دراسة نقدية : مشفوعة بقصة قصيرة
عمر الحويج
27 June, 2024
27 June, 2024
بقلم / عمر الحويج
الدراسة النقدية : قدمها الكاتب والناقد الأستاذ / عامر محمد أحمد حسين
ليلة تدشين مجموعتي القصصية ( إليكم أعود وفي كفي القمر ) برفقة د/عزالدين ميرغني وبروف / مهدي بشرى ، أدار المنصة / الروائي الأستاذ/ منصور الصويم ، وآخرون متداخلون ، وكان حاضراً ومتداخلاً صديقي الراحل الشاعر الفخم / عبدالله شابو له الرحمة .
قالوا لنا في ستينيتنا 5×12 تساوي ستين ، وعندما كبرنا قليلاً ستين ودتنا في داهية ، وقال عمي الشاعر الراحل محمود حسين خضر في إحدى ستين هواها يحرق الراكوبة - ستين ذي سنة ستة الزمان بحكوها ، وأقول الآن في جلستنا هذه ( ستين هواها مدهشاً وعليلاً ) ، وبإعادة الذاكرة فإن المرحلة الستينية ، قد حركت راكد العالم سياسباً ، ثقافياً ، فكرياً ، وأقامت مداميك من الوعي المبكر بحاجة الإنسانية للحوار ، وشهدت بداية تطلعات الدولة الوطنية ، ونهاية أحلام قادة التحرير والتعمير ، (ولسان حال الأمة آدابها ) وكان لسان شعب السودان طويلاً ، جميلاً ، ومباشراً ، وإن كان يعاني من حرارة في الأطراف ، وسخونة في إرتياد جبال الوعي الكامل .
هذه الفترة تمثل -من دون شك-مرحلة الوعي المبكر بقضايا الحرية والتنمية . ثم (جزى الله الكان السبب مستعمر أو منقلب) .
قراءة عمر الحويج تبدأ من المرحلة الستينية ، حتى التسعينية ، بتعدد الشكل والمضمون واحد ، تتبائن الرؤى ؛ وبإعادة قراءة الكتابة تجد الفكرة واحدة ، قسمته إلى جيلين كتابيين ، واحدة تبدأ حكاياه بتأويل النص "وتقويله" "والقوالة" فتنة في ثقافة السودان القديم ؛ من مرحلة الزجاجة يوليو1973م ، وإلى الجرعة ؛
ملعونون أيها النقاد والقراء أيضاً .
الجرعة الثانية :
رغم الإغراءات الوافرة في حل مشكلتي نهائياً أو تجميدها على أقل تقدير لمدة ستة أيام بفعل الحلم المسحوب على شرف التذكرة الرابحة ، إلا أنني لم أفكر لحظة واحدة في ممارسة لعبة التوتو كورة .
الجرعة الثالثة :
ثم ماذا بعد أن تنتهي الزجاجة .
حتى الجرعة الثانية والعشرون ، يبدو أننا في هذه المرة تحاورنا بوسائل أكثر همجية فقد تحطمت الزجاجة
إنتبهو إنني الآن أتقيأ ؛ أتقيأ .
هذا النص سكب فيه الحلم داخل زجاجة ، والزجاجة في عنقها ، أو في عنق الزجاجة وطن " نسيت أن أتمنى لحبيبتي شئياً ، سوف أترككم تتمنون لها بدلاً عني " . هذه المأساة الملهاة ، التي بدأت بلعن النقاد والقراء ، تمثل في اعتقادي بدايات التخثر ، وموت الأحلام وامتزاج الرؤية بالروى ، دليل على اكتمال الملهاة والخطاب السردي ؛ في نهاياته انتبهوا والقئ ، بشارة بوجود جوف فارغ لا يحتاج أحلام ، ولا زجاجة أوهام ؛ بل يحتاج لإيقاظ الطفل ؛ اضطررت لإيقاظه ذلك الطفل لأدخل معه في حوار من جديد ، الطفل يمثل الحضارة ، والبراءة والذاكرة الحية ، ويعطي إشارة بأن كل هذا العنف الداخلي ؛ تهدهده نظرة إلى المستقبل المشرق" فإلى الحوار علنا نصل إلى وفاق" .
الجرعة الثانية عشر " حبيبتي تجعلني الآن في حلمها أنام فوق حضنها ، لو تعرف أين أنا الآن لأنتحر ذلك الحلم بداخلها .
نص الكربة 1969 - القطار الثاني .
القطار الثاني 1964 "أنظروا مليكنا عريان خريف بلا مطر دائماً هكذا لا غيوم تحجب أشعة الشمس .
وكل من سافر شمالاً أو شرقاً أو غرباً بالقطار تقابله من هذه الصورة المتقابلة وكل صورة تهدي لأخرى ، حتى تكتمل لوحة أعطونا نأكل - ولا أحد يسمعهم ، إختفى القطار ودوره ، وتم وأد دورانه ، وإعادة تشكيل الرحلة حضارياً ، اختفى القطار حتى تختفي الظواهر السالبة ؛ التي يمثلها جري الصغار " وتنطيط الكبار " بيض وترمس وطواقي " ابتعدوا كثيراً .
لقد إخترت من نصوص الأستاذ القاص عمر الحويج في فترته الستينية - الزجاجة والقطار الثاني - لإرتباط بين الرسم ، الذي أبدعه خطاباً ، بعيداً عن لوازم الشكل القصصي ، وتتبعه للأثر في مرحلته ، بإتخاذه الرمز والقص ، والإبدال " لغة" والإحلال سرداً لقراءة واقع المجتمع وتحولاته ، وأحلامه الموؤودة ورؤاه المولودة ، على يد داية غير قانونية - إسمها الشمولية .
أما فترته التسعينية - جيلي أنا - الذي " لا هزم المحال ولا حيهزمه ولاداير يهزمه-لأن هزيمة المحال تمثل عبث "ذكوري" ، حتى لا تزعل منا " الجندريات ، والعبث قد ينتقي له"طاقية" إخفاء وهنا يأتي لومنا لأهل الستينات ولكن ما"في داعي" نقول هم مافي -موجودون-سالمون- تامون- .
أعود إلى الحويج التسعيني الذي سأقراه بزاوية نظر أخرى ، تترك خلفها الخطاب القديم ، وتدلف إلى الخطاب القصصي التسعيني ، بلا شك حافظ "القاص" على رؤيته ورؤاه ورويه" وإرسال ميلاً غير مبرر البتة ولا "حبة"بقول "حبوباتنا " في شعرنة "القصة" وقصقصة الشعر " الشعر" الشعر يا إخوتي ضفائره طويلة وناعمة ولطيفة وهواء القصة لا يبعثرها ، بل يجعلها متماسكة ، فلماذا تضيفوا لعمر الشعر عمر ثان ، دعوه - يحترق- ثم يعود ، والإعادة بعيداً عن خزلان قصيدة النثر لشاعرها وشاعريتها .
(رحلة عبد الشافي الأخيرة إلى الداخل ؛ مايو 1995م )
" كان ذلك يوم احتجبت الشمس "
"كان ذلك يوم هبت تلك العاصفة الهوجاء "
" كان ذلك يوم الكارثة الكبرى"
"كان ذلك يوم غرقت مركب عبد الشافي"
على الرغم من هذه الصور متباعدة إلا أنني أتيت بها متتابعة حتى أدلك على أنه يمكن تحويل هذا النص إلى نص شعري نثري ، ينشر في السوق ولا أحد يعرف خبره .
وبقية النصوص " الجماجم التي صارت في واحد"مارس 1995م وهي في حالتها القصصية بعيداً عن الإنفعال الشعري في مقاربة تأتي مع نص "الشماسة يموتون للمرة الأخيرة " للبروفيسور محمد المهدي بشرى ؛ انفعال ستيني بحادثة تحدث كل يوم في مدن العالم ، أبناء الشمس وسلسيون الأوطان ؛ وخمة نفس البنزين ؛ نخبة وتجار سوق وحكام .
لا زلت "في انتظار الليلة المقمرة ، فأنا أبداً لا أخرج في الليلة الظلام" .
وأنا أيضاً لا أحب الشتاء الشديد ، ولا رطوبة النجيلة - خرجت من أجل إحتفاء بقاص مبدعاً ستيني - تسعيني - اسمه "عمر الحويج" نرجو أن يعود الينا وفي كفه بقية سرد الغربة ، كي يضيف للمكتبة القصصية ، تاريخاً مسروداً برؤية ثاقبة لمجتمعه قديماً وحديثاً .
" إنتهى" ***
وقصة قصيرة "الزجاجة"
بقلم : عمر الحويج
يوليو 1973 م
الجرعة الأولى:
ملعونون... أيها النقاد -والقراء أيضاً- النائمون, الحالمون, الآن مع عشيقاتكم ورفيقاتكم وصديقاتكم... وعيون حبيباتكم. إذا التفَتُّم إلى ضعف التكنيك في هذه القصة... فقد كُتِبَت أثناء سريان أحداثها... وساعتها لم تكونوا معي... معنا.
الجرعة الثانية:
رغم الإغراءات الوافرة في حَلّ مشكلتي نهائياً أو تجميدها على أقل تقدير، لمدة ستة أيامٍ بفعل الحلم المسحوب على شرف التذكرة الرابحة، إلا أنني لم أفكر لحظة واحدة في ممارسة لعبة (التوتو كورة)...ولنفس الأسباب؛ والتي لم أذكرها بعد، لم أحاول يوماً الاعتماد على قوى خارجة عني، بما فيها بركة جدي الشيخ حامد اب عصاةً سيف في حلّ مسائلي المعلقة... إلا أنني قبل ساعة فقط من الآن حدثت لي حالة، تمنيت فيها من سائق بص -تصوروا- ليست التذكرة الرابحة ولا القوى الخارجة عني -بما فيها جدي سالف الذكر- أن يخرجني من هذا المأزق الذي أوقعتني فيه الظروف، والتي لن أذكرها -ربما نكاية بكم- مما اضطرني لشتم ذلك الجد الذي لم يجعلني وارثاً لعصاته العظيمة تلك -حسب ما روي لي عنها من بطولات- لإضافة بطولة جديدة لها. بالضرب المبرح بها، على قفا وظهر وبطن ذلك السائق، الذي تفادى كل العوائق في سبيل تأمين وصولي سالماً إلى هذا المكان... غير السالم.
الجرعة الثالثة:
(ثم ماذا بعد أن تنتهي الزجاجة).
مع نفسي أتحادث فلا تحاولوا أن تحشروا أنوفكم في ما لا يعنيكم.
الجرعة الرابعة:
هنا مرت بي خاطرة إنقاذ تشبثت بها.. تلك القطة التي كانت تتشمم حولي قبل دقائق.
برغم فشلها في الخروج مني بغنيمة، إلا أنني شعرت أنها عقدت معي صداقة، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، فقد خيل لي، أنها تدعوني... مما جعلني أزحف نحوها وفي نيتي صادقاً تلبية الدعوة الكريمة.. ولكن ها أنتم ترونني قابعاً في ركني حزيناً عليها -أعني القطة لا الدعوة- فقد دهسها سائق بص -عندي الرغبة في الحديث عنه في جرعة قادمة فترقبوها- أما القطة، لها الحزن، فقد حملت رأسها على كتفيها في سبيلنا... لها الرحمة و... وإنما الأعمال بالنيات...ولها الشكر.
الجرعة الخامسة:
الطفل.. إنه يعود.. إنه يمشي.. إنه يجلس.. إنه يقف.. إنه ينظر.. إنه.. إنه..
الجرعة السادسة:
إنه نفس السائق في قصتي -دائرة الضوء البيضاء- لو تذكرونها.. لا تؤاخذوني إذا افترضتُ فيكم حسن النية في متابعة أعمالي... في تلك القصة على ما أذكر سائق البص -يتحدث، ولكن ليس كالآخرين- نفس الشيء يفعله هذا السائق ال...ال...ال.
الجرعة السابعة:
هذا المذيع، ذو النبرات الجوفاء.. إنه يحوم بصوته اللزج حول طبلة أذني منذ الجرعة الثانية.. يعلن أنه سوف يسافر بنا من أثينا إلى لندن... إلى نيويورك.. إلى كوبنهاجن.. إلى.. إلى..
الجرعة الثامنة:
تركني هذا المذيع الجلف بدعوى أنني لم أستخرج جواز سفر مثل الآخرين.. طُظ!!.
الجرعة التاسعة:
آه.. ولكني لست وحدي، معي ذلك الطفل، الذي يمشي.. الذي يقف.. الذي يجلس.. الذي ينظر.. الذي لم يستخرج أيضاً جواز سفر.. طظ.
الجرعة العاشرة:
(ثم ماذا بعد أن تنتهي الزجاجة).
مع الطفل أتحادث فلا تحشروا أنوفكم في ما لا يعنيكم.
الجرعة الحادية عشر:
إنه يمشي.... .... .... ... إنه يعود.... .... .. إنه ينتظر.... ... إنه يقف.... .... .. إنه يريدها أن تنتهي.
الجرعة الثانية عشر:
حبيبتي تجعلني الآن في حلمها، أنام فوق حضنها... لو تعرف أين أنا الآن... لانتحر ذلك الحلم بداخلها.
الجرعة الثالثة عشر:
شروع الحلم في الانتحار لستُ مسؤولاً عنه أنا ولا حتى حبيبتي.. فماذا تريد يا هذا؟؟.
... ولكنه حين وصلني عرفت أنه لم يكن قد أتى بهذا الخصوص...فقد أخبرني -رجل البوليس هذا- أن الجلوس في هذا الوقت، وفي هذا المكان، ومع هذه الزجاجة، ليس لائقاً بشخص محترم مثلي.. فلأذهب بها إلي حيث -الأمكنة المحترمة- وهي كثيرة جداً، لو سمحت.. أضافها إلى حديثه، تصورا أنه كان جد مهذب.. لم أصدق نفسي.. ليس لأن رجل البوليس كان مهذباً معي، وإنما للطفل.. إنه يبكي.
الجرعة الرابعة عشر:
تعارفنا منذ الجرعة الأولى، ولذلك يمكن لنا أن ندخل في حوار مع بعضنا البعض.. ويمكن لكم أن تعتبروها فترة استراحة -كما يحدث في السينما والمسرح- ولتذهبوا أثناءها لتفتحوا بلاغاً ضدي عند رجال الأمن... أو... فلتأخذوا ساندوتشاً من لحم الخنزير، إذا كنتم من ذوي الآراء الحادة في المسائل الدينية.
الجرعة الخامسة عشر:
الحوار:
أنا: لا أريد لها أن تنتهي.
هو: أريدها أن تنتهي.
أنا: لا أريدها أن تنتهي.
هو: أريدها أن تنتهي.
الجرعة السادسة عشر:
يبكي..
الجرعة السابعة عشر:
أضحك..
الجرعة الثامنة عشر:
عودوا الآن من حيث كانت استراحتكم.. بشرط أن لا تكونوا قد فتحتم ضدي بلاغاً تحت مادة السكر البين أو أية مواد أخرى مشابهة.. ولأثبت لكم أنني لست واقعاً تحت طائلة أي منها سوف أسرد عليكم بعض الحقائق عني بترتيبها الأبجدي:
أ.ولدت في الزمن الذي كانوا ينتزعون فيه الطفل من رحم أمه المعلقة على الحبل.. لذلك تجدون صبري طويلاً جداً في تحمل الكثير من سخافتكم.
ب.مشيت بخطواتي على الأرض بعدد الحصى الذي فوق سطحها.
ج. توقفت الآن عن المشي، لأن الحصي الذي تحسب به خطواتي قد انتهي. ولحين استيراد بعض الحصي من مناطق أخرى غير الأرض، سوف أظل جالساً في مكاني هذا ومتمنياً:
لسائق البص، دوام الصحة والعافية.
ولتوتو كورة، أن لا ينقصنا سوى سحبها الرابح.
وللمذيع وصوته وركابه، العود الأحمد.
و.. للزجاجة أن لا تنتهي. أما الطفل فسوف أجعله يضحك الآن: سوف أجعله، يبكي الآن.. لن أقول لكم كيف... ولكنه حتماً سوف يضحك.. حتما سوف يبكي.
الجرعة التاسعة عشر:
أضحك...أنا. يبكي.. هو.
يضحك...هو. أبكى.. أنا.
نحن نضحك.. معاً. نحن نبكى.. معاً.
الجرعة العشرون:
نسيت أن أتمنى لحبيبتي شيئاً.. سوف أترككم تتمنون لها بدلاً عني... فأمنياتي أنا لا تتحقق أبداً... وإلا كانت تحققت أمنيتي مع سائق البص الذي أصر -كعادته منذ قصتي آنفة الذكر- أن يصل بي إلى هذا المكان الآمن، خوفاً عليّ من العواقب الوخيمة.. كما قال.
الجرعة الحادية والعشرون:
اضطررت لإيقاظه.. ذلك الطفل.. لأدخل معه في حوار من جديد حول الزجاجة، التي يريدها فارغة لأسباب لم يذكرها لي صراحة ولا ضمناً، لذلك تجنبت إدراجها هنا... والتي أريدها ملأي لأسباب لم أذكرها لنفسي، وبالتالي لن أدرجها هنا أيضاً.. فإلي الحوار علّنا نصل إلى وفاق مُرْضٍ للجانبين:
أنا: لا أريد لها أن تنتهي.
هو: أريدها أن تنتهي.
أنا لا أريد لها أن تنتهي.
هو: أريدها أن تنتهي.
الجرعة الثانية والعشرون:
يبدو أننا في هذه المرة تحاورنا بوسائل أكثر همجية، فقد تحطمت الزجاجة.
انتبهوا... إنني الآن.
أتقيأ... أتقيأ ..
"إنتهت"
omeralhiwaig441@gmail.com
الدراسة النقدية : قدمها الكاتب والناقد الأستاذ / عامر محمد أحمد حسين
ليلة تدشين مجموعتي القصصية ( إليكم أعود وفي كفي القمر ) برفقة د/عزالدين ميرغني وبروف / مهدي بشرى ، أدار المنصة / الروائي الأستاذ/ منصور الصويم ، وآخرون متداخلون ، وكان حاضراً ومتداخلاً صديقي الراحل الشاعر الفخم / عبدالله شابو له الرحمة .
قالوا لنا في ستينيتنا 5×12 تساوي ستين ، وعندما كبرنا قليلاً ستين ودتنا في داهية ، وقال عمي الشاعر الراحل محمود حسين خضر في إحدى ستين هواها يحرق الراكوبة - ستين ذي سنة ستة الزمان بحكوها ، وأقول الآن في جلستنا هذه ( ستين هواها مدهشاً وعليلاً ) ، وبإعادة الذاكرة فإن المرحلة الستينية ، قد حركت راكد العالم سياسباً ، ثقافياً ، فكرياً ، وأقامت مداميك من الوعي المبكر بحاجة الإنسانية للحوار ، وشهدت بداية تطلعات الدولة الوطنية ، ونهاية أحلام قادة التحرير والتعمير ، (ولسان حال الأمة آدابها ) وكان لسان شعب السودان طويلاً ، جميلاً ، ومباشراً ، وإن كان يعاني من حرارة في الأطراف ، وسخونة في إرتياد جبال الوعي الكامل .
هذه الفترة تمثل -من دون شك-مرحلة الوعي المبكر بقضايا الحرية والتنمية . ثم (جزى الله الكان السبب مستعمر أو منقلب) .
قراءة عمر الحويج تبدأ من المرحلة الستينية ، حتى التسعينية ، بتعدد الشكل والمضمون واحد ، تتبائن الرؤى ؛ وبإعادة قراءة الكتابة تجد الفكرة واحدة ، قسمته إلى جيلين كتابيين ، واحدة تبدأ حكاياه بتأويل النص "وتقويله" "والقوالة" فتنة في ثقافة السودان القديم ؛ من مرحلة الزجاجة يوليو1973م ، وإلى الجرعة ؛
ملعونون أيها النقاد والقراء أيضاً .
الجرعة الثانية :
رغم الإغراءات الوافرة في حل مشكلتي نهائياً أو تجميدها على أقل تقدير لمدة ستة أيام بفعل الحلم المسحوب على شرف التذكرة الرابحة ، إلا أنني لم أفكر لحظة واحدة في ممارسة لعبة التوتو كورة .
الجرعة الثالثة :
ثم ماذا بعد أن تنتهي الزجاجة .
حتى الجرعة الثانية والعشرون ، يبدو أننا في هذه المرة تحاورنا بوسائل أكثر همجية فقد تحطمت الزجاجة
إنتبهو إنني الآن أتقيأ ؛ أتقيأ .
هذا النص سكب فيه الحلم داخل زجاجة ، والزجاجة في عنقها ، أو في عنق الزجاجة وطن " نسيت أن أتمنى لحبيبتي شئياً ، سوف أترككم تتمنون لها بدلاً عني " . هذه المأساة الملهاة ، التي بدأت بلعن النقاد والقراء ، تمثل في اعتقادي بدايات التخثر ، وموت الأحلام وامتزاج الرؤية بالروى ، دليل على اكتمال الملهاة والخطاب السردي ؛ في نهاياته انتبهوا والقئ ، بشارة بوجود جوف فارغ لا يحتاج أحلام ، ولا زجاجة أوهام ؛ بل يحتاج لإيقاظ الطفل ؛ اضطررت لإيقاظه ذلك الطفل لأدخل معه في حوار من جديد ، الطفل يمثل الحضارة ، والبراءة والذاكرة الحية ، ويعطي إشارة بأن كل هذا العنف الداخلي ؛ تهدهده نظرة إلى المستقبل المشرق" فإلى الحوار علنا نصل إلى وفاق" .
الجرعة الثانية عشر " حبيبتي تجعلني الآن في حلمها أنام فوق حضنها ، لو تعرف أين أنا الآن لأنتحر ذلك الحلم بداخلها .
نص الكربة 1969 - القطار الثاني .
القطار الثاني 1964 "أنظروا مليكنا عريان خريف بلا مطر دائماً هكذا لا غيوم تحجب أشعة الشمس .
وكل من سافر شمالاً أو شرقاً أو غرباً بالقطار تقابله من هذه الصورة المتقابلة وكل صورة تهدي لأخرى ، حتى تكتمل لوحة أعطونا نأكل - ولا أحد يسمعهم ، إختفى القطار ودوره ، وتم وأد دورانه ، وإعادة تشكيل الرحلة حضارياً ، اختفى القطار حتى تختفي الظواهر السالبة ؛ التي يمثلها جري الصغار " وتنطيط الكبار " بيض وترمس وطواقي " ابتعدوا كثيراً .
لقد إخترت من نصوص الأستاذ القاص عمر الحويج في فترته الستينية - الزجاجة والقطار الثاني - لإرتباط بين الرسم ، الذي أبدعه خطاباً ، بعيداً عن لوازم الشكل القصصي ، وتتبعه للأثر في مرحلته ، بإتخاذه الرمز والقص ، والإبدال " لغة" والإحلال سرداً لقراءة واقع المجتمع وتحولاته ، وأحلامه الموؤودة ورؤاه المولودة ، على يد داية غير قانونية - إسمها الشمولية .
أما فترته التسعينية - جيلي أنا - الذي " لا هزم المحال ولا حيهزمه ولاداير يهزمه-لأن هزيمة المحال تمثل عبث "ذكوري" ، حتى لا تزعل منا " الجندريات ، والعبث قد ينتقي له"طاقية" إخفاء وهنا يأتي لومنا لأهل الستينات ولكن ما"في داعي" نقول هم مافي -موجودون-سالمون- تامون- .
أعود إلى الحويج التسعيني الذي سأقراه بزاوية نظر أخرى ، تترك خلفها الخطاب القديم ، وتدلف إلى الخطاب القصصي التسعيني ، بلا شك حافظ "القاص" على رؤيته ورؤاه ورويه" وإرسال ميلاً غير مبرر البتة ولا "حبة"بقول "حبوباتنا " في شعرنة "القصة" وقصقصة الشعر " الشعر" الشعر يا إخوتي ضفائره طويلة وناعمة ولطيفة وهواء القصة لا يبعثرها ، بل يجعلها متماسكة ، فلماذا تضيفوا لعمر الشعر عمر ثان ، دعوه - يحترق- ثم يعود ، والإعادة بعيداً عن خزلان قصيدة النثر لشاعرها وشاعريتها .
(رحلة عبد الشافي الأخيرة إلى الداخل ؛ مايو 1995م )
" كان ذلك يوم احتجبت الشمس "
"كان ذلك يوم هبت تلك العاصفة الهوجاء "
" كان ذلك يوم الكارثة الكبرى"
"كان ذلك يوم غرقت مركب عبد الشافي"
على الرغم من هذه الصور متباعدة إلا أنني أتيت بها متتابعة حتى أدلك على أنه يمكن تحويل هذا النص إلى نص شعري نثري ، ينشر في السوق ولا أحد يعرف خبره .
وبقية النصوص " الجماجم التي صارت في واحد"مارس 1995م وهي في حالتها القصصية بعيداً عن الإنفعال الشعري في مقاربة تأتي مع نص "الشماسة يموتون للمرة الأخيرة " للبروفيسور محمد المهدي بشرى ؛ انفعال ستيني بحادثة تحدث كل يوم في مدن العالم ، أبناء الشمس وسلسيون الأوطان ؛ وخمة نفس البنزين ؛ نخبة وتجار سوق وحكام .
لا زلت "في انتظار الليلة المقمرة ، فأنا أبداً لا أخرج في الليلة الظلام" .
وأنا أيضاً لا أحب الشتاء الشديد ، ولا رطوبة النجيلة - خرجت من أجل إحتفاء بقاص مبدعاً ستيني - تسعيني - اسمه "عمر الحويج" نرجو أن يعود الينا وفي كفه بقية سرد الغربة ، كي يضيف للمكتبة القصصية ، تاريخاً مسروداً برؤية ثاقبة لمجتمعه قديماً وحديثاً .
" إنتهى" ***
وقصة قصيرة "الزجاجة"
بقلم : عمر الحويج
يوليو 1973 م
الجرعة الأولى:
ملعونون... أيها النقاد -والقراء أيضاً- النائمون, الحالمون, الآن مع عشيقاتكم ورفيقاتكم وصديقاتكم... وعيون حبيباتكم. إذا التفَتُّم إلى ضعف التكنيك في هذه القصة... فقد كُتِبَت أثناء سريان أحداثها... وساعتها لم تكونوا معي... معنا.
الجرعة الثانية:
رغم الإغراءات الوافرة في حَلّ مشكلتي نهائياً أو تجميدها على أقل تقدير، لمدة ستة أيامٍ بفعل الحلم المسحوب على شرف التذكرة الرابحة، إلا أنني لم أفكر لحظة واحدة في ممارسة لعبة (التوتو كورة)...ولنفس الأسباب؛ والتي لم أذكرها بعد، لم أحاول يوماً الاعتماد على قوى خارجة عني، بما فيها بركة جدي الشيخ حامد اب عصاةً سيف في حلّ مسائلي المعلقة... إلا أنني قبل ساعة فقط من الآن حدثت لي حالة، تمنيت فيها من سائق بص -تصوروا- ليست التذكرة الرابحة ولا القوى الخارجة عني -بما فيها جدي سالف الذكر- أن يخرجني من هذا المأزق الذي أوقعتني فيه الظروف، والتي لن أذكرها -ربما نكاية بكم- مما اضطرني لشتم ذلك الجد الذي لم يجعلني وارثاً لعصاته العظيمة تلك -حسب ما روي لي عنها من بطولات- لإضافة بطولة جديدة لها. بالضرب المبرح بها، على قفا وظهر وبطن ذلك السائق، الذي تفادى كل العوائق في سبيل تأمين وصولي سالماً إلى هذا المكان... غير السالم.
الجرعة الثالثة:
(ثم ماذا بعد أن تنتهي الزجاجة).
مع نفسي أتحادث فلا تحاولوا أن تحشروا أنوفكم في ما لا يعنيكم.
الجرعة الرابعة:
هنا مرت بي خاطرة إنقاذ تشبثت بها.. تلك القطة التي كانت تتشمم حولي قبل دقائق.
برغم فشلها في الخروج مني بغنيمة، إلا أنني شعرت أنها عقدت معي صداقة، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، فقد خيل لي، أنها تدعوني... مما جعلني أزحف نحوها وفي نيتي صادقاً تلبية الدعوة الكريمة.. ولكن ها أنتم ترونني قابعاً في ركني حزيناً عليها -أعني القطة لا الدعوة- فقد دهسها سائق بص -عندي الرغبة في الحديث عنه في جرعة قادمة فترقبوها- أما القطة، لها الحزن، فقد حملت رأسها على كتفيها في سبيلنا... لها الرحمة و... وإنما الأعمال بالنيات...ولها الشكر.
الجرعة الخامسة:
الطفل.. إنه يعود.. إنه يمشي.. إنه يجلس.. إنه يقف.. إنه ينظر.. إنه.. إنه..
الجرعة السادسة:
إنه نفس السائق في قصتي -دائرة الضوء البيضاء- لو تذكرونها.. لا تؤاخذوني إذا افترضتُ فيكم حسن النية في متابعة أعمالي... في تلك القصة على ما أذكر سائق البص -يتحدث، ولكن ليس كالآخرين- نفس الشيء يفعله هذا السائق ال...ال...ال.
الجرعة السابعة:
هذا المذيع، ذو النبرات الجوفاء.. إنه يحوم بصوته اللزج حول طبلة أذني منذ الجرعة الثانية.. يعلن أنه سوف يسافر بنا من أثينا إلى لندن... إلى نيويورك.. إلى كوبنهاجن.. إلى.. إلى..
الجرعة الثامنة:
تركني هذا المذيع الجلف بدعوى أنني لم أستخرج جواز سفر مثل الآخرين.. طُظ!!.
الجرعة التاسعة:
آه.. ولكني لست وحدي، معي ذلك الطفل، الذي يمشي.. الذي يقف.. الذي يجلس.. الذي ينظر.. الذي لم يستخرج أيضاً جواز سفر.. طظ.
الجرعة العاشرة:
(ثم ماذا بعد أن تنتهي الزجاجة).
مع الطفل أتحادث فلا تحشروا أنوفكم في ما لا يعنيكم.
الجرعة الحادية عشر:
إنه يمشي.... .... .... ... إنه يعود.... .... .. إنه ينتظر.... ... إنه يقف.... .... .. إنه يريدها أن تنتهي.
الجرعة الثانية عشر:
حبيبتي تجعلني الآن في حلمها، أنام فوق حضنها... لو تعرف أين أنا الآن... لانتحر ذلك الحلم بداخلها.
الجرعة الثالثة عشر:
شروع الحلم في الانتحار لستُ مسؤولاً عنه أنا ولا حتى حبيبتي.. فماذا تريد يا هذا؟؟.
... ولكنه حين وصلني عرفت أنه لم يكن قد أتى بهذا الخصوص...فقد أخبرني -رجل البوليس هذا- أن الجلوس في هذا الوقت، وفي هذا المكان، ومع هذه الزجاجة، ليس لائقاً بشخص محترم مثلي.. فلأذهب بها إلي حيث -الأمكنة المحترمة- وهي كثيرة جداً، لو سمحت.. أضافها إلى حديثه، تصورا أنه كان جد مهذب.. لم أصدق نفسي.. ليس لأن رجل البوليس كان مهذباً معي، وإنما للطفل.. إنه يبكي.
الجرعة الرابعة عشر:
تعارفنا منذ الجرعة الأولى، ولذلك يمكن لنا أن ندخل في حوار مع بعضنا البعض.. ويمكن لكم أن تعتبروها فترة استراحة -كما يحدث في السينما والمسرح- ولتذهبوا أثناءها لتفتحوا بلاغاً ضدي عند رجال الأمن... أو... فلتأخذوا ساندوتشاً من لحم الخنزير، إذا كنتم من ذوي الآراء الحادة في المسائل الدينية.
الجرعة الخامسة عشر:
الحوار:
أنا: لا أريد لها أن تنتهي.
هو: أريدها أن تنتهي.
أنا: لا أريدها أن تنتهي.
هو: أريدها أن تنتهي.
الجرعة السادسة عشر:
يبكي..
الجرعة السابعة عشر:
أضحك..
الجرعة الثامنة عشر:
عودوا الآن من حيث كانت استراحتكم.. بشرط أن لا تكونوا قد فتحتم ضدي بلاغاً تحت مادة السكر البين أو أية مواد أخرى مشابهة.. ولأثبت لكم أنني لست واقعاً تحت طائلة أي منها سوف أسرد عليكم بعض الحقائق عني بترتيبها الأبجدي:
أ.ولدت في الزمن الذي كانوا ينتزعون فيه الطفل من رحم أمه المعلقة على الحبل.. لذلك تجدون صبري طويلاً جداً في تحمل الكثير من سخافتكم.
ب.مشيت بخطواتي على الأرض بعدد الحصى الذي فوق سطحها.
ج. توقفت الآن عن المشي، لأن الحصي الذي تحسب به خطواتي قد انتهي. ولحين استيراد بعض الحصي من مناطق أخرى غير الأرض، سوف أظل جالساً في مكاني هذا ومتمنياً:
لسائق البص، دوام الصحة والعافية.
ولتوتو كورة، أن لا ينقصنا سوى سحبها الرابح.
وللمذيع وصوته وركابه، العود الأحمد.
و.. للزجاجة أن لا تنتهي. أما الطفل فسوف أجعله يضحك الآن: سوف أجعله، يبكي الآن.. لن أقول لكم كيف... ولكنه حتماً سوف يضحك.. حتما سوف يبكي.
الجرعة التاسعة عشر:
أضحك...أنا. يبكي.. هو.
يضحك...هو. أبكى.. أنا.
نحن نضحك.. معاً. نحن نبكى.. معاً.
الجرعة العشرون:
نسيت أن أتمنى لحبيبتي شيئاً.. سوف أترككم تتمنون لها بدلاً عني... فأمنياتي أنا لا تتحقق أبداً... وإلا كانت تحققت أمنيتي مع سائق البص الذي أصر -كعادته منذ قصتي آنفة الذكر- أن يصل بي إلى هذا المكان الآمن، خوفاً عليّ من العواقب الوخيمة.. كما قال.
الجرعة الحادية والعشرون:
اضطررت لإيقاظه.. ذلك الطفل.. لأدخل معه في حوار من جديد حول الزجاجة، التي يريدها فارغة لأسباب لم يذكرها لي صراحة ولا ضمناً، لذلك تجنبت إدراجها هنا... والتي أريدها ملأي لأسباب لم أذكرها لنفسي، وبالتالي لن أدرجها هنا أيضاً.. فإلي الحوار علّنا نصل إلى وفاق مُرْضٍ للجانبين:
أنا: لا أريد لها أن تنتهي.
هو: أريدها أن تنتهي.
أنا لا أريد لها أن تنتهي.
هو: أريدها أن تنتهي.
الجرعة الثانية والعشرون:
يبدو أننا في هذه المرة تحاورنا بوسائل أكثر همجية، فقد تحطمت الزجاجة.
انتبهوا... إنني الآن.
أتقيأ... أتقيأ ..
"إنتهت"
omeralhiwaig441@gmail.com