د. محمد أحمد محمود ينتقد القرآن الكريم
18 June, 2009
من نفايات المطابع
(1 من 2)
ليسمح لنا الدكتور محمد أحمد محمود أن نسفه بعض أفكاره وآرائه التي جازف بها في نقد القرآن الكريم . والدكتور رجل جزوع يخشى النقد ولا يحتمل سهامه ، ولكنه مع ذلك يبسط لسانه على القرآن الكريم ، في محاولة جريئة لنقده ، وتجريحه ، والتشكيك في صحته ، مستغلاً تخصصه العلمي في فرع اللغويات ، والتقامه لبعض فتات الشبهات التي نثرتها بعض مراكز الاستشراق .
يريد الدكتور أن يخضع النص القرآني للفحص والمراجعة والتقويم بعيداً عن: " قدسية النص القرآني ومركزيته في الثقافة الإسلامية ".
لأن هذه القدسية والمركزية- كما يقول- جعلت: " الدراسة العلمية للقرآن أمرأً محاطاً بالكثير من الريبة والحساسية " التي لا داعي لها .
وإذن فليطرح الدكتور هذه الريبة والحساسية ولا يحفل بهما ، ولكن يتوجب عليه كذلك أن يطرح التحامل والضغن والشنآن الشديد الذي يكنه للقرآن ، لأن مناهج البحث العلمي تفترض أن يتخلص الباحث من مشاعر البغض والتأفف من موضوع البحث وإلا تأثر بحثه سلباً بتلك المشاعر .
إذا أراد الدكتور أن يكون علمياً ومنهجياً حقاً فإن عليه أن يكون باحثاً شريفاً متجرداً متزناً كما كان الشرفاء من دارسي القرآن ، من أمثال مالك بن نبي في (الظاهرة القرآنية) ومحمد عبد الله دراز في (النبأ العظيم) وموريس بوكاي في " (الإنجيل والقرآن والعلم ) وغيرهم من الجهابذة ذوي الحس العلمي والأخلاقي السليم . ولكن الدكتور يجانف كل ذلك ظاناً أن الموضوعية عمادها ومقتضاها التحامل على القرآن ، والتهجم عليه والتشكيك فيه ، سيراً على منهج كتاب (في الشعر الجاهلي) لطه حسين وهو الكتاب الذي عندما أطلع عليه شيخ المستشرقين التبشيريين لويس ماسينيون قال: " هذه بضاعتنا ردت إلينا " !
شتان ما بين الموضوعية ومنهج الدكتور محمد أحمد محمود الذي لا يكاد يكظم غيظه ولا يهدأ . إنه يتهاوى من أول فقرة سطرها في دراسته ، في سلاسل متشابكة من المزالق والمهاوي المهلكة . انظر كيف يتجاسر دكتور في اللغويات يفترض أن له معرفة ولو عامة بالإسلاميات ليقول إنه: " عقب وفاة الرسول اكتشف المجتمع الإسلامي الناشئ أن منبع هويته الأول هو القرآن " ! ! إن الدكتور لأنه يتشبه بالمستشرقين ، فهو يتشبه بهم في الوقوع في الأخطاء التي يندهش طالب الابتدائية الغر كيف يمكن أن يقع فيها من يفترض أنه دكتور!! هذا وإن للمستشرقين لعذراً أي عذر لغربتهم عن مناخ العربية ومناخ القرآن والثقافة الإسلامية، ولكن كيف يمكن أن تصفح عن خطأ هذا المتخصص في اللغويات والذي يفترض أن له معرفة ولو عامة بالإسلاميات ، عندما يدعي أن المسلمين اكتشفوا أن القرآن هو منبع هويتهم فقط عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ ! ترى هل كان المسلمون يجهلون تلك الحقيقة إبان وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ؟ ! أولم يقض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وعشرين سنة من عمرة الشريف يعلم الناس تلك الحقيقة حتى علموها منه ، وصارت في سجل البدهيات التي لا تحتاج إلى اكتشاف ؟ !
ثم إن الدكتور يردف زعماً آخر مباشرة عقب هذا الزعم يقول فيه : " إلا أن المسلمين ما لبثوا أن أدركوا عدم كفاية ذلك ، فلجأوا للسنة كمنبع ثان للهوية الإسلامية ". بمعنى أن المسلمين اكتشفوا عدم كفاية القرآن فلجأوا للسنة . فهل صحيح أن المسلمين لجأوا للسنة عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، أم أنهم ظلوا طوال عيشهم معه يتمثلونها وينهجون سبيلها ؟ ! وأنها شكلت مع القرآن الكريم المحجة البيضاء التي أضاءت لياليها بمثل أشعة النهار ؟ ! وما معنى " السنة " – أيها الدكتور – إن لم تكن سبيل الإقتداء والسلوك ؟ ! إنك لو تدبرت اللفظ قليلاً – يا دكتور اللغويات – لما وقعت في هذا الخطأ الشنيع ! !
الهجوم على الإمام الشافعي :
ولقد أنحى الدكتور باللائمة على الإمام الشافعي – رضوان الله تعالى عليه – لأنه كما يرى : " لعب دوراً أساسياً في توطيد أركان السنة ، وتثبيت مكانتها ومدد مفهوم طاعة الرسول ليضعه في مصاف طاعة الله " . وهكذا فالدكتور لا يكاد ينهض من خطأ حتى يعثر في خطأ آخر . وقد فاته أن يلاحظ أن القرآن نفسه هو الذي وطد أركان السنة وذلك عندما قال الله تعالى : " من يطع الرسول فقد أطاع الله " ، وعندما قال تعالى : " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول " ، وعندما قال الله تعالى في هذا الخصوص على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " .. وهنالك آيات كثيرة في القرآن تنص على مثال ذلك .
وقد كانت تلك القضية مسلمة في الضمير الإسلامي لم يثر حولها أي نوع من الجدل الجاد . ولكن الدكتور يحاول أن يشق الإجماع حول حجية السنة بين أئمة المسلمين وعلمائهم ، مستشهداً بقول من لا سلطة له في الموضوع مثل السير أحمد خان مؤسس جامعة عليكرة وعميد المثقفين التغربيين في شبه القارة الهندية في العصر الحديث ، الذي ينقل لنا الدكتور كلامه عن مرجع مشبوه للمستشرق اليهودي المجري " إجناز جولدزيهر " فيرتكب خطأً مزدوجاً في عجزه عن الإسناد المباشر ، ثم بالنقل عن طائفة من البشر عرفت بعدائها الصريح للقرآن منذ عهد التنزيل . فهل نحن بعد ذلك في حاجة إلى معرفة أصول وموجهات فكر هذا الدكتور ؟ !
وفي مخاصمته للإمام الشافعي ، يزعم الدكتور أن الإمام وقف:" في وجه مدرسة فقهية أخرى كان مزاجها الفكري يميل للتركيز على القرآن وإهمال السنة ". والدكتور الذي يدعي النظر العلمي ، والمنهج العلمي ، لا يسمي لنا الأمور بأسمائها ، كما يقتضي المنهج ، فيضرب صفحاً عن ذكر اسم هذه المدرسة المتنكرة للسنة من قديم . ولذلك فلا بد أن نسأله إن كان يعني بها مدرسة " المرتدين " الذين رفضوا نصوص السنة ، فقال فيهم الصديق أبو بكر قولته الأبية : " أينقص الدين وأنا حي ؟ ! " ثم قاتلهم على ذلك الكفر الصراح ، المصحوب بالتمرد على دولة المسلمين ، أم أنه يعني مدرسة أخرى ولكنه أيضاً يتغاضى عن ذكر عنوانها ؟ !
التشكيك في المصحف الشريف :
وأما التهمة التي يئس المستشرقون والمبشرون من إمكان إثباتها وترويجها ، فإن تلميذهم غير النجيب هذا ، يبدو أنه لم يدركه اليأس بعد من إمكانية إثباتها ، ولذلك فهو يحاول بمختلف التمحلات أن يثبت تهمة حدوث التحريف في نصوص المصحف الشريف المتداول اليوم بين المسلمين . والطريف المؤسف أن الدكتور بينما يشكك في روايات جمع القرآن وفي القرآن نفسه ، فإنه ينتقي من بين هذه الروايات التي شكك فيها قبل هنيهة ما يخدم عرضه فيقوم بتوثيقها واعتمادها . مثلما فعل سلفه طه حسين الذي شكك في رواية الشعر الجاهلي ، وفي القرآن نفسه ، وفي الرواية التاريخية جملة ، وزعم أنه لا يوجد ما يدل على وجود سيدينا إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – في التاريخ فضلاً عن زيارتهما للحجاز وبنائهما للكعبة . وكان يهدف من وراء ذلك إلى خدمة يهود حيث كان واحداً من أشهر كتاب مجلتهم المعروفة (الكاتب) قبل أن ينزح يهود مصر إلى إسرائيل ، ولتدعيم فكرتهم التي ترمي إلى حرمان العرب من شرف بناء الكعبة ، ولم يبال طه حسين بكل الحفريات الكثيفة التي أثبتت وجود آثار سيدينا إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام . إن طه حسين رغم رفضه للروايات التاريخية ، كان هو نفسه الذي قام عندما كتب (على هامش السيرة) بإضافة كافة ضروب الإسرائيليات والأساطير والأباطيل للسيرة النبوية المشرفة ، فكأنما الظاهرة الإسلامية وحدها ، يمكن أن يتعامل معها ، بمقياسين متضاربين ، وبمنهجين متناقضين ، عند دعاة البحث العلمي الحديث !!
على غرار هذا المنهج نفسه سار الدكتور محمد أحمد محمود ، فشكك في الروايات التي تسند جمع القرآن لسيدنا أبي بكر ، ولسيدنا عمر ، ولسيدنا عثمان ، وكأنما كان هنالك تضارب بين تلك الروايات التي لا تعني إلا أن جهود خدمة القرآن كانت متكاملة متصلة منذ عهد الصديق . يقول الدكتور : " إن وفاة الرسول أدت لتفجر صراعات مختلفة : قبلية وحزبية وشخصية .. إلخ ولم يؤثر ذلك على تفسير محتوى القرآن فقط ، وإنما على الروايات المتصلة بتاريخ جمعه أيضاً . إذ أن ذلك أمسى مصدر اعتزاز وفخر " . إننا لا نرمي إلى إلزام الدكتور بهذا التفسير لأمر تعدد الروايات ولكنا ندعوه إلى التزام منهجه الذي وضعه بنفسه ، وإلى تفادي الوقوع في التناقض الفاحش عندما يقوم باعتماد روايات ضعيفة ساقطة لم تتقو حتى بوجود روايات ضعيفة ساقطة مثلها أو أسقط منها ! !
ولأن تاريخنا الإسلامي تاريخ أمين موثق ، سجل دقائق تطورات ثقافتنا وحضارتنا ، ولم يغفل حتى عن ذكر وجوه الاجتهادات المتضادة وتفاصيلها ، ولم يحذف حتى أقوال عداة وخصوم الإسلام من الفرق الضالة الخارجة عن إطاره ، (كما فعل ذلك بأمانة وإقتدار مطلقين المفكران والمؤرخان الكبيران : الشهرستاني وابن حزم مثلاً ) ، فإن أمثال الدكتور محمد أحمد محمود والذين في قلوبهم زيغ ، يستطيعون أن ينتقوا ما يناسب قلوبهم وعقولهم المضطربة من الشبهات المتشابهات . وهكذا أصبح الدكتور يحدثنا عن وجود مصاحف مختلفة قبل اعتماد مصحف عثمان ، من أمثال مصحف ابن مسعود ، ومصحف الزبير ، ومصحف عائشة ، ومصحف عكرمة ، ومصحف مجاهد ، ومصحف الأعمش ، ويتشبث بها ليقول : " وربما يتبادر إلى الأذهان أننا هنا بإزاء عدة نسخ من نفس المصحف ولكن واقع الأمر غير ذلك ، إذ أننا بإزاء مصاحف تقع بينها اختلافات في نصوص الآيات القرآنية " ، ثم يعطينا أمثلة عن الخلاف بين قراءة سيدنا عمر : " صراط من أنعمت عليهم " ، وما في مصحف سيدنا عثمان : " صراط الذين أنعمت عليهم " . والخلاف بين قراءة سيدنا علي : " آمن الرسول بما أنزل إليه وآمن المؤمنون " وما في مصحف عثمان : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون " ، والخلاف بين : " إن الله لا يظلم مثقال نملة " في مصحف ابن مسعود ، وما في مصحف عثمان " إن الله لا يظلم مثقال ذرة " . ويحاول أن يثير عاصفة من الشك والجدل حول حقيقة سلامة القرآن من التحريف ، مستنداً إلى تلك القراءات الشاذة الضعيفة ، التي لم تتمتع بالقوة التي تمتعت بها القراءة المعتمدة للمصحف منذ عهد سيدنا عثمان ، فكأن الدكتور يريد أن يشكك بذلك في النص القوي ويستبدل به الضعيف !!
إن أمتنا الإسلامية هي أمة الشهادة والإسناد ، وهي الأمة التي وثقت الرواية بالرجال العدول ، وأقامت علوم الرجال والجرح والتعديل ، حتى اضطر بعض كبار المستشرقين إزاء وضوح تلك الظاهرة وجلائها إلى الاعتراف بأن الحديث الضعيف في الإسلام – دعك عن الحديث الصحيح – أصح من ناحية النقد العلمي للرواية التاريخية من التوراة والإنجيل !
الميمونية وسورة يوسف:
إن هذه الجهود البائسة التي يبذلها الدكتور في زرع الريب والشكوك ، لا تعبر إلا عن انحراف فكري وعقد خاصة عند الدكتور ، يعبرعنها كذلك تنقله ما بين المذهب الجمهوري والفكر اليساري ، وعصابات (التنوير) ، كما يعبرعنها استناده إلى فرقة شاذة جداً ، لها عقائد مضحكة في التاريخ الإسلامي ، اسمها فرقة (الميمونية) . هذه الفرقة هي التي يستند عليها ويقول : " ورغم أن الكثير من المصادر الإسلامية تحاول إعطاء انطباع أن إجماع المسلمين قد انعقد على المصحف العثماني ، إلا أنه يبدو أن الصورة كانت أعقد من ذلك . فبعض المصادر تخبرنا عن فرقة الميمونية من الخوارج وما روي عن إنكارهم أن تكون سورة يوسف من القرآن " .. وكم وددنا أن يذكر لنا الدكتور حجج أصحابه الميمونية في دعم هذا الزعم ، الذي لا يمكن أن نقبله منه ولا منهم هكذا بلا حجة قوية . ولا ريب أن الدكتور قد وجد أن حجتهم ضعيفة ، أو مضحكة ولذلك تغاضى عنها .
والميمونية التي يتحدث عنها الكاتب ، ويستشهد بأقوالها على صحة مزاعمه في سقوط شئ من القرآن الكريم ، هم أتباع ميمون ابن خالد الذي كان من أتباع الخوارج / العجاردة ، والمعتزلة معاً ، ثم أسس فرقته الخاصة ، التي تقول بالقدر ، وإن الله تعالى فوض الأعمال إلى العباد وأعطاهم القدرة للقيام بكل ما كلفهم به ، ولذا فهم يستطيعون أن يؤمنوا وأن يكفروا ، وليس لله – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – قدرة أو مشيئة أو سيطرة عليهم ، وقد أجاز ميمون هذا لأتباعه نكاح بنات البنات وبنات أولاد الأخوان ، مستنداً إلى أن القرآن قد حرم نكاح البنات ، وبنات الأخوان والأخوات ، ولم يحرم نكاح أولاد هؤلاء .
ومرة أخرى يتكئ الدكتور على أقوال المستشرق اليهودي إغناز جولدزيهر الذي يقول إنه : " قد وجدت حديثاً في مكتبة بانكيبور بالهند نسخة من القرآن تحوي سوراً غير موجودة في المصحف العثماني ومنها سورة ذي النورين " . هذا هو زعم المستشرق الخبيث . وإذا كان ممكناً الإستناد إلى مزاعم " جولدزيهر " هذا ، فإنه يمكن أن نعتمد كذلك تلك المصاحف المزورة التي أصدرتها إسرائيل ، والتي شطبت منها الآيات التي تتحدث بإسهاب عن بني إسرائيل ! !
وبعد أن أورد الدكتور بعض أقاويل غلاة الباطنية الذين غلت صدورهم بكره القرآن وكره الصحابة ، عاد فأحس بشدة شططهم وتجاوزهم ، فتحسب من ذلك قائلاً إن واقع الأمر قد لا يسند كل ما ذهبوا إليه : " إلا أنه واقع لا يستبعد استبعاداً تاماً سقوط بعض الآيات " . وهكذا يبدو الدكتور وكأنه يرجح احتمال سقوط بعض آيات القرآن من المصحف ، لا بعض سور القرآن . فنشكره على هذا الكرم الحاتمي الفياض الذي أولاه القرآن ، وهو عنه غني .
النسخ والبداء والإنساء :
وفي قضية نسخ القرآن يلتبس الأمر على الدكتور التباساً شديداً ، لأنه وجد مرتعاً في مرويات بعض رواة الحديث المعروفين بالكذب والذين تواتر تحذير علماء الحديث من قبول مروياتهم . وها هو الدكتور يتشبث برواية ظاهرة البطلان ، ومصادمة للقرآن ، هي الرواية المنسوبة إلى الحسن رضي الله عنه والقائلة : " إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآناً ثم نسيه " ، وقد كان ممكناً للدكتور لو تمتع بحس نقدي أن يقرن تلك الرواية بظروف التنافس السياسي والعقائدي ، المعروف الذي ولد أمثال الأقوال التي انتحلت لتبرير المواقف ، ولكنه مال إلى ما يهوى فقبلها من دون تمحيص أو مساءلة لمجرد أنها تخدم غرضه " العلمي " في التشكيك في القرآن .
ولم يكتف الدكتور بدعوى النسيان ، بل أتبعها بدعوى الإسقاط وهو الاسم الذي ابتكره لمفهوم النسخ ، وقال إن ذلك الإسقاط كان يتم خلال حياة الرسول وبعدها ، وعقب على ذلك وكأنه أمر بدهي قائلاً : " هذا عن الإسقاط كجزء من تاريخ المصحف عقب وفاة الرسول " فعنده أن ذلك أمر لا يستحق الجدل . لكن مع ذلك فإن الدكتور قد أساء الفهم وخفيت عليه حكمة النسخ ، الذي ليس هو دليلاً على البداء بمعنى الظهور بعد الخفاء . فبعض الذين يتلاعبون بقضية النسخ في القرآن ، " وهي قضية ثابتة ، ولكن يعرف تفاصيلها علماء الناسخ والمنسوخ ، وقلة من العلماء الراسخين ، ليس من بينهم قطعاً هذا الدكتور " يريدون من طرف خفي أن يؤكدوا معنى البداء . بمعنى أن أمراً ظهر لله – تعالى عن ذلك – بعد أن كان خافياً عليه فقام بتغيير التشريع . وحاشا لله ، فالنسخ لا يعني غياب حكمة أمر ما عن الله تعالى ، وإنما يعني من ضمن ما يعني ، التدرج بالناس من حكم إلى حكم ، كما حدث في أمر الخمر ، وتلك إحدى القيم التربوية والتشريعية في الإسلام .
وأما الإنساء الذي خاض فيه الدكتور على غير هدى ، مثلما خاض فيه يهود من قبل ، عندما نزلت آيات البقرة تأمر بتحويل قبلة الصلاة من ناحية بيت المقدس ، إلى ناحية الكعبة وحينها تحدثت يهود بأن صلاة المسلمين إلى بيت المقدس قد كان خطأ وضاع أجرها عليهم بعد هذا التصحيح . فنزل القرآن الكريم يرد عليهم : " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " . ويؤكد أن تعديل الأحكام يأتي دائماً لصالح جماعة الدعوة والحركة ، وهي تخطو في جهادها لنصرة شرع الله . وقد عقب القرآن على ذلك بما يمنع التشكيك في إرادة الله : " ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير " . ثم عرى أهداف المشككين وكشف عوار نفوسهم المريضة قائلاً : " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً ، حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق " . وهكذا فإن من نصيب الأمة المسلمة وهي تزهو بإيمانها وسمو تصوراتها ، أن ترشق دائماً ، وألا تنجو أبداً من لغط وتشكيكات يهود من أسلاف جولدزيهر . وفي مواجهة الدكتور محمد أحمد محمود لا نملك أن نردد إلا ما قاله فيهم القرآن الحكيم .