رأي لفاروق كدوده حول اتفاقيات السلام … بقلم: د. حسن بشير محمد نور

 


 

د. حسن بشير
13 August, 2010

 

د. حسن بشير محمد نور – أستاذ الاقتصاد العام المشارك- جامعة النيلين- الخرطوم

عند قيامي بمراجعات روتينية لمحتويات مكتبتي الخاصة وقع بين يدي الملف الدوري رقم 36 الذي يصدره مركز دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا بالسودان وهو عدد لشهري سبتمبر وأكتوبر 2003م. من خلال مطالعتي للملف وجدت به موضوع حول " مستقبل السودان في إطار مشاكوس" وقد تمت الإشارة الي ان ذلك الموضوع كان من إعداد د.فاروق كدوده. لكن بعد مطالعتي للموضوع استنتجت بان الذي حدث هو منتدي من المنتديات الدورية التي واظب المركز علي القيام بها بشكل شهري تقريبا ولفترة زمنية طويلة ولا زال مواصلا في نفس منهجه مع تطوير أساليب عمله وتنويعها بشكل أكثر تخصصية ومن خلال الموضوع المنشور يُستنتج بان المنتدي تم في أكتوبر 2003م. من خلال قراءة الموضوع يتضح انه قد تم في شكل مناقشة شفهية لم تتبع بورقة مكتوبة نسبة لكثرة الأخطاء وطبيعة التناول للإحداث التي أخذت صيغة السرد الشفهي ولم تتبع شكل الورقة المنهجية المكتوبة والمعدة بتأن. هذا التوضيح مهم لأنني سأقوم باستعراض ما تحصلت عليه، قدر الإمكان كما هو لإظهار جوهره دون التدخل إلا في حالات تصحيح بعض الأخطاء التي جاءت في الطباعة او إعادة الصياغة بشكل لا يخل بالموضوع.
هذه الرؤية للراحل المقيم الدكتور فاروق كدوده مهمة لأنها تعبر عن رؤيته الشخصية الي حد بعيد حسب النقاش الذي كان يدور بيننا، وهي حسب رأي رؤية عميقة جمعت بين الجوانب السياسية و الاقتصادية ببعد استراتيجي أثبتت الأيام صحته، كما ان هناك دافع إضافي للتعليق علي الموضوع هو الجدل الكثيف الدائر هذه الأيام حول الوحدة والانفصال والذي ما كان الراحل ليغيب عنه لولا تدخل يد القدر في ذلك ونفاذ إرادة الله. من جانب اخر فان المحاولات التي تتم لتجميع الإرث الفكري و السياسي المتناثر لدكتور فاروق لا تتم بشكل كامل حسب رأي و إنما بشكل انتقائي تتداخل فيه عوامل غير موضوعية. نرجو أن يتم هذا العمل بعيدا عن الاستلطاف الذاتي والشللية والقبلية السياسية ومظاهرها الاخري الخاصة بسودان الألفية الثالثة، التي أصبحت من سمات السلوك الصفوي السوداني . لا بد في هذا المقام ان احي د. أسماء إسماعيل السني رفيقة درب الراحل و السادنة الحقيقية المخلصة لأرثه الإنساني المجيد ، علي ما تقوم به من مجهودات جبارة في جمع اعمال د. فاروق وتوثيقها.
يبدأ استعراض فاروق بالحرب الأهلية الدائرة منذ العام 1955م مرورا " بهدنة" اتفاقية أديس أبابا للفترة 1972- 1982م، التي تم توقيعها بين حكومة جعفر نميري وحركة انانيا (سم الثعبان)، كما كان يحلو لفاروق التشديد عليه.يقول فاروق ان الحرب الاهلية هي مشكلة السودان الاولي كونها حصدت(حتي ذلك الوقت) ارواح ما يربو علي مليوني شخص وتسببت في نزوح عدة ملايين وعطلت عمليات (بناء الامة السودانية) وشوهت وجه السودان والسودانيين في العالم بشكل ( شجع القوي الاجنبية واغرق السودان في مديونية لا سبيل لاقتصاده لتحملها) ، نتيجة لذلك عم الفقر واصبح التسول ظاهرة متفشية لا تسترعي الانتباه ، كما استنتج بان مدن السودان أصبحت تعج بالنازحين والفارين من الحرب و التغيرات المناخية حتي تصدر السودان قائمة النزوح عالميا بحيث ان واحدا من كل ثمانية نازحين في العالم سوداني ، ذلك حسب التقديرات الأمنية كما ورد علي لسان فاروق.
يستعرض د. فاروق بعد ذلك ما تم بين حكومة الانقاذ والحركة الشعبية ويشير الي (مع استمرار القتال المدمر ظلت الاطراف تتحاور منذ 1989 في أديس لبابا "اغسطس 1989م" وفي نيروبي "ديسمبر 1989م" أعقبتها ابوجا الاولي و الثانية في مارس 1991م واستؤنفت في نيروبي تحت مظلة الإيقاد ، كانت اخر جولاتها في ابريل 2000م). يقول فاروق ان قضايا الحوار ظلت ترحل من جولة لاخري وقد تلخص أهمها في : تقرير المصير؛ ترتيبات الفترة الانتقالية؛ علاقة الدين بالدولة؛ تقسيم السلطة والثروة؛ نظام الحكم وتعريف الجنوب بحدوده الجغرافية بولاياته الثلاث (وردت كلمة ولاية رغم عدم استخدامها في التقسيم القديم للإقليم الجنوبي) ولم تشمل آبيي ، جبال النوبة وجنوب النيل الازرق.يعلق فاروق علي عمليات الحوار بان الراي العام المحلي والعالمي كان متابعا لها لفرط تعلقه بالسلام ... فالقتال الذي دار قرابة الأربعة عقود عمق الإيمان بأنه ( ليس في مقدور احد الطرفين إحراز نصر عسكري حاسم وحتي ان حدث فهو امر غير مرغوب فيه وسوف يسبب مشاكل جديدة، فاذا انتصرت القوات الحكومية يكون هذا هو الاستعمار بلحمه ودمه وان حدث العكس فهي الحرب الصليبية عينها). بعد ذلك يطرح سؤال حول : هل يا تري هناك جهة تريد خلق انطباع بان لا مخرج من هذا الوضع الا بتقسيم السودان ، ام يا تري هناك فئة مصلحتها السياسية والمادية في استمرار الحرب؟
يستمر تناول فاروق كما جاء بالملف بطرح سؤال اخر حول طبيعة الحرب: هل هي بين شمال السودان الذي تقطنه أغلبية مسلمة منحدرة من أصول عربية وبين جنوبه الذي معظم مواطنيه يدينون بالمسيحية ومعتقدات محلية وينحدرون من أصول افريقية زنجية ؟ ام هي حرب تشنها " حكومة السودان" بواسطة قواتها المسلحة ومجاهديها لدحر المعارضة في الجنوب يدفعها غبن تاريخي ... ونفس هذه الحكومة ، كما يقول فاروق، تشن حربا في الشمال بوسائل اخري علي إخوانها في الدين والعرف، حرب سلاحها القهر ومصادرة الحقوق الرئيسية ، حرب وقائية حتي لا يتطور الضجر في الشمال الي عصيان ومواجهة مسلحة. يقول فاروق مواصلا تساؤلاته، هل هي حرب تديرها نخبة حاكمة تاريخيا في الشمال ونخبة جنوبية تستخدم السلاح والحوار في آن واحد ، طريقا للثراء والمنافع وإحداث الفرقة والانقسام بين بعضها والظهور أمام الرأي العام كأنهم دعاة سلام يلجئون الي السلاح مضطرين مجبرين. يري فاروق ان اكبر دليل علي عجز لغة الحوار هو التنكر لما تم الاتفاق عليه سابقا ويضرب مثل لذلك بتتبع الأحداث منذ مؤتمر المائدة المستديرة مرورا باتفاقيات أديس أبابا ، السلام من الداخل ويقول في نهاية تعليقه علي هذه النقطة ان الطرفين ( يؤكدان ليل نهار أنهما مع السلام وضد الحرب ... من الذي يحرضهما علي القتال أذن؟ .. لكنني ادعو فقط الي إعارة هذا البعد " المنتفعين بالحرب" قدرا اكبر من الاهتمام).
       ينتقل بعد ذلك في معرض مداخلته كما ورد بالملف الي إلقاء بعض الضوء علي فرص السلام في إطار مشاكوس.يقول في هذا الشأن ان نظام الاتقاد إذا نجح في شيء فهو نجاحه في تدويل القضية السودانية ووضع أوراقها في يد قوي خارجية عربية ، افريقية و الان أوربية أمريكية ، فلم يعبأ الحزب الحاكم بأكثر من عشرين مبادرة قامت بها القوي الوطنية ولو بالتعليق وأخرها، والكلام بالطبع لدكتور فاروق، كان في نهاية سبتمبر الماضي(المقصود سبتمبر 2003م) ، عندما عزمت أحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني تقديم مذكرة لرئيس الجمهورية... الا ان أمر السودان خرج تماما عن أيدي السودانيين وأصبح في أيدي أجانب يستخدمون الجزرة و العصا لفرض رؤيتهم حول مصير السودان. يواصل فاروق فيقول ان القضايا موضوع المفاوضات شائكة ومعقدة وذات طبيعة قومية ( يستحيل علي حزبين ، المؤتمر الوطني و الجناح العسكري للحركة الشعبية ، كلما يميزهما عن الآخرين أنهما يحملان السلاح، ان يصلا الي اتفاق مستدام..). يواصل القول بان الصفوة الجنوبية تري ان هذه هي الفرصة التاريخية للاستئثار بالسلطة في ذلك الجزء من الوطن خاصة بعد اكتشاف البترول. يستدل فاروق في ذلك ببعض الدول الإفريقية التي تشتد فيها النزعات القومية الانفصالية عند اكتشاف الموارد ويضرب أمثلة ببيافرا في نيجيريا و كاتنغا في الكنغو الديمقراطية. اما بخصوص الصفوة الشمالية فيقول انها تتنازعها تيارات متناقضة بعض منها يسعي الي فصل الجنوب باعتباره عقبة أمام تمرير أجندتها الإسلامية و اخري لا تريد للحركة الإسلامية ان تتحمل تلك المسئولية التاريخية وتفضل ان تتحملها جهات اخري وفئة ثالثة ارتبطت مصالحها بثروات الجنوب وكلهم مجتمعين يسعون الي اتفاق لا يؤدي الي تفكيك النظام وانما احتكار ألسلطة. يستنتج فاروق في هذا الإطار ان اتفاق مشاكوس اختزل القضية السودانية في العلاقة بين الشمال والجنوب وبالتالي فهو غير معني بالديمقراطية وحقوق الإنسان ، ولكنه ، أي بروتوكول مشاكوس، يعتبر الفرصة الاولي منذ انقلاب يونيو 1989م لوضع حد للحرب الدائرة منذ اربعة عقود- حسب ما نسب لفاروق في الملف- وبالتالي وجد الترحيب جراء الإرهاق من تلك الحرب وحتي المعارضة المنضوية تحت راية التجمع الوطني الديمقراطي قد رحبت به.
يشير فاروق الي عدم اشراك القوي السياسية الاخري وبعض دول الجوار خاصة دولتي المبادرة المشتركة( مصر وليبيا وهو ما اوجد تعقيدات لم يتم التغلب عليها حسب رأينا حتي اليوم عندما حانت ساعة الاستفتاء)، واكتفوا بترديد المثل الانجليزي " ان الشيطان في التفاصيل" ويعلق علي ذلك بالقول ( لكن التفاصيل ليس ان نتجنبها وانما يجب مواجهتها بعقل وذهن منفتحين وإرادة قوية وكثير من الاتفاقيات السابقة لم تصمد أمام الاختبار نسبة لاختصارها علي العموميات).
يخلص فاروق الي ان نقطة الضعف الرئيسية لبرتوكول مشاكوس في إصرار الحكومة ودول الإيقاد علي حصر التفاوض بين فريقين نيابة عن الشعب السوداني ومنظماته السياسية والمدنية ويتساءل عن السبب وراء إقصاء الآخرين؟ يقول في الإجابة عن ذلك السؤال ان ( الفريقان يتوهمان ان تحقيق السلام علي يديهما سوف  يوهن القوي السياسية الاخري  في الشمال والجنوب.. وتخلو لهما الساحة تماما لفترة طويلة قادمة). ويعلق علي ذلك بان ( الوضع الجديد الذي سوف ينشأ سيولد أشكالا لمعارضة جديدة ). بعد ان يستعرض فاروق مرة اخري القضايا التي تعرض لها بروتوكول مشاكوس ويحصرها في ثلاث نقاط مهمة هي: تقرير المصير ؛ الدين و الدولة و الفترة الانتقالية يقول ،حتي اذا تم الاتفاق حول القضايا المشار اليها سوف يصبح ( تحديد الحدود الجغرافية للمنطقة التي سوف يجري فيها الاستفتاء عقبة مستعصية ، فالحركة الشعبية لها وجود في مناطق مجاورة للولايات الجنوبية في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق والجنوب بالنسبة لها يشمل تلك المناطق التي كانت تدار وفق قانون المناطق المقفولة لسنة 1912م و انه ومنذ مطلع 1956م كانت بعض مناطق النيل الأزرق بما فيها الكرمك تتبع لأعالي النيل و تدار من ملكال وكانت في الانتخابات البرلمانية للعام 1953م كل من سنار والروصيرص ضمن الدائرة 51 وهي من دوائر جنوب السودان وانه في انتخابات الجمعية التأسيسية للعام 1957م كانت جبال النوبة عدا الدلنج تتبع لجنوب السودان).
أخيرا في قضية الدين والدولة يشير فاروق الي انه لم يتشكل إجماع حولها في شمال السودان و ان تطبيق الشريعة بشكل شائه في العهد المايوي قد ادي الي انهياره وانه لم يتم الاحتكام الي الشعب وفقا لمعايير ديمقراطية لاستطلاع رأيه حول هذا الموضوع ويتوقع ان يشكل هذا الملف موضوعا للحوار في مشاكوس الثانية التي ستتعرض بالضرورة لقضايا قسمة السلطة والثروة؛ تحديد ماهية الجنوب ، الأمن وترتيبات وقف إطلاق النار و الضمانات الدولية لما سيتم الاتفاق عليه.
نري ان النقاط التي تعرض اليها فاروق كدودة في مجملها لازالت حية ، كما ان رؤيته حول الكثير منها كانت صائبة الي حد كبير بالرغم من أن كل ذلك تم قبل الوصول الي اتفاقيات السلام الشامل بعد جولات الحوار الماراثونية في نيفاشا. رأينا ان نحي هذا الرأي للراحل فاروق كدودة حتي يشكل حضورا في الجدل الدائر اليوم حول الاستفتاء الذي سيقرر ليس مصير جنوب السودان فقط وإنما سيمتد أثره ليقرر مصير السودان بأكمله ويلقي بظلال كثيفة علي المآلات المستقبلية لدولة اسمها السودان. سأحاول من جانبي ان أقدم كل ما أتحصل إليه من مساهمات قيمة للراحل المقيم لمعرفتي انه لم يكن يهتم كثيرا بتوثيق ما يقوم به من أنشطة متعددة، ذلك عرفانا لما جمع بيننا من صداقة وعلاقة إنسانية متميزة منذ العام 1985م وحتي رحيله عن هذه الفانية. ندعو له مع بركات هذا الشهر الكريم بالمغفرة وان يشمله الله برحمته الواسعة التي تملأ السموات والأرض وتفيض .

Dr.Hassan.
hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]

 

آراء