رؤساء بين مطرقة الثورات وسندان التدخلات … بقلم: خالد التيجاني النور

 


 

 


tigani60@hotmail.com

 
مشهد غاية في الإذلال قل نظيره في أرض الواقع وإن كان يصلح في عالم الخيال والأفلام، وووسائل الإعلام تبث بلا شفقة صور الرئيس العاجي المنتهية ولايته لوران غباغبو في ثيابه الداخلية وقد أطبقت عليه في غرفة نومه بمعية زوجته القوات الفرنسية المنتشرة في البلد الغرب إفريقي تحت غطاء القبعات الأممية الزرقاء لتسلمه لقوات الرئيس الحسن وتارا المعترف بشرعيته الانتخابية دولياً في انتظار تقديمه للمحاكمة.
 بالطبع لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يجد فيها رئيس دولة نفسه بين ليلة وضحاها منتقلاً من سعة القصور الرئاسية إلى ضيق المعتقلات، ولا تزال في الذاكرة الحيَّة الصور المؤسفة للرئيس العراقي السابق صدام حسين في مشاهد مذلة مماثلة وقوات الاحتلال الأمريكي تبث لقطات القبض عليه من أحد المخابئ.
 وحتى وقت قريب كانت ممارسة عمليات الغزو لتغيير الأنظمة في العالم الثالث ماركة أمريكية مسجلة، مارستها واشنطون في العديد من الدول تحت سيناريوهات ودوافع مختلفة من دعم الانقلابات إلى الاختطاف، كما حدث في شأن الرئيس البنامي الأسبق نورييغا.
 لقد كانت الغزوات الأمريكية المتعددة لفرض هيمنتها على الساحة الدولية مرمىً سهلاً للشجب والانتقاد على نطاق واسع بوصفها اعتداءات إمبريالية تهدف لتحقيق مصالحها الذاتية، بغض النظر عن احترامها للمواثيق والعهود الدولية، وتشكل انتهاكاً صارخاً لحقوق وسيادة الدول الصغرى.
 ويبدو أن واشنطون تعلمت دروساً قاسية وتحملت كلفة عالية جراء انفرادها بالقيام بدور الشرطي الدولي، لذلك جنحت منذ آخر غزواتها المنفردة في أفغانستان والعراق إلى الكف عن التحرك في الساحة الدولية منفردة، لتضطر للعودة إلى خدمة أهدافها بمشاركة واسعة من حلفائها تحت غطاء المنظمة الأممية. ولعل ذلك يظهر بوضوح في مشاركتها المحدودة في عملية ليبيا، ودعمها السياسي لعملية ساحل العاج.
 وتراجع الولايات المتحدة من استراتيجية التدخلات المباشرة المنفردة المكلفة للغاية لم تتم مجاناً، ولكن واكب ذلك حدوث تحولات مهمة في لعبة الأمم، فالانكفاء الأمريكي لم يغير من طبيعة التدخلات المباشرة، ولكن أعطتها زخماً جديداً وأدخلتها في طور جديد يهدف إلى خلق نظام عالمي جديد واسع المظلة ليقوم بالدور نفسه، وحين انهار نظام القطبية الثنائية بعد تفكك الاتحاد السوڤيتي، حاول الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب إطلاق عصر الهيمنة الأمريكية تحت ستار الإعلان عن نظام عالمي جديد ما لبث أن تأكدت واشنطون أنه ليس بوسعها القيام بهذا الدور وحدها، وأنها لن تستطيع وحدها تحمل تبعات العصر الأمريكي، كما أنها لن تستطيع الاستغناء عن حلفائها التقليديين لتنفرد بالساحة الدولية وحدها، لتعود مجدداً إلى الانتباه إلى ضرورة تأسيس شراكة جديدة لترسم معالم عصر جديد في العلاقات الدولية يتم فيه طبخ القرارات وإدارة العالم في كواليس مجلس الأمن وأروقة الأمم المتحدة، لتكتسب غطاء شرعية دولية يصعب انتقادها والتشكيك فيها أو مقاومتها.
 وفي عصر تشابكت فيه المصالح الحيوية بين القوى الكبرى، وتقاربت الأهداف بين العواصم الكبرى، لم تعد حدوة طاولة مجلس الأمن تتسع لخلافات حقيقية بين هذه الدول تصل إلى حد عرقلة التداخلات المباشرة في شؤون الدول الصغيرة، وأبعد ما تصل إليه المجادلات بين هذه الدول هو التخفيف من غلواء القرارات التي تنتهك سيادة الدول التي تسوقها أقدارها البائسة إلى كواليس المنظمة الدولية.
 ويبدو أن الكثير من دول العالم الثالث لا تزال غير قادرة على إدراك هذه التحولات الكبرى في المعطيات التي تُدار بها السياسية الدولية في وقتها الراهن لذلك ظل بعضها يراهن وهماً على أن الصين وروسيا اللتين تحتفظان بعلاقات وثيقة مع العديد من هذه الدول، تستطيع التدخل لإحداث التوازن المطلوب في مواجهة الحلف الثلاثي الامريكي البريطاني الفرنسي. ولكن من الواضح أن المصالح المتبادلة بين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن التي تتمتع بحق الفيتو، باتت أقرب إلى بعضها البعض أكثر من أي وقت مضى، وبكين وموسكو باتتا تتقنان بيع المواقف التضامنية بصكوك غير قابلة للسداد، ولكن ما أن يأتي وقت اتخاذ القرارات الصعبة حتى تعتصمان بالامتناع عن التصويت، وتضنان باستخدام الفيتو لصالح الدول المنكوبة التي تظن أنها تتمتع بشراكة استراتيجية معها.
 لقد شربت الحكومة السودانية من هذا الكأس أكثر من مرة، وقد كان في الخرطوم من يظن أن بكين بحكم استثماراتها النفطية المهمة في السودان لن تتوانى في أن تكف عنها أذى قرارات مجلس الأمن، وينسى هؤلاء أن مصالح الصين مع الولايات المتحدة وشريكتيها الأوروبيتين بريطانيا وفرنسا هي أكبر وأوسع بما لا يقاس مع مصالحها المحدودة مع السودان، ولذلك وقفت بكين متفرجة وملف انتهاكات حقوق الإنسان في دارفور يُحال إلى المحكمة الجنائية الدولية، ووصل الأمر إلى حد توريط رئيس البلاد تحت طائلة الملاحقة الجنائية الدولية، ولم تفعل بكين أكثر من تخفيف حدة التدخل العسكري الدولي في دارفور، ولكنها لم تصل إلى حد عرقلته، على الرغم من محاولة الخرطوم المستميتة لمنع ذلك.
 ولعل آخر ضحايا لعبة الأمم الجديدة العقيد الليبي معمر القذافي، الذي حاول بحكم ثرائه النفطي شراء الدعم الروسي والصيني وإغراءهما بوراثة الشركات الغربية في بلاده، ولكن ذلك لم يجدِهِ فتيلاً، فقد جرى أيضاً بموافقتهما تحويل ملف الانتهاكات التي مارسها ضد الثوار إلى المحكمة الجنائية الدولية التي لا محالة ستضمه إلى لائحة مطلوبيها، إن لم تتم تسوية سياسية قبل منتصف الشهر المقبل موعد تقديم المدعي العام للمحكمة تقريره إلى مجلس الأمن الدولي، كما أن روسيا والصين اكتفتا بالامتناع عن التصويت بشأن التدخل العسكري الدولي في ليبيا.
 وقراءة هذه التحولات الاستراتيجية في العلاقات الدولية وفي قواعد لعبة الأمم، تشير بوضوح إلى أن نظاماً عالمياً جديداً على وشك التشكل بالفعل، ولئن ألغت تقنيات الاتصال التي لا تتوقف تطوراتها المذهلة نظرية الحدود ومحت سيادة الدول في فرض حدود المعرفة والتواصل، فإن ما تبقى من مفاهيم السيادة الوطنية في طريقها إلى الزوال على وقع المعطيات الجديدة في إدارة شؤون العالم. فالأنظمة التي ظلت تقليدياً تهيمن على حياة شعوبها وتتحكم فيها وفق القواعد والحدود السياسية التي تصنعها هي بمعزل عن محيطها الخارجي، تواجه تطوراً متسارعاً يفقدها تدريجياً ذلك الاحتكار في إدارة شؤون بلدانها الداخلية كما تشاء.
 ولعلَّ الأنظمة في هذه المنطقة من العالم تواجه على وجه خاص تحديات جديدة فرضتها الثورات الشعبية التي تنتقل عدواها منتشرة تغشى بلداً إثر بلد بعد أن انطلقت من عقالها في تونس. وهذه الثورات المطالِبة بالحريات والديمقراطية بعد طول ارتهان لأنظمة ديكتاتورية بغيضة امتهنت كرامة مواطنيها وحطت من قدرهم وحوَّلت شعوبَها إلى رهائن، ولم تكتفِ بذلك بل تريد أن تحوِّلهم إلى متاع خاص لأسر حاكمة تحلم بتوريثهم جيلاً بعد جيل إلى أبناء محظوظين، ومحاولة هذه الأنظمة القمعية مواصلة قهر شعوبها في عالم مفتوح أمام وسائل الاتصال الحديثة التي نقلت للعالم هذه الفظائع، شكلت عاملاً جديداً داعماً لمعطيات لعبة الأمم الجديدة وتعزيز مبررات تدخلها المباشر، ولم يعد بوسع هذه الأنظمة الاستفراد بشعوبها. والتطور اللافت أن التدخلات الدولية الداعمة لهذه الثورات، بغض النظر عن دوافعها، لم تعد تواجه بمواقف شعبية رافضة لها كما حدث في حالة العراق مثلاً، مما عزز من مشروعية الدور الأممي.
 والملاحظ أنه حتى في حالة الثورتين التونسية والمصرية فإن الدور الدولي لم يكن بعيداً عنها، وإن اقتصر على الدعم السياسي المندِّد الذي شكَّل ضغوطاً كبيرة على النظامين، ومن المؤكد أن رفع الدول الكبرى لغطاء دعمها لمبارك وبن علي الحليفين الوثيقين لها على مدى عقود، أسهم بصورة مباشرة في سرعة سقوطهما.
 ومن المؤكد أن هذا التطور المفصلي الذي يصنعه للدور المتعاظم للتدخلات الدولية في ما كان يوصف بالشؤون الداخلية للدول، سيثير الكثير من الجدل حول دوافعه ومشروعيته، وكون أن القوى الكبرى إنما تتحرك بما تمليه عليها مصالحها فهذا أمر مفروغ منه، ولكن ذلك لا ينفي أن المبرر الرئيس لحدوث هذه التدخلات، إنما يأتي من بوابة الأنظمة القمعية التي تختطف إرادة شعوبها وحقهم في الحياة.
 وإن كان ثمة درس مهم من هذه التطورات المصيرية في الساحة الدولية، أنه لا ترياق من الوقوع تحت براثن التدخلات الدولية، ولا سبيل للوقوف أمامها سوى بالشرعية الشعبية الحقيقية، فالأنظمة المتدثرة بشعارات الديمقراطية رسماً لا فعلاً، والتي تدَّعي شرعية مزعومة لا يسندها واقع، ستجد نفسها تتساقط كأوراق الخريف الواحدة تلو الأخرى، وقيام أنظمة ديمقراطية حقيقية تحترم كرامة الإنسان وحقه في الحياة، وتحقيق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص أصبح فرضاً لا مناص منه، لقد أصبحت الأنظمة بين مطرقة الثورات الشعبية وسندان التدخلات الدولية.
عن صحيفة إيلاف السودانية
الأربعاء 12 أبريل 2011

 

آراء