إندلاع الأزمة على تحقيق العدالة والمساواة في دارفور، وإن تباينت رؤيته لتحقيق تلك العدالة من مرحلة لأخري، فقد ظل السيد الصادق المهدى زعيم الحزب يدعو مؤخراً الى تقديم المتهمين في تجاوزات أحداث دارفور الى محاكمات داخليه مشتركة لتجنب المحاكمات الدولية عبر المحكمة الجنائية الدولية التى اصدرت امراً بالقبض على وزير الدولة للشئون الانسانية احمد هارون وعلى كوشيب القيادي بالدفاع الشعبي لأعتبار أن تحقيق العدالة عبر محكمة الجنايات الدولية يؤدي لخلق افرازات ستعقد القضية أكثر وستقوض جهود احلال السلام حسب رؤية الحزب مؤخراً، ولكن موقف حزب الأمة الذي يعبر عنه زعيمه الصادق المهدى اليوم عكس موقف الحزب عند بداية تحويل قضية المحاكمات الى المحكمة الجنائية الدولية، فقد دعت وثيقة لحزب الأمة أعدتها لجنة سرية من قانونيين يتبعون لحزب الأمة الذي يتزعمه الصادق المهدي في ابريل 2005م، دعت لدعم التحالف الدولي الذي تقوده فرنسا وبريطانيا ودول أوروبية اخرى بمحاكمة المسؤولين المتهمين بارتكاب جرائم حرب في دارفور أمام المحكمة الجنائية الدولية، وقالت الوثيقة التي أجازتها أجهزة حزب الأمة السياسية والتنفيذية، إن إحالة ملف المتهمين للمحكمة الجنائية يعد إنصافاً للضحايا، وبررت تأييدها قرار مجلس الأمن بأن فرص المحاكمة الوطنية العادلة داخل السودان ضئيلة وتكاد تتلاشى لعدم وجود قضاء مستقل ومحايد، وقالت الوثيقة التي حملت عنوان «الرأي حول محاكمة المشتبه فيهم بموجب توصيات لجنة الحقائق الدولية حول أحداث دارفور وفق القرار الدولي»، ان السودان الآن تحت الوصاية الدولية بموجب الفصلين السادس والسابع من ميثاق الأمم المتحدة بموجب القرارات الدولية 1556 و1564 و1574 لسنة 2004.
وقد اصبحت متلازمة السلام والعدل سمة في كل المشروعات المطروحة في النظام الدولى القائم لتأكيد السلم والأمن الدوليين كجزء من ميثاق الأمم المتحدة، تتحقق على أساس عالم تسوده العدالة والمساواة بين الدول الأعضاء في الامم المتحدة وكذلك النظم الداخلية لمجموعة الدول المشكلة للأمم المتحدة، فيما يطرح موضوع العدالة دائما لتعبير عن تداعيات داخلية حدث فيها نوع من التجاوزات للقانون الدولى الانساني، وفي هذا الإطار أى مشروع للسلام لابد أن يراعي هذا البعد، أما تدابير العدالة فهي ذات شقين عدالة يفرضها المجتمع الدولى من خلال مؤسساته مثل «محكمة العدل الدولية، ومحكمة الجنايات الدولية»، أو عدالة انتقالية وهى مجموعة تدابير تقوم على مبدأ الحقيقة والمصالحة، مثال العدالة عبر المؤسسات الدولية هو ما تحقق في تسوية أزمة كوسوفو حيث وقعت اتفاقية دايتون بترتيبات واسعه، أعادة صياغة الدول التى كانت تشكل يوغسلافية القديمه وفي هذا الإطار تمت معالجة قضية السلم، ولكن العدالة تمت من خلال محاكم جنائية خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب، لأن ليس هناك فرصة لتحقيق مبدأ العدالة والمصالحه لتباين بين أطراف الصراع الذي كان على اساس «عرقي ديني»، والنموذج الثاني لهذه العدالة كان هو ما جرى في رواندا بعد الحرب الاهلية التى شهدتها منتصف التسعينيات. فيما شكل النموذج الجنوب أفريقي المثال الأكثر وضوحاً في تحقيق العدالة الإنتقالية بعد أن تم اقرار السلم، لكن المجتمع تجاوز قضية العدالة الجنائية بمبدأ الحقيقة والمصالحه بالتالي لم تحتاج لتكوين محاكم جزاء، لكن في كلا الحالتين كان الموضوع الأساسي هو تحقيق السلم والاستقرار، فيما تضاف اتفاقية السلام الشامل «نيفاشا» الى هذا النموزج لأنها تجاوزت تماماً أى موضوع عن العدالة وإعتمدت مبدأ «عفا الله عما سلف» لذا عدت من أرقي الاتفاقيات التى عقدت، وقد ذهب الاستاذ أمين بناني رئيس حزب العدالة في حديثه لـ»الصحافه» الى أن الأولوية في هذه المتلازمة يجب أن تكون لسلام بإعتباره القضية الاساسية وذات الأولوية في أى مشروع، وقال فيما يتعلق بموضوع دارفور فإن كل المؤتمرات التى عقدت بالداخل كانت توصياتها تجاوز مسألة العدالة الجنائية الى اقرار مبدأ الحقيقة والمصالحة والأخذ بنموذج دولة جنوب أفريقيا في هذا الإطار، وقال إن كل المؤتمرات التى عقدت بالمانيا لمناقشة دعت لتحقيق السلم والاستقرار ولبناء مجتمع دارفور أن يقر مبدأ الحقيقة والمصالحة والأخذ بمبدأ جنوب افريقيا، واضاف بناني «لكن بعض الحركات دفعت بالموضوع الى محكمة الجنايات الدولية وهذا خطأ لأن تقديم اى جهة في هذا الصراع أو تقديم اى رموز من الادارات في دارفور لمحاكمات هذا سيؤدي الى فتنة قوميه وحرب أهلية وبالتالي تخريب موضوع السلام، لذا لابد أن يكون الهم هو التركيز على مشروع سلام يحقق مطالب اهل دارفور والمحاكمات الدولية ليست من مطالب اهل دارفور».
وكان الحزب الشيوعي السوداني قد طرح رؤيته لحل الأزمة في دارفور من خلال تحقيق العدالة في الإقليم بين طوائفه المختلفه كمدخل حقيقي يؤمن السلام والمصالحه في الإقليم عبر عدالة إنتقاليه وذلك من خلال كلمة السكرتير العام للحزب الشيوعي الأستاذ محمد ابراهيم نقد التى قدمها في إفتتاح المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي في الربع والعشرين من يناير الماضي بقاعة الصداقة حيث قال فيها «يجب أن يتصدى الشعب لمهامه المصيرية لوقف نزيف الدم بدارفور والإستجابة لمطالبهم العادلة، بعودة اللاجئين لقراهم الاصلية وإبعاد الذين تم استجلابهم من مناطق أخري، وقال لابد من شكل وطنى للعدالة في دارفور، وهى العدالة الإنتقالية بإتفاق وتواضع الاطراف للوصول لتفاهم لحل المشاكل سلمياً، بطلب العفو للجانى من المجنى عليه، وأضاف ساخراً هذه لا تحتاج لعبقرية».
كانت الحكومة السودانية التى ترفض دوماً تقديم اى من مرتكبي جرائم حرب أو انتهاكات في دارفور الى المحكمة الجنائية الدولية التى تنظر في القضية بعد تحويلها لها من مجلس الامن الدولى بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وتشير الخرطوم في ذلك الى أن قضائها مستقل وقادر على محاكمة أى شخص ارتكب جرماً في دارفور أو غيرها، وقد سبقت وشكلت لجنة تحقيق وطنية برئاسة رئيس القضاء الأسبق دفع الله الحاج يوسف، فيما خطت مؤخراً بعد تداعيات المحكمة الجنائية الدولية الى تعين مدعى عام لجرائم دارفور «مولانا آدم نمر» وكانت قد أعلنت في وقت سابق أنها قامت بإجراءات محاكمات لعدد من مرتكبي جرائم في دارفور، وكان الدكتور مصطفي عثمان اسماعيل قد ذهب في سلسلة مقالاته التى نشرته صحيفة الشرق الاوسط «2007» تحت عنوان «كيف ترى الخرطوم ازمة دارفور» الى التأكيد على أن لا أحد فوق القانون مهما كان موقع ذلك الشخص، واصفاً تحويل ملف دارفور الى المحكمة الجنائية الدولية بأنه مؤامرة سياسية وليس خطوة قانونية».
وتذهب معظم الدول المساندة للخرطوم في موقفها من المحكمة الجنائية الدولية خاصة المجموعة العربية والافريقية الى ضرورة اعطاء الأولوية للسلام أولاً ومن ثم التوطين العدالة من الداخل حتى لا تقود افرازات المحاكمات الدولية الى تقويض الجهود الدولية والاقليمية لتحقيق السلام والاستقرار في السودان. ومن اكثر الدول التى تساند هذه الرؤية لتحقيق العدالة في دارفور هى الصين التى تذهب في ذات الإتجاه وقد عبر عن موقفها مندوب الصين وانغ غوانغيا الذي قال في كلمته بعد أن امتنع وفد الصين عن التصويت على غرار إحالة ملف دارفور للمحكمة الجنائية الدولية العام 2005م قال «أن موقف الصين هو دعم الجهود المبذولة من أجل تسوية سياسية لمسألة دارفور من خلال المفاوضات، وفي نفس الوقت وأسوة ببقية أعضاء المجتمع الدولي نشجب بشدة الانتهاكات الخطيرة للقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان في دارفور. وما من شك في أن مرتكبي هذه الانتهاكات يجب أن تتم إحالتهم إلى العدالة. والسؤال المطروح الآن: ما هو النهج الأكثر فعالية وعملية في هذا المجال؟ نعتقد أنه لدى التصدي لمسألة الإفلات من العقاب، وعندما نسعى لضمان إحقاق العدالة، من الضروري أيضا بذل كل جهد ممكن لتجنب الآثار السلبية التي قد تترتب على المفاوضات في دارفور. ومن الضروري لدى معاقبة مرتكبي الانتهاكات الحرص على تعزيز المصالحة الوطنية، نفضل أن نرى مرتكبي الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان يمثلون للمحاكمة أمام النظام القضائي السوداني، ولضمان عدالة المحاكمات وشفافيتها ومصداقيتها يمكن للمجتمع الدولي أن يقدم المساعدة التقنية الملائمة وأن يوفر الرصيد اللازم.