دول حوض النيل تتجه نحو التعاون: البدايات (2)
د. فيصل عبدالرحمن علي طه
8 July, 2021
8 July, 2021
ftaha39@gmail.com
1
لقد أفاض كثيرون في بيان مزايا نهج الإدارة التعاونية الشاملة للمجاري المائية الدولية. فقد قيل إن الإدارة التعاونية تُعظم فرص تحقيق الانتفاع الأمثل بالمجرى المائي وتوفير الحماية لبيئته، كما تُحسن الآفاق العامة للسلام والتنمية في دول المجرى. وتُيسر جذب التمويل الدولي وأحدث التقنيات إلى المجرى.
2
يلعب التعاون دوراً محورياً في تحقيق الانتفاع المنصف والمعقول بالمجرى المائي و الحؤول دون التسبب في ضرر ذي شأن. وهو ضروري أيضاً للمسائل الإجرائية مثل التبادل المنتظم للبيانات والمعلومات، والإخطار بالتدابير المزمع اتخاذها والتي يمكن أن يكون لها أثر ضار. وبالإضافة إلى تبادل البيانات و الإخطارات، فإن التعاون يمكن أن يتم في شكل مشاورات أو مفاوضات.
3
لقد فطنت لجنة مياه النيل لعام 1926 في ذلك التاريخ المبكر إلى أهمية التعاون حينما ذكرت في تقريرها: «إن اللجنة ترغب في أن تسجّل وتؤكد بشدة رأيها، بأنه لا الصياغة التفصيلية لاتفاق ما، ولا النص على آلية خاصة للتقاضي، ينبغي أن يسمح لهما بأن يحجبا أهمية الثقة المتبادلة والتعاون المشترك في كافة المسائل المتعلقة بالنهر ومياهه». وحديثاً أكدت محكمة العدل الدولية في قضية مشروع غابتشيكوفو-ناغيماروس أهمية التعاون بين الدول المشاطئة لمجرى مائي مشترك. فقد أكدت أنه عن طريق التعاون الدولي فقط تستطيع الدول المشاطئة لنهر الدانوب أن تخفف من مشاكل الملاحة والفيضانات والبيئة.
4
و كما سبق أن ذكرنا فقد تضافرت عدة عوامل لتأخير قيام تعاون بين دول حوض النيل كان من أبرزها الحروب الأهلية والتوتر الذي شاب العلاقات الثنائية لبعضها، و التشكك في صدقية الدعوات التعاونية الباكرة. فإثيوبيا مثلاً اعتبرت بعضاً منها محاولات لتكريس الأوضاع الجائرة التي ترى أن اتفاق مياه النيل لعام 1959 بين السودان ومصر قد رتبها.
5
عندما شُرع في التعاون كان في أدنى مستوياته ونعني بذلك التعاون الفني. ولكن ذلك لا ينبغي أن يقلل من أهمية التعاون الفني. فتوافر البيانات وتداولها مستلزم لا غنى عنه للمشروعات التعاونية. إن مشروع الأبحاث الهيدرومترولوجية بحوض البحيرات الاستوائية (الهيدروميت)، ولجنة التعاون الفني لترقية التنمية والحماية البيئية لحوض النيل (التكونايل)، ومؤتمرات النيل 2002، كلها قد لعبت دوراً مهماً في تنقية الأجواء، والبناء التدريجي للثقة بين دول الحوض، والتعرف على آراء بعضها البعض بشأن القضايا المتصلة بتنمية الموارد المائية لحوض النيل لمنفعة الجميع.
6
نذكر في غير بسط أنه قد اقتضى قيام مشروع الهيدرميت الارتفاع المفاجئ وغير المسبوق لمنسوب بحيرة فكتوريا بمترين في الفترة 1961-1964 وما ترتب عليه من غمر لشواطئ البحيرة والمراعي بمستنقعات جنوب السودان. بل إن مدينة جوبا ذاتها باتت مهددة بالغمر. وقد تم إطلاق المشروع باتفاق حكومات كينيا، وتنزانيا، وأوغندا، والسودان، ومصر، والتي وقعت على خطة تشغيله في مايو 1967. كما شارك في التوقيع صندوق المال الخاص للأمم المتحدة، ومنظمة الإرصاد العالمية.
7
ورد في خطة التشغيل أن الغرض من المشروع هو جمع وتحليل البيانات المائية والمناخية لمستجمعات مياه بحيرات فكتوريا، وكيوجا، وألبرت لأجل دراسة الميزان المائي للنيل. وبذلك يتيسر للدول المشاركة وضع الخطط للحفاظ على المياه وتنميتها، وصياغة الأسس للتعاون في التخزين وضبط استخدام النيل. وإبان تنفيذ المشروع انضمت إليه روندا، وبوروندي، وجمهورية الكونغو الديمقراطية (زائير آنذاك). الأمر الذي ساعد على توسيع منطقة المشروع لتشمل أحواض نهري كاجيرا وسمليكي. ولاحقاً انضمت إلى المشروع إثيوبيا بصفة مراقب.
8
بدأت المرحلة الثانية لمشروع الهيدروميت في عام 1976 وحصلت على تمويل من صندوق الأمم المتحدة الإنمائي. خلال هذه المرحلة، أسند إلى المشروع إعداد نموذج رياضي يمثل نظام أعالي النيل للمساعدة مستقبلاً في تنمية الموارد المائية هناك. كما تضمنت استمرار العمل في التبخر، وفي تدريب العاملين من الدول المشاركة في المشروع على العمل الهيدروميترولوجي.
9
وأما المرحلة التالية في مسيرة التعاون النيلي فقد كانت تجمع «الاندوجو» وتعني باللغة السواحلية «الإخاء». التئم هذا التجمع بمبادرة من الحكومة المصرية في عام 1983 تنفيذاً لخطة عمل قمة لاجوس للتنمية الاقتصادية لأفريقيا لعام 1980 والتي دعت إلى تعزيز المجموعات الاقتصادية الأفريقية القائمة، وإنشاء تجمعات اقتصادية أخرى في مناطق أخرى من أفريقيا، لتغطي القارة بأسرها وصولاً لقيام مجموعة اقتصادية أفريقية بحلول عام 2002. ودعت كذلك إلى إنشاء هيئات لأحواض الأنهار والبحيرات المشتركة.
10
كان من أهداف تجمع الأندوجو تبادل وجهات النظر والمعلومات حول القضايا ذات الاهتمام المشترك للدول الأعضاء، والإسهام في التنمية الاقتصادية والاجتماعية لتلك الدول. وكذلك تنبيه شعوب الدول الأعضاء المشاطئة للنيل لأهمية موارد المياه و ضرورة تنميتها وحسن إدارتها. انضمت إلى التجمع عند إنشائه مصر، والسودان، وأوغندا، وأفريقيا الوسطى، وزائير (جمهورية الكونغو الديمقراطية حالياً). وانضمت إليه لاحقاً وفي مراحل مختلفة كل من رواندا، و بوروندي، وتنزانيا. ولم تنضم إليه إثيوبيا أو كينيا.
11
وقد توالت الاجتماعات الوزارية للتجمع ولكنه لم يحقق شيئاً على أرض الواقع. ولم تُنفَّذ قراراته المتعلقة بالبنى الأساسية والاستغلال المشترك للموارد المائية، والتعاون الاقتصادي والاجتماعي. ويعتقد أن من أسباب ذلك افتقار التجمع إلى دبلوماسية القمة، وإلى الجهاز المؤسسي، وأيضاً عدم توفير المال اللازم لتنفيذ مشروعاته.
12
لكن يُحسَب لتجمع الأندوجو أنه استقطب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لإعداد دراسة جدوى اقتصادية شاملة لاتخاذها كخطة عامة للتعاون الإقليمي بين دول التجمع. وسيرد من بعد أن دراسة البرنامج كانت لها أصداء في المرحلتين التاليتين لمسيرة العمل التعاوني بين دول الحوض. ونعني بذلك لجنة التعاون الفني لترقية التنمية والحماية البيئية لحوض النيل (التكونايل)، ومبادرة حوض النيل.
///////////////////////
1
لقد أفاض كثيرون في بيان مزايا نهج الإدارة التعاونية الشاملة للمجاري المائية الدولية. فقد قيل إن الإدارة التعاونية تُعظم فرص تحقيق الانتفاع الأمثل بالمجرى المائي وتوفير الحماية لبيئته، كما تُحسن الآفاق العامة للسلام والتنمية في دول المجرى. وتُيسر جذب التمويل الدولي وأحدث التقنيات إلى المجرى.
2
يلعب التعاون دوراً محورياً في تحقيق الانتفاع المنصف والمعقول بالمجرى المائي و الحؤول دون التسبب في ضرر ذي شأن. وهو ضروري أيضاً للمسائل الإجرائية مثل التبادل المنتظم للبيانات والمعلومات، والإخطار بالتدابير المزمع اتخاذها والتي يمكن أن يكون لها أثر ضار. وبالإضافة إلى تبادل البيانات و الإخطارات، فإن التعاون يمكن أن يتم في شكل مشاورات أو مفاوضات.
3
لقد فطنت لجنة مياه النيل لعام 1926 في ذلك التاريخ المبكر إلى أهمية التعاون حينما ذكرت في تقريرها: «إن اللجنة ترغب في أن تسجّل وتؤكد بشدة رأيها، بأنه لا الصياغة التفصيلية لاتفاق ما، ولا النص على آلية خاصة للتقاضي، ينبغي أن يسمح لهما بأن يحجبا أهمية الثقة المتبادلة والتعاون المشترك في كافة المسائل المتعلقة بالنهر ومياهه». وحديثاً أكدت محكمة العدل الدولية في قضية مشروع غابتشيكوفو-ناغيماروس أهمية التعاون بين الدول المشاطئة لمجرى مائي مشترك. فقد أكدت أنه عن طريق التعاون الدولي فقط تستطيع الدول المشاطئة لنهر الدانوب أن تخفف من مشاكل الملاحة والفيضانات والبيئة.
4
و كما سبق أن ذكرنا فقد تضافرت عدة عوامل لتأخير قيام تعاون بين دول حوض النيل كان من أبرزها الحروب الأهلية والتوتر الذي شاب العلاقات الثنائية لبعضها، و التشكك في صدقية الدعوات التعاونية الباكرة. فإثيوبيا مثلاً اعتبرت بعضاً منها محاولات لتكريس الأوضاع الجائرة التي ترى أن اتفاق مياه النيل لعام 1959 بين السودان ومصر قد رتبها.
5
عندما شُرع في التعاون كان في أدنى مستوياته ونعني بذلك التعاون الفني. ولكن ذلك لا ينبغي أن يقلل من أهمية التعاون الفني. فتوافر البيانات وتداولها مستلزم لا غنى عنه للمشروعات التعاونية. إن مشروع الأبحاث الهيدرومترولوجية بحوض البحيرات الاستوائية (الهيدروميت)، ولجنة التعاون الفني لترقية التنمية والحماية البيئية لحوض النيل (التكونايل)، ومؤتمرات النيل 2002، كلها قد لعبت دوراً مهماً في تنقية الأجواء، والبناء التدريجي للثقة بين دول الحوض، والتعرف على آراء بعضها البعض بشأن القضايا المتصلة بتنمية الموارد المائية لحوض النيل لمنفعة الجميع.
6
نذكر في غير بسط أنه قد اقتضى قيام مشروع الهيدرميت الارتفاع المفاجئ وغير المسبوق لمنسوب بحيرة فكتوريا بمترين في الفترة 1961-1964 وما ترتب عليه من غمر لشواطئ البحيرة والمراعي بمستنقعات جنوب السودان. بل إن مدينة جوبا ذاتها باتت مهددة بالغمر. وقد تم إطلاق المشروع باتفاق حكومات كينيا، وتنزانيا، وأوغندا، والسودان، ومصر، والتي وقعت على خطة تشغيله في مايو 1967. كما شارك في التوقيع صندوق المال الخاص للأمم المتحدة، ومنظمة الإرصاد العالمية.
7
ورد في خطة التشغيل أن الغرض من المشروع هو جمع وتحليل البيانات المائية والمناخية لمستجمعات مياه بحيرات فكتوريا، وكيوجا، وألبرت لأجل دراسة الميزان المائي للنيل. وبذلك يتيسر للدول المشاركة وضع الخطط للحفاظ على المياه وتنميتها، وصياغة الأسس للتعاون في التخزين وضبط استخدام النيل. وإبان تنفيذ المشروع انضمت إليه روندا، وبوروندي، وجمهورية الكونغو الديمقراطية (زائير آنذاك). الأمر الذي ساعد على توسيع منطقة المشروع لتشمل أحواض نهري كاجيرا وسمليكي. ولاحقاً انضمت إلى المشروع إثيوبيا بصفة مراقب.
8
بدأت المرحلة الثانية لمشروع الهيدروميت في عام 1976 وحصلت على تمويل من صندوق الأمم المتحدة الإنمائي. خلال هذه المرحلة، أسند إلى المشروع إعداد نموذج رياضي يمثل نظام أعالي النيل للمساعدة مستقبلاً في تنمية الموارد المائية هناك. كما تضمنت استمرار العمل في التبخر، وفي تدريب العاملين من الدول المشاركة في المشروع على العمل الهيدروميترولوجي.
9
وأما المرحلة التالية في مسيرة التعاون النيلي فقد كانت تجمع «الاندوجو» وتعني باللغة السواحلية «الإخاء». التئم هذا التجمع بمبادرة من الحكومة المصرية في عام 1983 تنفيذاً لخطة عمل قمة لاجوس للتنمية الاقتصادية لأفريقيا لعام 1980 والتي دعت إلى تعزيز المجموعات الاقتصادية الأفريقية القائمة، وإنشاء تجمعات اقتصادية أخرى في مناطق أخرى من أفريقيا، لتغطي القارة بأسرها وصولاً لقيام مجموعة اقتصادية أفريقية بحلول عام 2002. ودعت كذلك إلى إنشاء هيئات لأحواض الأنهار والبحيرات المشتركة.
10
كان من أهداف تجمع الأندوجو تبادل وجهات النظر والمعلومات حول القضايا ذات الاهتمام المشترك للدول الأعضاء، والإسهام في التنمية الاقتصادية والاجتماعية لتلك الدول. وكذلك تنبيه شعوب الدول الأعضاء المشاطئة للنيل لأهمية موارد المياه و ضرورة تنميتها وحسن إدارتها. انضمت إلى التجمع عند إنشائه مصر، والسودان، وأوغندا، وأفريقيا الوسطى، وزائير (جمهورية الكونغو الديمقراطية حالياً). وانضمت إليه لاحقاً وفي مراحل مختلفة كل من رواندا، و بوروندي، وتنزانيا. ولم تنضم إليه إثيوبيا أو كينيا.
11
وقد توالت الاجتماعات الوزارية للتجمع ولكنه لم يحقق شيئاً على أرض الواقع. ولم تُنفَّذ قراراته المتعلقة بالبنى الأساسية والاستغلال المشترك للموارد المائية، والتعاون الاقتصادي والاجتماعي. ويعتقد أن من أسباب ذلك افتقار التجمع إلى دبلوماسية القمة، وإلى الجهاز المؤسسي، وأيضاً عدم توفير المال اللازم لتنفيذ مشروعاته.
12
لكن يُحسَب لتجمع الأندوجو أنه استقطب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لإعداد دراسة جدوى اقتصادية شاملة لاتخاذها كخطة عامة للتعاون الإقليمي بين دول التجمع. وسيرد من بعد أن دراسة البرنامج كانت لها أصداء في المرحلتين التاليتين لمسيرة العمل التعاوني بين دول الحوض. ونعني بذلك لجنة التعاون الفني لترقية التنمية والحماية البيئية لحوض النيل (التكونايل)، ومبادرة حوض النيل.
///////////////////////