دروس الحملة الانتخابية السودانية

 


 

د. حسن بشير
16 February, 2010

 

 

بدخول السودان في الحملة الانتخابية ، اصبح كتابا مفتوحا اكثر من أي يوم مضي اليوم. الان يمكن الكشف عن كثير مما كان مستورا و الحديث بشدة عن ممارسات الحكم طيلة العقدين الماضيين ، كما  يمكن للأحزاب ان تكشف اوراق بعضها البعض في محاولة الكسب علي حساب الاخر و بالتالي يصوبون نقدا "عنيفا" لذلك الاخر ، كما صرح بشكل مشابه الدكتور الترابي في معرض تعليقه علي الحملة الانتخابية.  اصبحت  الآن القراءة في الإستراتيجية التي يمكن ان تتحرك بها  البلاد الي الامام او السياسات التي تجرها الي الوراء في الممارسة السياسية العامة او في الاقتصاد و في فن جذب العقول و القلوب و ائتلافها او تنفيرها و اختلافها ميسورة لكل من اراد و بلا ثمن . ان موقعة الانتخابات التي ستجري الان غير مسبوقة لعدد من الاسباب ، منها انها لم تجري لفترة تقارب ربع القرن. و هذه ليست فترة عادية و انما فترة تغيرت فيه المعطيات و الثوابت. انهار الاتحاد السوفيتي و سيطرة القطبية الواحدة ، عمت آليات العولمة و سادت أفكار جديدة في السيادة و حقوق الإنسان و المعايير المحددة للحريات و النمو ، صعدت فيه امم جديدة و تراجعت اخري ، ضربت فيه الازمات الاقتصادية قلب النظام الراسمالي و حدثت ثورة في الفكر و الايدولوجيا و التكنولوجيا و المعلومات و الاتصال. في هذه الفترة تغير السودان و جاءت الانتخابات في ظل واقع فرض جمهورية رئاسية بولاتها و مجالسها المتعددة. جاءت الحملة الانتخابية في ظل دستور جديد محكوم باتفاقيات للسلام تفرض اجراء استفتاء حول تقرير المصير لجنوب السودان و منطقة ابيي و مشورة شعبية لجنوب النيل الازرق و جنوب كردفان. جاءت هذه الفترة و السودان يعج بالصراعات و يمتلئ بالجيوش الاجنبية و تحيط به المخاطر من مختلف الاتجاهات و يتربص به اقرب الجيران غير تربص الأبعدين. منذ ربع قرن كان من المعروف من الذي سيفوز بالانتخابات حتي ان حصول الجبهة الاسلامية القومية علي خمسين مقعدا كان مفاجئا للكثير من المراقبين ، غير الذين قالوا ان ذلك العدد جاء نتيجة للتزوير و الغش و شراء الأصوات. بعد ذلك أثبتت الأحداث ان الجبهة تخطط لما هو ابعد من ذلك بكثير و قد كان . الان لا مجال للحديث عن رئيس يريد تجديد ولايته او زعيم حزبي يضمن موالاة أنصاره له كما كان في السابق. لاول مرة في تاريخ السودان تترشح امرأة للرئاسة كما هي المرة الاولي التي يترشح فيها شخص شمالي لنفس المنصب مدعوم من حزب غالبية أنصاره المطلقة من جنوب السودان و مناطق الهامش في الاطراف .

    تلك حقائق معلومة و لكن الامر لم يتوقف علي ذلك فالمنافسة الان مفتوحة بمعطيات جديدة امام مرشحين غير تقليدين كما هو الحال مع القائد ياسر عرمان لرئاسة الجمهورية ادوارد لينو لولاية الخرطوم. هناك طوائف دينية  تحظي بمؤيدين يشكلون قوة دفع في المجتمع  غيرت ولاءها و اصبحت توصف من قبل البعض بالانتماء العلماني ، كأمر مستنكر لمثل هذه الانتماءات.  لم يعد من الممكن الاعتماد علي  الثراء الشخصي او النفوذ القبلي في معزل عن العوامل الاخري القائمة في واقع اليوم للحصول علي تأييد الناخبين. في الوقت الراهن لم تعد الريادة في الاعمال للقطاع الخاص بمفهومه المعروف و انما تحول ثقل المال و الاعمال للشركات الحكومية المعلن منها و المستتر، حتي ان الشركات التي تمت خصخصتها او الشركات الكبري التي تشتمل علي شراكات محلية نجدها بشكل او باخر تصب في النوافذ الحكومية و اصحاب النفوذ المرتبطين بها عدا استثناءات قليلة لن يكون لها تأثيرات تذكر في تغيير نتائج الانتخابات.

   بالرغم من كل العوامل و المؤثرات الموصوفة اعلاه الا ان الصراع في الانتخابات ، اذا سارت الي نهايتها بشكل طبيعي سيشهد معارك محتدمة في الشمال و الجنوب. اضفي دخول الحركة الشعبية كلاعب فاعل في السياسة السودانية حيوية غير مسبوقة علي الصراع الانتخابي ، و هو امر لم يكن متوقعا ان يدخل فيه أي من طرفي نيفاشا الذين تعودا علي الانفراد بالسطة و التمتع بثمراتها كاملة .  علي المستوي الديمقراطي لم تشهد الحملة الانتخابية معركة محتدمة بين مرشحين ينتمون الي حزب واحد كما هو عليه الحال اليوم . نجد ذلك داخل صفوف المؤتمر الوطني و الحركة الشعبية الذين شهدا ما يشبه التمرد السياسي . في هذا الوضع يخوض الكثير من المرشحين المنتمين لطرفي السلطة الانتخابات و ايديهم علي قلوبهم. يمكن ان نري ذلك في الشعارات المطروحة و دعوات التغيير و محاربة الفساد و الاصلاح الاقتصادي. لكن ما يلفت النظر تشابه البرامج الانتخابية تشابه البقر ، حتي انه اذا جردناها عن مرشحيها لصعب التمييز بين انتماءاتها الحزبية ما عدا القليل منها.

    عنصرا اخر جديد في انتخابات هذا العام وهو التمييز الذي تم للمرأة و في طبيعة القوائم النسبية وهو الامر الذي جعل الانتخابات متعددة النوافذ  و ادخل عليها عنصرا من التعقيد لم يكن معهودا في الانتخابات السابقة. إذن أضفي دخول النوع و الجنس  توجها جديدا في المعارك الانتخابية في السودان من المفترض ان يحظي بموقع خاص في الحملة الانتخابية و يضاف الي عوامل التجديد و التغيير. و لكن التغيير الأكبر يتحقق في حالة فوز أشخاص من خارج مواقع السلطة بنسبة تحدث اختراق في الواقع السوداني بمتغيراته المختلفة ، اذ ان وصول الوجوه القديمة المعتادة بخطابها المحفوظ من ألشعب سيدخل إحباطا في الحياة السودانية و يحدث حالة من الركود العام الذي سيكون من الصعب الخروج منه في امد قريب. سيكون لوصول وجوه جديدة خاصة للبرلمان و الولاة و المجالس الولائية اثرا نوعي نحو تحقيق اهداف الانتخابات و احداث اختراق مهم في الواقع السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي يمكنه ان يفتح امالا جديدة نحو استقرار السودان و تطور الممارسة السياسية فيه و اشاعة الثقة حول امكانية التداول السلمي للسلطة و الذي تعتبر نزاهة الانتخابات و قبول نتائجها من جميع الاطراف المشاركة فيها هو الضمان الاكبر له و شرطه الأساسي. كما يمكن لهذه الانتخابات ان تحرز تقدما نحو تحقيق مكاسب فيما يتعلق بحقوق الاقليات و المرأة. سيتم ذلك في حالة ان احدثت الانتخابات المرتقبة خروجا غير مألوفا علي سطوة النفوذ و مراكز القوة القائمة .

   كل تلك المؤشرات ستظهر من خلال الحملة الانتخابية الجارية الان و التي ستقدم للعالم صورة نادرة للسودان ، خلاف صورته التي شوهتها الحروب و القمع و الصراع الماكر علي السلطة و الثروة. ستتيح الحملة ايضا فرصا لدراسة توجهات الرأي العام ، ان لم يكن للجامعات و مراكز البحوث و الباحثين ألسودانيين فستفعل ذلك لمقابلها الأجنبي ، الدولي و الإقليمي. عبر ذلك يمكن تلمس و التقاط نقاط القوة و الضعف في البلاد بشكل أوضح و رؤية أدق حول السياسات الخارجية و الداخلية المرتقبة و البناء علي ذلك في وضع الرؤية المناسبة للتعامل مع هذا البلد المهم للعالم اجمع. لا مجال للأحكام المسبقة و التسرع في الاستنتاج قفزا فوق معطيات الواقع دون دراسته و تحليله ، لكن مما لا شك فيه فان هذه فرصة تاريخية نادرة يجب استثمارها بالشكل الافضل ، مع ادراك حقيقة ان هذه الانتخابات ليست نموذجية او مثال يؤخذ به لكنها في حد ذاتها نقلة مذهلة في الواقع السوداني المرير. الان الرأي العام في صلب الاهتمام و ستبني علي توجهه العديد من السيناريوهات للجهات التي تجيد التخطيط و وضع السياسات علي ذلك الأساس. يحتاج ذلك الي ان نتعامل بجدية مع الحملة الانتخابية الراهنة و توظيف معطياتها لمصلحتنا بعيدا عن التهاون و الاستخفاف الذي  يميز تعاملنا مع المنعطفات التاريخية مهما كانت جسامتها.

 

 

Dr.Hassan.

hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]

 

آراء