رؤية الأستاذ محمود محمد طه تجاه التنمية تثير حراكاً واسعاً 

 


 

بدر موسى
20 March, 2022

 

مقاربة د. عبد الله الفكي البشير بين آراء الأستاذ محمود محمد طه والبروفيسور أمارتيا سن تجاه التنمية تلهم المتخصصين في التنمية وتدفعهم لفتح باب المقارنات دون الاعتراف بالفضل

(1-7)

بدر موسى


"والتبشير بالإسلام أمر يتطلب أن يكون المبشِّر، من سعة العلم بدقائق الإسلام، وبدقائق الأديان، والأفكار، والفلسفات المعاصرة، بحيث يستطيع أن يجري مقارنة تبرز امتياز الإسلام على كل فلسفة اجتماعية معاصرة، وعلى كل دين، بصورة تقنع العقول الذكيَّة". (محمود محمد طه، الثورة الثقافية، 1972، ص 17).


منذ 30 أكتوبر 1984 حيث صدرت الديباجة التي كتبها الأستاذ محمود محمد طه، لم أقف بعدها على كتاب أصيل وجديد ومفيد وملهم، وأضاف الكثير للفضاء السوداني والأفريقي والعربي والإنساني، مثل كتاب الدكتور عبد الله الفكي البشير: أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية: التنمية حرية- محمود محمد طه وأمارتيا كومار سن (مقاربة). لقد صدرت الطبعة الأولى من الكتاب في أكتوير 2021، وتجري الآن طباعة الطبعة الثانية، ومتوقع صدورها نهاية هذا الشهر. كما انتهت ترجمته إلى اللغة الإنجليزية ومتوقع صدورها خلال الشهر القادم. ويجري الآن التفاوض لترجمة الكتاب إلى اللغتين الألمانية والفرنسية.

وتعود أصالة كتاب عبد الله وجدته إلى كونه فتح باب المقارنة بين آراء الأستاذ محمود محمد طه والمتخصصين في التنمية، كما كشف الكتاب عن رؤية الأستاذ محمود الأصيلة والسابقة، والتي طرحها منذ خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، تجاه التنمية، بينما جاءت رؤية أمارتيا سن في كتابه:   Development at Freedom في العام 1999. وتزداد قيمة مقاربة عبد الله، في أنها أظهرت المرجعية الفكرية لرؤية الأستاذ محمود تجاه التنمية، وهي القرآن في مستوى آيات الأصول (الآيات المكية). فقدمت بذلك وجهاً مشرقاً للإسلام في الوقت الذي يواجه فيه الإسلام والمسلمين التهم بالعجز والقصور والتخلف والتطرف ومحاربة التقدم والفهم باسم الله. وهذه التهم تجد سندها وتعزيزها في أخذ الإسلام عن جهل، يقول الأستاذ محمود: "إن الإسلامَ سلاحٌ ذو حدين.. إذا أُخذ عن علمٍ ومعرفة رفع الناس إلى أوج الرفعة والإنسانية والرقي، وإذا أُخذ عن جهلٍ، ارتد بالناس إلى صورٍ من التخلفِ البشع، الذي يحارب باسم الله كل مظهرٍ من مظاهر التقدم والفهم". وترجع قيمة كتاب عبد الله وأهميته إلى أن فكرته فاتت على المتخصصين في التنمية حتى من الجمهوريين تلاميذ الأستاذ محمود محمد طه، وأنا أولهم، على الرغم من أنني أحمل درجة الماجستير في التنمية من واحدة من أعرق الجامعات الأمريكية. فنحن ربما نكون معذورين إذا جهلناها قبل صدور هذا الكتاب، ولكننا على التحقيق لسنا معذورين اليوم والكتاب بين أيدينا، لان هذا الموضوع هو موضوع الساعة، الذي تتوقف عليه حياة الناس، ومعيشتهم، ورفاهيتهم، ومستقبلهم، في السودان خاصةً، وفي سائر الأرض.


الكتاب المُلهم لا يَغِيب ولا يُغَيّب


هل بعد صدور هذا الكتاب الأخلاقي الملهم الخلاق، كتاب عبد الله الفكي البشير، والذي غابت فكرته عن المتخصصين في التنمية والاقتصاد، سواء من الجمهوريين أو غير الجمهوريين، فهل بعد صدوره يمكن أن يكتب أحد ممن أطلع عليه، مقالاً دون الإشارة إليه؟ وهل يمكن لأي جمهوري أن يكتب مقالاً عن رؤية أمارتيا سن تجاه التنمية دون أ يلفت انتباه القراء لهذا الكتاب؟ وهل يمكن لأي مختصص في التنمية ومطلع على هذا الكتاب يقرر إجراء مقارنة بين أمارتيا سن والمعلم نيريري، ومقارنة بين الأستاذ محمود ونيريري، دون أن يذكر فضل هذا الكتاب ودوره الملهم؟

في تقديري أن أفعال مثل هذه لا يمكن أن تصدر من متخصص في التنمية مطلع على كتاب عبد الله، سواء كان جمهورياً أو غير جمهوري، وحتى ولو كان يكن عداءً للكتاب، فإن العلمية تحتم عليه الاعتراف بأسبقية كتاب عبد الله، كما أن القيم الأخلاقية تفرض عليه الإشارة إليه، حتى ولو من باب الاعتراف بالفضل. غير أن الدكتور قصي همرور فعل!!!


رؤية الأستاذ محمود محمد طه تجاه التنمية تثير حراكاً واسعاً

مقاربة د. عبد الله الفكي البشير بين آراء الأستاذ محمود محمد طه والبروفيسور أمارتيا سن تجاه التنمية تلهم المتخصصين في التنمية وتدفعهم لفتح باب المقارنات دون الاعتراف بالفضل



(2-7)

"والتبشير بالإسلام أمر يتطلب أن يكون المبشِّر، من سعة العلم بدقائق الإسلام، وبدقائق الأديان، والأفكار، والفلسفات المعاصرة، بحيث يستطيع أن يجري مقارنة تبرز امتياز الإسلام على كل فلسفة اجتماعية معاصرة، وعلى كل دين، بصورة تقنع العقول الذكيَّة". (محمود محمد طه، الثورة الثقافية، 1972، ص 17).


قراءة موجزة في وعد قصي همرور بإجراء مقارنات بين كتابي "الحرية والتنمية" و"التنمية كحرية"


نشر الدكتور قصي همرور مساهمة يوم 11 مارس الجاري في صفحته على الفيسبوك، وجاءت في نحو (1300) كلمة. تمحورت المساهمة حول كتاب أماريتا سن: Development as Freedom آنف الذكر، وكتاب نيريري (الحرية والتنمية) الذي يحوي، كما بيَّن الدكتور قصي، أوراقا وخطابات له بين العامين 1968 و1973، وتوسع في ذلك. وبمجرد الانتهاء من قراءتي لهذه المساهمة قفزت إلى ذهني عدة أسئلة، منها: لماذا لم ترد فيها كلمة واحدة عن آخر مقارنة صدرت في الخرطوم، وهي مقارنة الدكتور عبد الله آنفة الذكر، والتي أحدثت حراكاً واسعاً في السودان وخارجه، وقد وصفتها صحيفة المدائن التي تصدر في ألمانيا باللغة العربية، بأنها: "أكبر مقاربة في تاريخ السودان والفهم الجديد للإسلام عن آخر أطروحات الفكر التنموي في العالم: التنمية حرية"؟ وقد حملت تلك المقاربة رؤية الأستاذ محمود محمد طه تجاه التنمية. ولماذا تجاوز الدكتور قصي رؤية الأستاذ محمود للتنمية، وهي الرؤية الأشمل والأدق من كلا رؤيتي المعلم نيريري والبروفسير أمارتيا سن لمفهوم التنمية كحرية، وهي الرؤية السابقة لكلتيهما بعشرات السنين، كما فصل الدكتور عبد الله الفكي البشير في كتابه العظيم والمهم والملهم للدكتور قصي ذات نفسه، إذ لولا كتاب عبد الله لما خرج علينا الدكتور قصي في يوم 11 مارس 2022 بمساهمته هذه أو بوعده للقراء بإجراء مقارنات قادمات.

وتساءلت لماذا أهمل الدكتور قصي في مساهمته الإشارة لرؤية الأستاذ محمود التي شهد بتميزها كبار المفكرين الرواد في مجال التنمية، من أمثال البروفيسور علي عبد القادر علي، أستاذ اقتصاديات التنمية، والذي شهد له الدكتور قصي نفسه، قائلاً: إن البروفيسور علي عبد القادر سلطة في مجاله. ثم شهد بتميزها وريادتها الدكتور الخبير والباحث في مجال التنمية خالد التجاني، رئيس تحرير صحيفة إيلاف المعنية بالاقتصاد والسياسية، فقد تحدث، قائلاً: "حقيقة قدم عبد الله الفكي البشير أطروحة قوية ومتماسكة في مقاربتها عن التنمية بين البروفيسور أمارتيا والأستاذ محمود.. أذكر أن الدكتور الباقر هاتفني وسألني، قائلاً: هل أكملت قراءة الكتاب؟ فقلت له قل لي كم مرة قرأت الكتاب؟ حقيقة إن هذا الكتاب جاء في وقت مناسب جداً، فهو يقدم خدمة كبيرة جدا للثورة، وخدمة كبيرة جدا للتغيير.. أنا أطلعت على كتاب أمارتيا سن من قبل: التنمية حرية، ولكن لأول مرة حقيقة اتلمس من المقاربة التي قام بها دكتور عبد الله أن هناك طرح لمشروع أو ركائز لمشروع وطني للتنمية قدمه الأستاذ محمود.. وأن الإنسان هو غاية التنمية وجوهرها، وقضية الحرية ودور المرأة ودور المجتمع وقضية الديمقراطية... إلخ. وقد أوضح لنا عبد الله كل ذلك عبر المقاربة بين أمارتيا، وهو رجل لا ديني، مع الأستاذ محمود الذي ينطلق من منطلق روحاني مستمد من القرآن الكريم، وهنا بعد أخلاقي.. هذا الكتاب القيم للغاية، قدم لنا معاني كثيرة عن التنمية التي طرحها الأستاذ محمود، ورصدها الدكتور عبد الله.. ونحن حقيقة في حالة فراغ كبير جدا.. ليس لدينا أطروحات وطنية تجاه التنمية.. هذا الكتاب بهذا العمق الذي طرحه وقدمه لنا الدكتور عبد الله جعلنا نكتشف أن لدينا قواعد ومرتكزات لمشروع وطني للتنمية طرحه الأستاذ محمود...". "فما انتهى إليه البروفيسور أمارتيا سن، أستاذ الاقتصاد والفلسفة الشهير، والحائز على جائز نوبل في الاقتصاد في العام 1998، من أفكار وآراء تدعو لأنسنة قضية التنمية وتجعل من قضية الحرية هي ذروة سنام العملية التنموية، فقد سبق للمفكر السوداني المعروف الأستاذ محمود محمد طه إلى طرح العديد من معانيها في طائفة من كتاباته قبل نحو خمسة عقود". (صحيفة المدائن، الأحد 13 مارس 2022).

والسؤال الثاني الذي قفز إلى ذهني هو: لماذا قرر الدكتور قصي (الآن فقط) كتابة هذه الورقة العلمية التي وعدنا بها، عن هذا الموضوع بالتحديد، وهو الذي يقول بأن لديه موقف أخلاقي من أمارتيا سن، لأنه ليس باشتراكي، ويقول كذلك بأنه قد درس كلا الرؤيتين حول التنمية وصلتها الوثيقة بالحرية، منذ العام 2016؟ هل عنده سبب لهذا التوقيت بخلاف صدور كتاب الدكتور عبدالله، والاهتمام الكبير والصدى الواسع والعريض والاحتفاء الذي وجده الكتاب، داخل وخارج السودان، والذي نترقب الآن صدور الطبعة الإنجليزية منه، وصدور طبعته الثانية بالعربية؟!

فإن صح أن هذا هو السبب وراء كتابة قصي لورقته الموعودة، فلماذا لا يصرح به، ويشكر عبدالله على حفزه لكتابتها؟!

والسؤال الثالث هو: لماذا صار قصي يصدر الأحكام الجزافية السالبة في حق كبار العلماء في مجال التنمية، من أمثال البروفيسور أمارتيا سن، والدكتور علي عبد القادر علي، ثم يعود ويناقض نفسه، ليشهد لكليهما بأعظم الشهادة، ويسجل لهما الإشادة والتبجيل، ولا يعتذر عن أحكامه الجزافية السابقة، التي أصدر نقيضها لاحقًا، وكأنه لا يشعر بهذا التناقض الذي تورط فيه؟!

ما الذي جرى لقصي بعد صدور كتاب عبد الله؟! فهو، على سبيل المثال وليس الحصر، كان قد أسهب في التقليل من شأن وأهمية وقوة تأثير مساهمات أمارتيا سن، وعلل تجاهله له بأنه مفكر رأسمالي وليس اشتراكي، وأنه شهرته سببها الآلية الرأسمالية الغربية، التي تقف وراءه، و، و…الخ، ثم عاد الآن، مناقضًا نفسه، فيشيد بأمارتبا سن وهو يعمل على إجراء المقارنات معه. كتب الدكتور قصي عن كتاب أمارتيا سن، قائلاً:


"… ثم في 1999، صدر كتاب أمارتيا سن، "التنمية كحرية"، وكان قبلها بسنة قد حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد... يطرح سِن، كخلاصة من خلاصات انخراطه في قضايا التنمية لعقود، أن تعريف التنمية هو الزيادة في شروط ومحتوى الحرية، على المستويين الفردي والجماعي، والحرية هنا تشير إلى خمس حريات أداتية (أي وسائل) هي: الحريات السياسية المتعارف عليها، التسهيلات الاقتصادية، الترتيبات الاجتماعية، ضمانات الشفافية، والأمن الوقائي. مع ذلك يطرح أيضا أن تكامل هذه الأنماط من الحريات يقودنا إلى فهم أن الحرية هي غاية التنمية ووسيلتها الأساسية لتحقيق التنمية كذلك. في مجمل كتابه، يستند سن في أطروحته على كتابات الاقتصاديين اللبراليين المعروفين، مثل آدم سميث وفريدرك هايك، لكن الأطروحة العامة من الناحية الفلسفية التجريدية مترابطة ووافرة الإقناع، أما من الناحية التطبيقية وناحية النماذج المقدمة فقد استند سن على دراسات واسعة (منها دراساته هو نفسه)".


كما وعدنا الدكتور قصي في مساهمته بورقة يعكف على كتابتها، سيتناول فيها، كما قال في ختام مساهمته: "الاتجاه الفكري التنموي القديم لدى الحركة الافروعمومية في الربط بين التنمية والتحرر، مع اعتبار نيريري أحد أعمدة التفكير التنموي ضمن الحركة الافروعمومية". ثم في ختام خاتمة ورقته، أشار للأستاذ محمود حيث أضاف، قائلاً: "ثم لدينا بعد ذلك مقارنات أخرى وشخصيات أخرى (مثل التقاطعات الكثيرة، المثيرة للاهتمام، بين مواقف وآراء نيريري ومواقف وآراء محمود محمد طه في عدة مسائل)، ومنها المزيد من التفصيل حول المقارنة بين كتابي "الحرية والتنمية" و"التنمية كحرية" وملابساتهما.)".


رؤية الأستاذ محمود محمد طه تجاه التنمية تثير حراكاً واسعاً

مقاربة د. عبد الله الفكي البشير بين آراء الأستاذ محمود محمد طه والبروفيسور أمارتيا سن تجاه التنمية تلهم المتخصصين في التنمية وتدفعهم لفتح باب المقارنات دون الاعتراف بالفضل



(3-7)

"والتبشير بالإسلام أمر يتطلب أن يكون المبشِّر، من سعة العلم بدقائق الإسلام، وبدقائق الأديان، والأفكار، والفلسفات المعاصرة، بحيث يستطيع أن يجري مقارنة تبرز امتياز الإسلام على كل فلسفة اجتماعية معاصرة، وعلى كل دين، بصورة تقنع العقول الذكيَّة". (محمود محمد طه، الثورة الثقافية، 1972، ص 17).


مقاربة د. عبد الله بين الأستاذ محمود والبروفسيور سن تربك المتخصصين وتظهر تناقضات مواقفهم منها


عندما صدر كتاب عبد الله، وفي أول ندوة نُظمت لتدشينه في مساء الجمعة 15 أكتوبر 2021 في أم درمان، هاج وماج البعض، وأبوا تلك المقاربة، بحجج جليدية، ذابت كلها أمام شمس الحق. لقد تجلت الحجج في تلك الندوة في حديث ثلاثة من المثقفين، اثنين منهما جمهوريون والثالث صديق للجمهوريين، الثلاثة هم: الدكتور عمر القراي، والدكتور محمد جلال هاشم الذي كان المعقب الأول، بينما أعتذر المعقب الثاني، الدكتور مجدي عزالدين في آخر لحظة. ذكر محمد جلال هاشم بأن كل ما أورده في الندوة من حديث كان بالاشتراك والتشاور مع الدكتور قصي همرور، الذي لم يكن حاضراً للندوة، ولكنه مثَّل الصوت المكمل للثلاثي في الندوة، إذ جاءنا صوته عبر محمد جلال هاشم. (للمزيد أنظر مقالنا الذي تم توزيعه في مجموعات الإخوان الجمهوريين، وجاء في خمس حلقات، وكان بعنوان: "حول نقد الدكتور القراي لكتاب أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية: التنمية حرية- محمود محمد طه وأمارتيا كومار سن (مقاربة)، تأليف الدكتور عبد الله الفكي البشير، تمخض الجمل فولد فأراً"، (يمكنني تزويد من يطلب المقال بنسخة).

كان من بين تلك الحجج أن الأستاذ محمود لا يقارن، وتبين أن المقارنة التي جاءت في كتاب عبد الله قد تمحورت حول موضوع التنمية، وليس بين الرجلين. ثم اكتشفنا، ما ينسف حجة أن الأستاذ محمود لا يقارن من أساسها، بل يبرز عدم اتساقها مع الفكرة الجمهورية، إذ أكتشفنا أن الأستاذ محمود يدعو لإجراء المقارنة بين الإسلام والفلسفات المعاصرة والأديان الأخرى، بصورة تبرز امتياز الإسلام، وتقنع العقول الذكيَّة، كما ورد في صدر هذا المقال. ومن الحجج التي صاغها الثلاثي في تلك الندوة، كذلك أن البروفيسور أمارتيا سن صنعته الدوائر الغربية والرأسمالية... إلخ. وحينما حدثهم عبد الله في كتابه ومحاضرته عن الصيت والأثر الكبير لكتاب أمارتيا سن في تكييف الوعي الجمعي العالمي تجاه الفكر التنموي، خاصة في الجامعات ومراكز البحوث والدراسات في مختلف أنحاء العالم، غالطوا وكابروا. وأضاف الدكتور قصي لاحقاً، وبصورة خاصة، قائلاً: إنه لم يهتم بأمارتيا سن، ولم يركز عليه، ليس لأسباب تتصل بعدم اطّلاع، بل نسبة لموقف نقدي، فهو قد قرأ سن، ولكن تجاوزه لأن سن لم يكن إشتراكياً!!!

واليوم يعلن الدكتور قصي بنفسه عن تلاشى حجته تلك، فيظهر اهتمامه الكبير بكتاب أمارتيا سن ويُوعدنا بإجراء مقارنات معه، كون كتاب سن من الأهمية بمكان في الجامعات في العالم. حيث يقول الدكتور قصي: "في دراسات التنمية، في الجامعات، حاليا، يصعب أن يتخرج المرء بدون أن يكون قد مرّ على كتاب أمارتيا سن هذا، لأن به تأطير تعريفي للتنمية يختلف عن تأطيرين ثانيين أساسيين: التأطير اللبرالي الكلاسيكي والتأطير النقدي/الجذري اليساري (وهو من ناحية التأطير جديد نسبيا وجدير بالقراءة والاستعمال، ومن ناحية محتوى الأطروحة فمجمل حججه الكبرى نتيجة تراكمات في دراسات التنمية يمكن أن نجدها في كتابات أخرى متفرقة من السبعينات حتى التسعينات، لكن لأمارتيا سن نكهته ومساهمته المهمة فيها)".

وفي تقديري، أن أسباب تغيير الدكتور قصي لموقفه من تجاوزه لكتاب أمارتيا سن بسبب موقف نقدي، إلى الاهتمام به، لا يعود إلى كون أن سن أصبح اشتراكياً بين ليلة وضحاها، ولكن يرجع السبب، وبشكل مباشر، إلى تأثير كتاب عبد الله القوي والفعَّال في فضاء دراسات التنمية، خاصة في تسليط الضوء على كتاب أماريتا سن، خاصة وأن كثير من المتخصصين لا يعرفونه، دعك من المهتمين والقراء، هذا إلى جانب أن كتاب عبد الله قد قدم طرحاً عابراً لمسلمات المتخصصين السودانيين في التنمية تجاه أمارتيا سن، وطرحاً عابراً كذلك لمسلمات بعض الجمهوريين في رفضهم لمقارنة آراء الأستاذ محمود مع آخرين، فضلاً عن دور كتاب عبدالله العظيم والجليل في نشر ثقافة إجراء المقارنات. ولكل هذا فإن كتاب عبد الله نسف كل الحجج الواهية والوهمية، وأعاد الاعتبار لأهمية المقارنات مع آراء الأستاذ محمود محمد طه، ومع كتاب أمارتيا سن، بدلاً عن الانكفاء على قناعات وحجج لا تجد تبريرها إلا في الكسل العقلي أو الجهل بأمارتيا سن، أو عدم الاعتراف بالفضل.


رؤية الأستاذ محمود محمد طه تجاه التنمية تثير حراكاً واسعاً

مقاربة د. عبد الله الفكي البشير بين آراء الأستاذ محمود محمد طه والبروفيسور أمارتيا سن تجاه التنمية تلهم المتخصصين في التنمية وتدفعهم لفتح باب المقارنات دون الاعتراف بالفضل



(4-7)

"والتبشير بالإسلام أمر يتطلب أن يكون المبشِّر، من سعة العلم بدقائق الإسلام، وبدقائق الأديان، والأفكار، والفلسفات المعاصرة، بحيث يستطيع أن يجري مقارنة تبرز امتياز الإسلام على كل فلسفة اجتماعية معاصرة، وعلى كل دين، بصورة تقنع العقول الذكيَّة". (محمود محمد طه، الثورة الثقافية، 1972، ص 17).


قُصي يستغرب! وعبد الله يستغرب! وشتان!!!


كتب قصي في مساهمته، قائلاً: "فالبنسبة لي، أثناء الدراسات العليا، كان طبيعيا أن أمرّ على كتاب سن، فقرأته كله في 2016، واستندت عليه كأحد المراجع في دراساتي، لكني كذلك، في نفس العام، قرأت كتاب نيريري "الحرية والتنمية"، وهو بخلاف كتاب سن غير مشهور، بل لم ينصحني به أحد في الأكاديميا إنما سعيت له بنفسي وقرأته في تنزانيا. لذلك، ولعدة اسباب أخرى، فإن هذين الكتابين كانا دوما في نظري يتحدثان عن نفس مسار التنمية العام (نظريا) لكن بلغتين مختلفتين ووفق موقفين مختلفين عموما في الاقتصاد السياسي. مؤخرا، ولعدة أسباب أيضا، بدت تتراءى لي مسببات أكثر وراء اشتهار أحد الكتابين وقلة اشتهار الآخر (رغم أن الآخر هو الأقدم بحوالي 30 سنة، ورغم أنه صدر عن دار جامعة أكسفورد وهي نفس الجامعة التي درّس فيها سن اقتصاديات التنمية في نفس الفترة التي صدرت فيها كتب نيريري المعنية)؛ ثم من الأشياء الغريبة (وليست غريبة تماما) أن كتاب أمارتيا لا يشير لكتابات نيريري أبدا، ...".

هل يعقل، بعد صدور كتاب عبد الله، أن يكتب أي مطلع عليه سواء كان جمهورياً، أو قل مطلع دارس للفكرة الجمهورية، أو متخصص في التنمية، مساهمة مثل هذه، يركز فيها على التقارب بين رؤيتي التنمية كحرية عند كل من المفكر والمعلم التنزاني الراحل جوليوس نيريري، والبروفسير أمارتيا سن، ويستغرب فيها عدم إشارة أمارتيا لكتابات نيريري، السابقة لكتابات أمارتيا بثلاثة عقود، ولا يستغرب عدم الإشارة والاهتمام برؤية الأستاذ محمود للتنمية وصلتها بالحرية السابقة لرؤية نيريري بعقدين من الزمان؟ ولا يشير على الأقل إلى كتاب عبد الله الذي أستغرب قبله لعدم إشارة أمارتيا سن للأستاذ محمود، ويفصل بينهما ليست، ثلاثة عقود، وإنما نحو خمسة عقود، كما فصل عبد الله في كتابه.


قصي لا يزال في الضفة الأخرى يحاجج بالنحت ويجادل بمخرجات العلم التجريبي المادي


في الوقت الذي وصل فيه بعض القراء إلى مغزى كتاب عبد الله وعبروا معه إلى الضفة التي نحن فيها، كما سنورد لاحقاً أحد النماذج، وللمفارقة بروفيسور من تنزانيا، بلد نيريري، فإن قصي لا يزال يحاجج بالنحت، ويجادل بمخرجات العلم التجريبي المادي. فلقد أوضح عبد الله في كتابه أن رؤية الأستاذ محمود تجاه التنمية تنطلق من دعوته لإرجاع الحياة إلى الله، وأن منشأ العلوم في حاجة ماسة وضرورية للمزج بين العلم التجريبي المادي ومع العلم التجريبي الروحي، نسبة لوحدة الوجود، وأن تعريف التعليم هو تمليك الحي للقدرة، أي القدرة على تكيَّف الإنسان مع البيئة، وأن عناصر البيئة هي المعلم المباشر، بينما المعلم الأصلي هو الله، وأن الحرية هي العبودية لله، وأن سبب أزمة الأخلاق في العالم تتصل بالتخلف بين تقدم العلم التجريبي، وتخلف الأخلاق البشرية، وقد فصل عبدالله في كتابه كل ذلك تفصيلاً دقيقاً ومسدداً، في مواقع مختلفة من الكتاب. فقد كتب عبد الله، قائلاً: "أرجع طه أزمة الأخلاق، التي أدت للاضطرابات التي يشهدها عالم اليوم، إلى سبب أساسي، وهو مدى التخلف بين تقدم العلم التجريبي، وتخلف الأخلاق البشرية. ويرى بإن العلم التجريبي الحديث رد مظاهر المادة المختلفة، التي تزخر بها العوالم جميعها، إلى أصل واحد، وأن البيئة التي يعيش فيها الإنسان هي بيئة روحية ذات مظهر مادي. هذا الاكتشاف الجديد، كما يرى طه، يواجه الإنسان المعاصر بتحد حاسم، فالعلم المادي التجريبي، والعلم الروحي التجريبي، التوحيدي، اتحدا اليوم في الدلالة على وحدة الوجود. ولهذا فإن عليه أن يوائم بين حياته وبين بيئته هذه القديمة الجديدة، وبهذه المواءمة والتناسق يكون الرجوع إلى الله بعقولنا، بل وبكل كياننا، حتى نحقق العبودية لله. والعبودية لله، عند طه، هي غاية الحرية، وكلما زاد العبد في التخضع لله، كلما زادت حريته. فبالعلم التجريبي لا نستطيع الرجوع إلى الله، وإنما أسرع الطرق للرجوع لله يكون عن طريق الفكر، النابت في البيئة الروحية. والفكر، كما يرى طه، أسرع من الضوء، وبالطبع أسرع من الآلة التي ينجزها العلم التجريبي. ولهذا فإن قواعد الأخلاق البشرية إذا لم ترتفع إلى هذا المستوى فترد جميعها إلى أصل واحد، الأصل الروحي، كما ردت ظواهر الكون المادي إلى أصل واحد، فإن التـواؤم بين البيئـة، وبيـن الحيـاة البشرية، سيظـل ناقصاً، وسيبـقى الاضطراب الذي يعيشه عالم اليوم مهدداً الحياة الإنسانية على هـذا الكوكب بالعجـز، والقصـور، في أول الأمر، ثم بالفناء والدثور، في آخر الأمر". (عبد الله الفكي البشير، 2022، ص 257- 258).

كذلك تحدث عبد الله بتوسع عن التحرير من الخوف عند الأستاذ محمود، الأمر الذي لا وجود له عند أمارتيا سن أو نيريري، وغاب عن الكثير من المتخصصين في التنمية، بينما التقطه البروفيسور كورنيل وست، حيث أورد عبد الله، ما كتبه البروفيسور كورنيل وست. كتب وست، قائلاً: "ينظر طه إلى الإسلام باعتباره أسلوب حياة شامل ينمي الحرية -هزيمة الخوف- من أجل حياة كريمة تسودها المحبة". كما فصل عبد الله في كتابه رؤية الأستاذ محمود تجاه التحرر من الخوف باعتباره الطريق لاستئصال العبودية. والحرية عند طه، أمرها أوسع بكثير مما هو عند آمارتيا سن أو نيريري وغيرهما. فقد كتب عبدالله، قائلاً: "إن الشرط المركزي لنجاح عملية التنمية، عند طه، هو الحرية. كون الحرية، عنده، هي روح الحياة، فحياة بلا حرية، كما يقول، إنما هي جسد بلا روح... والحرية الفردية، عنده، تتطلب الحرية من الخوف الموروث، وهو ما لم يرد عند سن، والمترسب في أغوار النفس بسبب البيئة الطبيعية. وتقوم على الحرية من الخوف، كما يرى طه، حريتان اثنتان هما: الحرية من الفقر، والحرية من الجهل. والخوف من حيث، هـو، كما يرى طه، هو الأب الشرعي لكل آفات الأخلاق ومعايب السلوك. ولا سبيل للتحرير من الخوف، كما يقول، إلا بالعلم. فالخوف، عنده، جهل والجهل لا يحارب إلا بالعلم. العلم بحقيقة البيئة الطبيعية التي عاش، ويعيش فيها، والتي عن الجهل بها، نشأ الخوف في صدور الرجال والنساء، أول الأمر. ولا يكون التحرير من الخوف إلا بالعلم الذي يقود إلى اكتمال التـواؤم بين البيئـة الطبيعية، وبيـن الحيـاة البشرية".

وأضاف عبدالله، قائلاً: "إن تحرير الفرد من جميع صور الخوف عبر العلم بدقائق حقيقة البيئة الطبيعية، يحقق للفرد الاتساق والتواؤم والتكيف مع البيئة، فينتفي الجهل. كما يستطيع أن يعيش في سلام من العداوات، والمجاعات والكوارث البيئية. ولذلك وجب، كما يرى طه، الاهتمام بإعطاء الفرد صورة كاملة، وصحيحة، عن علاقته بالمجتمع والكون. إن العلاقة بين الإنسان والكون، كما يقول طه، ظلت مادة التعليم والتعلم، من لدن فجر الحياة البشرية وحتى اليوم. ولا ينفصل التعليم وفائدته ووظيفته عن البيئة وعناصرها. فالتعليم هو تمليك الحي للقدرة، وتَكمُن فائدته، كما يرى، في مقدرة المتعلم أن يوائم بين نفسه وبين بيئته، كما أن وظيفة التعليم هي أن يأخذ المتعلم صورة كاملة وصحيحة عن البيئة التي يعيش فيها. ولكن من هو المعلم عند طه؟ هو المعلم الواحد، الله، الله هو المعلم الأصلي، بينما المعلـم المباشر هو العناصر المتعددة في البيئة‏. والمادة التي يعلمها المعلم الواحد، الله، عند طه، هـي المقدرة على التواؤم بين الحي وبيئته. ويرى طه بأن كل عناصر البيئة حية، ولكنها حياة فوق إدراك العقول، ولا تصبح حيـاة في إدراك العقول حتى تخرج، من المادة غـير العضوية، المادة العضوية، وهـي ما تسمي، اصطلاحـاً، بالحياة. ولهذا فهو يقول: "الحياة أصدق من العلم". وما يجب ألا يغب على المرء أن مصدر رؤية الأستاذ محمود هو القرآن الكريم في مستوى آيات الأصول (الآيات المكية).

لقد ظل قصي في الضفة الأخرى، مع النحت، بينما وصل الكثير من القراء إلى الضفة التي فيها عبد الله، حيث دعوة الأستاذ محمود بأن مصدر المعرفة هو الله، وأن التعليم هو تمليك الإنسان للقدرة على التكيف مع بيئته والسعي لاكتشافها والإحاطة بها، وقد التقط ذلك عدد من المتخصصين الأذكياء، كما هو النموذج أدناه وهو بروفيسور من تنزانيا، بلد نيريري.



(5-7)

"والتبشير بالإسلام أمر يتطلب أن يكون المبشِّر، من سعة العلم بدقائق الإسلام، وبدقائق الأديان، والأفكار، والفلسفات المعاصرة، بحيث يستطيع أن يجري مقارنة تبرز امتياز الإسلام على كل فلسفة اجتماعية معاصرة، وعلى كل دين، بصورة تقنع العقول الذكيَّة". (محمود محمد طه، الثورة الثقافية، 1972، ص 17).


الله هو مصدر المعرفة GOD is the source of knowledge

قصي في مقارنته لأطروحات التنمية مع أمارتيا سن يولي وجهه نحو تنزانيا بينما البروفيسور كيدوانجا من معهد دراسات التنمية في تنزانيا يولي وجهه صوب أم درمان


في الوقت الذي يولي قصي، في مقارناته مع أمارتيا سن، وجهه تنزانيا، وناسياً أو متناسياً لمقارنة عبد الله المنطلقة من أم درمان، فإن أساتذة التنمية يولون وجوههم صوب أم درمان، ميدان الرسالة الذكية التي اشتمل عليها كتاب عبد الله. وليس هناك شهادة أبلغ وأفصح وأنصع على أن الرسالة التي اشتمل عليها كتاب عبد الله قد وصلت للعالم، مثل شهادة قادمة إلينا وبالتحديد من تنزانيا، بلد نيريري، وهو للمفارقة من بروفيسور متخصص في التنمية. فلقد كتب البروفسيور جمعة رشيدي كيدوانجا، الأستاذ بمعهد دراسات التنمية، جامعة دار السلام، دار السلام، تنزانيا، رسالة إلى الدكتور عبدالله الفكي البشير، ورد طرف منها، بعد موافقة البروفيسور كيدوانجا، كما أشار عبدالله، باللغتين في صحيفة المدائن بتاريخ الأحد 6 والأحد 13 مارس 2022، حيث كتب البروفيسور كيدوانجا، قائلاً:

"قدم المؤلفان مساهمة جديرة بالثناء في مجال التنمية. لكن طه ذهب إلى أبعد من ذلك ليشير إلى القضايا المهمة الآتية فيما يتعلق بمجال التنمية:

1. جلب الفهم الجديد للإسلام. فالإسلام، عند طه، يحتوي على معرفة (يقينية)، وليس مجرد عقيدة. لقد حققت بعض البلدان في هذا العالم تقدماً من خلال استخدام هذه المعرفة الراسخة في الإسلام.

2. دعوة الناس ليصبح لديهم المعرفة الكاملة عن بيئتهم من خلال الاكتشاف، والإدراك بأن الله هو مصدر المعرفة.

3. بيان الغرض من التنمية، وهو إنتاج أفراد أحرار.

ملاحظة: كان أصل النص أعلاه من الرسالة باللغة الإنجليزية، وهو كما جاء أدناه:

"The two authors have done recommendable contribution to the field of development. However Taha has gone further to point out the following important issues regarding the field of development:


1. Bringing the New Understanding of Islam.  Islam has certain knowledge and not merely a belief. Advancement  in some   countries in this world has been achieved though  using the knowledge embedded in the Islam.

2. Calling for people  to become completely   have the   knowledge  about  their place through discovery  . AND  GOD is the source of knowledge.

3. Pointing out the purpose of development  which is  to produce free individuals."


التقط البروفسيور كيدوانجا، أستاذ التنمية، جوهر رؤية الأستاذ محمود تجاه التنمية، وقال أن الأستاذ محمود محمد طه ذهب أبعد من أمارتيا سن، حيث: "دعوة الناس ليصبح لديهم المعرفة الكاملة عن بيئتهم من خلال الاكتشاف، والإدراك بأن الله هو مصدر المعرفة". ولا يمكن لأحد أن يزايد على البروفيسور كيدوانجا في معرفته بنيريري، أو يزايد عليه في معرفته برؤية نيريري تجاه التنمية، فهو متخصص في التنمية، ويتحدث من بلد نيريري، تنزانيا، ومن أكبر جامعاتها، جامعة دار السلام، وتحديداً من معهد دراسات التنمية الذي بدأ نشاطه عام 1973. فلقد قطع البروفسيور كيدوانجا لسان كل خطيب أو متخصص في التنمية يدعو للمقارنة بين أمارتيا سن ونيريري متجاوزاً لرؤية الأستاذ محمود محمد طه. شكراً جزيلاً البروفسيور كيدوانجا، ومرحباً بك وأنت تولي وجهك صوب أم درمان، حيث رؤية الأستاذ محمود محمد طه الشاملة تجاه التنمية.

والحق أن مقارنة عبد الله بين الأستاذ محمود والبروفيسور سن أحدثت، ليس فرقاً، وإنما تغييراً تجاه فهم أبعاد رؤية الأستاذ محمود التنموية، فاق تصورنا نحن الجمهوريون، بله غيرنا من المختصين والمهتمين والقراء. وهذا انجاز يضاف لإنجازات عبد الله الفكي البشير الضخمة والمدهشة، والتي استهلها بكتاب: صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، ،013؛ واتبعها بكتاب: الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف، 2020، وأضاف لها كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان، 2021، ولديه على وشك الصدور كتاب: المؤسسات الدينية: تغذية التكفير والهوس الديني (رسائل إلى خمس مؤسسات إسلامية منها الأزهر)، وكتب أخرى قادمة. كل هذه الكتب والكتب القادمة تصب في الانقلاب المعرفي الذي أحدثه كتابه الأول، والذي وضع الناس في مفترق طرق، وبعث حراكاً جديداً وضخماً حول الأستاذ محمود والفهم الجديد للإسلام/ الفكرة الجمهورية، ليس في السودان، فحسب، وإنما في الفضاء الإسلامي، ويسير الأمر نحو الإنسانية جمعاء. فما هو موقف قصي من ذلك الكتاب الذي صدر عام 2013؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تجعلنا نفهم موقف قصي اليوم.




(6-7)

"والتبشير بالإسلام أمر يتطلب أن يكون المبشِّر، من سعة العلم بدقائق الإسلام، وبدقائق الأديان، والأفكار، والفلسفات المعاصرة، بحيث يستطيع أن يجري مقارنة تبرز امتياز الإسلام على كل فلسفة اجتماعية معاصرة، وعلى كل دين، بصورة تقنع العقول الذكيَّة". (محمود محمد طه، الثورة الثقافية، 1972، ص 17).



الكتاب "المرجع" كما وسمه البروفيسور عصام البوشي يُحدث الثورة والانقلاب الفكري


وصف البروفيسور عصام البوشي، مدير جامعة ود مدني الاهلية، السودان، كتاب عبد الله الفكي البشير، صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، في تقديمه للكتاب، قائلاً: "الكتاب الذي بين أيدينا كتاب عظيم وجليل وخطير.. وهو كتاب يقف بنا في مفترق الطرق، ويؤرخ لمرحلة جديدة وفريدة في كتابة وصناعة التاريخ".. وأضاف البروفيسور عصام: "إن هذا الكتاب ذو طبيعة موسوعية غطت ما أهمله المؤرخون، عمداً أو سهواً، وما أخفاه أو تخطاه الأكاديميون والباحثون جهلاً أو خوفاً أو حسداً. وهو بذلك حرِيٌ بأن يكون "المرجع" (المعرف بالألف واللام) لكل من يود الكتابة عن الأستاذ محمود محمد طه منذ اليوم". وهذا وصف لأستاذ من كبار الجمهوريين، كان متابعاً لكل مراحل الكتاب منذ أن كان فكرة وحتى تبويبه وكتابته، ومن ثم نشره، وما بعد النشر، كما أوضح مؤلف الكتاب في صدر كتابه. وقد ظلت الأوصاف التي أطلقها البروفيسور عصام على الكتاب في مقدمته، تتبدى وتتجسد لنا مع مرور كل يوم جديد. كانت مقدمته كافية وعميقة ووافية، لإعادة التربية المعرفية وسد النقص في التربية الروحية لكل دارس للتطور السياسي والفكري السودان، ولكل عامل في إعادة قراءة التاريخ، أو مراجع للتاريخ المعلن، أو دارس لما بعد التاريخ المعلن، (هذه مصطلحات استخدمها الدكتور عبد الله في رده على البروفيسور فدوى عبد الرحمن علي طه)، كما ستأتي الإشارة لاحقاً. فقلد لاحظت أن أوصاف البروفيسور عصام للكتاب قد تبدت وتجلت في غزل المثقفين في الكتاب.

لقد وصف البروفيسور عبد الله علي إبراهيم كتاب عبد الله، قائلاً: "هذا كتاب فحل"، ووصفه كذلك، قائلاً: "هذا الكتاب هو ثورة"، وعلق البروفيسور يوسف فضل حسن عندما استلم نسخته من الكتاب، قائلاً: "هذا ليس بكتاب هذا انقلاب". ووصفه الدكتور محمد مستقيم، جامعة الجديدة، المغرب، قائلاً: "يتضمن هذا العمل الضخم ثمانية عشر فصلاً... تجعلنا أمام موسوعة فكرية شاملة". ووسمه الدكتور حيدر إبراهيم، قائلاً: "يعطي المؤلف درساً في التوثيق المحكم واليقظ والمتابع. إذ يبدو وكأنه يريد أن يقول: لن أفرط في الكتاب من شيء... إن الكتاب في حقيقته هو محاكمة للمثقفين السودانيين، والاكاديميا، والإعلاميين وكل من ساهم في تجاهل الاستاذ محمود أو تعمد اخفاء سيرته ومساهمتة المقدرة والمميزة". وكتب عنه الأستاذ فيصل محمد صالح، قائلاً: "هذا كتاب ثقيل في الوزن المادي وفي محتواه الفكري والثقافي والسياسي... هذا كتاب يستحق القراءة، وهذا الكاتب يستحق الانتباه له ومتابعته، فمشروعه الفكري والثقافي قد بدأ، وما زال في جرابه الكثير". وزعم الأستاذ صديق محيسي، قائلاً: "أزعم ان الكاتب الباحث عبد الله الفكي البشير قدم للمكتبة السودانية مالم يقدمه كاتب وباحث سوداني قبله في تاريخ الكتابة في السودان". وغيرها كثير. فما هو موقف قصي من كتاب عبد الله: محمود محمد طه والمثقفون؟

لم نقرأ للدكتور قصي ولم نسمع منه شيئاً عن كتاب عبدالله هذا، إلا بعد أن نشرت البروفيسور فدوى عبد الرحمن علي طه نقداً للكتاب، جاء بعنوان: نقدٌ وتوضيح لما ورد عن بعض الأطروحات الجامعية في كتاب الأستاذ عبد الله الفكي البشير: صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، رؤية للنشر والتوزيع القاهرة 2013"، ونشرته في 7 يناير 2015. ما أن نُشر النقد للكتاب، إلا وحضر الدكتور قصي في الساحة، وكأنه كان ينتظر النقد والنيل من الكتاب والتخطئة لعبدالله، فكتب، قائلاً:

"لم أقرأ للبروفيسورة فدوى عبد الرحمن قبل اليوم، لكني أرى مقالها أعلاه غاية في الأناقة والدّرَبة المنهجية، ولست على دراية بصحة ودقة محتوى التوثيق فيه، لكني أفترض فيه الصحة حتى الآن، فليس عندي أي سبب الآن لافتراض العكس. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فأرى أن عموم قولها عن ان ضعف الأثر الكمّي للحزب الجمهوري في الساحة السياسية السودانية حتى اليوم عايد إلى قلة ممارسة الحزب الجمهوري للعمل السياسي الجماهيري، قول صحيح في عمومه، فالحزب الجمهوري اختار هيكل الحزب السياسي العام، لبعض الوقت، في حين أن عمله الرئيسي لم يكن عمل حزب سياسي؛ إنما كان عمل حركة دينية، اجتماعية-سياسية (socio-political movement) تعتمد على التغيير من الجذور - التغييرالفكري والثقافي - بأدوات التوعية والإقناع. هذه ليست أدوات الأحزاب السياسية (نسبيا)، لأن الأخيرة تعتمد أكثر على استراتيجيات التنظيم وتكتيكات الحشد (organization and mobilization) والصوت العالي. صحيح أنه كانت للأستاذ محمود شخصيا مواقف سياسية قوية وسابقة لزمانها، لا تخطئها العين، لكن ذلك لا يُترجَم بالضرورة إلى أثر سياسي واسع في الميدان العام. الكثير من أصحاب الرؤى الثاقبة والمواقف القوية عبر التاريخ لم تلحق المجتمعات باحترام قدرهم إلا بعد فترة، ولكونهم كانوا سابقين لزمانهم كان ذلك أيضا حاجزا موضوعيا بينهم وبين التأثير المباشر على سيرورة الأحداث السياسية في زمانهم". وأضاف قصي، قائلاً: "بعد مرحلة الإشادة بالكتاب، وبالمجهود الضخم الذي بذله أخانا عبد الله الفكي البشير، تأتي مرحلة التفاعل النقدي الجاد في مثل هذا المستوى، الأمر الذي يعطي الكتاب تواجدا أكبر وأكثر استدامة في ساحة التفاكر السودانية، فأي إنتاج لا يلقى سوى عموم المدح سرعان ما يبدأ في الغياب من الساحة، في الغالب، لتناقص معدل التفاعل معه". ثم ألتفت معلناً تشوقه لقراءة تعقيب عبدالله، إذ كتب، قائلاً: "أتشوق لقراءة تعقيب أخي وصديقي عبد الله الفكي، فما أراه أن هذا المقال يخاطب عبدالله في مستوى الاحترام الأكاديمي الذي يستحقه بجداره، وعليه أتوقع أن يكون عبدالله سعيدا بهذا المقال ومتحمسا للتجاوب معه بنفس القدر من الأناقة المنهجية". مع وافر المحبة والتقدير للجميع، قصي همرور.

إن قول الدكتور قصي: "لم أقرأ للبروفيسورة فدوى عبد الرحمن قبل اليوم، لكني أرى مقالها أعلاه غاية في الأناقة والدّرَبة المنهجية، ولست على دراية بصحة ودقة محتوى التوثيق فيه، لكني أفترض فيه الصحة حتى الآن، فليس عندي أي سبب الآن لافتراض العكس". يكشف هذا القول عن جهل كبير بدور الأستاذ محمود في تاريخ السودان، وعن حجم وطبيعة العمل الذي قام به. كما يكشف القول كذلك عن عجلة قائلة ومكابرته، بل يعبر عن قصر نظره وانخفاض سقف تصوره تجاه الفكرة الجمهورية، وتجاه الكتاب ومستقبله، كون الكتاب أحدث انقلاباً في الأكاديميا السودانية، وفجر ثورة في العديد من المجالات، منها على سبيل المثال، لا الحصر، تاريخ السودان السياسي، والعلوم السياسية والعلوم الاجتماعية، والدراسات الفكرية، ودراسات المرأة، ... إلخ بل جعل من دور الأستاذ محمود محمد طه ورؤيته تجاه السودان، بمثابة البوصلة التي تحدد المسار القراءة للتطور السياسي والفكري في السودان. وأذكر أن العديد من المثقفين عبروا عن أنهم بعد صدور كتاب عبد الله هذا، فإنهم لا يقدمون على الكتابة عن الأستاذ محمود أو الفكر الجمهوري أو مسار السودان السياسي أو الفكري إلا والكتاب بجوراهم يستشيرونه ويدققون معلوماتهم على ضوء ما جاء فيه.  لم يكن الدكتور قصي مدركاً لكل هذا، بل ظل يكابر حتى بعد تعقيب الدكتور عبد الله على البروفيسور فدوى.

الشاهد لم تمر أيام قليلة، إلا وجاء تعقيب عبد الله على نقد البروفيسور فدوى، فكان زلزالاً هز كل أركان العلوم السياسية والفكرية والدراسات التاريخية والعلوم الاجتماعية، والمؤسسات الأكاديمية والبحثية. وفي تقديري الخاص، أن عبد الله بكتابه وتعقيبه على البروفيسور فدوى، قد أشعل الثورة في سماء السودان، وفي عقول شبابه ومثقفيه. جاء رد عبد الله في ثلاث حلقات بعنوان: "تعقيب على البروفيسور فدوى عبد الرحمن على طه: التنقيب عن (ما بعد التاريخ المعلن) في صحائف المؤرخين وإرث الأكاديميا السودانية". كان تأثير التعقيب، الذي أعدكم بإعادة نشره كاملًا قريباً إن شاء الله، كبيراً وأحدث دوياً عاتياً، وسأكتفي هنا بشهادة أكبر أستاذ لتاريخ السودان الحديث والمعاصر، والذي ظهر، في تقديري، بأكبر قامة للتواضع أمام كتاب عبد الله، وهو البروفيسور حسن أحمد إبراهيم، أستاذ كرسي تاريخ السودان بكلية الآداب، جامعة الخرطوم. (لقد سبق وأن نشر الدكتور عبد الله شهادة البروفيسور حسن وتعليق البروفيسور عصام البوشي عليها في صالون الإخوان الجمهوريين). فبعد أن أطلع البروفيسور حسن على حلقات عبد الله في الرد على البروفيسور فدوى، كتب إلى الدكتور عبد الله، قائلاً: "أطلعت بِحِرْصٍ شدِيدٍ علي المقَالات الثلاث التي أَجدها محقة في ما ذهبت إِليه من قُصورٍ في الدراساتِ السُّودانيَّةِ وفجوة لابد من الاعتراف بِها والتداعي لسدها بدلا من دفن رؤُوسِنا في الرمال. ولا أَدرِي لماذَا يُكَابِر الناس حيث أَن ما قلته في سفرِك القيَّم عين الحقيقَة. أَشكرك علَي لفت نظَرِنا جميعاً لهذا الأَمر المهم. لك الود والتقدير". وهذه شهادة كبيرة ومن عالم كبير، وقد علَّق البروفيسور عصام عبد الرحمن البوشي على شهادة حسن أحمد إبراهيم أعلاه، قائلاً: "قِلَادَةُ شَرَف لك، وَاِعْتِرَاف عَالِم انْحنَى للحق".

وبعد كل هذا جاء الدكتور قصي، وبعد أن قرأ تعقيب عبد الله "المزلزل" على البروفيسور فدوى، فكتب، قائلاً: لا أزال عند موقفي بأن الحزب الجمهوري اختار هيكل الحزب السياسي العام... إلخ. وقد أدهشني قول قصي في ذلك الوقت ولا أزال، ولا تعليق هنا لشدة المكابرة والتعالي على الحق. ولقد ظللت أردد بأننا في حاجة لبعث فضيلة الرجوع إلى الحق في المجتمع الجمهوري. فمن يستعصى عليه الرجوع إلى الحق يكون قد فقَد الكثير، كون عدم الرجوع إلى الحق يسلب الفضائل، كما أن أنوار الحق لا تصدر من المتعالي غير المتواضع، الناكر للحق.



(7-7)

"والتبشير بالإسلام أمر يتطلب أن يكون المبشِّر، من سعة العلم بدقائق الإسلام، وبدقائق الأديان، والأفكار، والفلسفات المعاصرة، بحيث يستطيع أن يجري مقارنة تبرز امتياز الإسلام على كل فلسفة اجتماعية معاصرة، وعلى كل دين، بصورة تقنع العقول الذكيَّة". (محمود محمد طه، الثورة الثقافية، 1972، ص 17).


حينما يُتخذ التخصص وسيلة للتعالي وأداة لبناء الحواجز والإقصاء


عندما نشر الدكتور قصي مقالاً عن كتاب الدكتور عبد الله: أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية: التنمية حرية- محمود محمد طه وأمارتيا كومار سن (مقاربة)، وجاء المقال بعنوان: "شجن القضايا الكبرى- التنمية: كتـاب جديـــد ومقــاربـــة جــديـــدة"، (13 أكتوبر 2021)، كان الدكتور قصي مشغولاً بالتخصص، انشغالاً يكشف عن تعال كثيراً ما يمارسه المتخصصون العاجزون عن المواجهة، أو يمارسه أولئك الذين يرون بأن مجال تخصصهم عصي على غير المتخصصين فيه، وهذا وهم عند المتخصصين، وهو وهم مترع بالتعالي، ومفعم بنقص العلم، وفي هذا تقول الفكرة الجمهورية لكل مشغول بالتخصص، بأن التخصص حجاب، ويسد الأفق، كما سيرد التفصيل أدناه.  كتب الدكتور قصي في صدر مقاله: "وهذا الكتاب يعتبر ضمن سلسلة مؤلفات لصاحبها الباحث المحقق، عبد الله الفكي البشير"، وغني عن القول عن أن مفردة "المحقق" تذكر بتخصص عبد الله في مجال التاريخ. وأضاف الدكتور قصي، بعد أن تحدث عن الكتاب، قائلاً: "من ناحيتنا، ومن باب المعرفة والدربة المعقولة بمجال دراسات التنمية، يمكن أن نقول...". ومن ناحيتي لم أر عجزاً في الدربة ونقصاً في العلم بالتنمية أبرزته مقارنة عبد الله في كتابه آنف الذكر، مثل عجز المتخصصين في التنمية من الجمهوريين تحديداً، ومن الدكتور قصي بصورة أدق في التحديد. فقد جاء الدكتور عبد الله، الدارس للتاريخ، و "الباحث المحقق" كما وصفه الدكتور قصي، بما فات على المتخصصين، وسد فراغاً في دراسة التنمية في فضاء الفكرة الجمهورية، وقد ظل هذا الفراغ على مدى عقود، وظل بيننا متخصصون في التنمية والاقتصاد من الأكاديميين وغير الأكاديميين، وكان أحدثهم وآخرهم حتى يوم الناس هذا، هو الدكتور قصي. لقد زلزل كتاب عبد الله الأرض تحت أقدام أهل التخصص في التنمية والاقتصاد من الجمهوريين، وبدلاً من التعلم من مقارنة عبد الله، وإعادة النظر في موقفهم من رؤية الأستاذ محمود الشاملة تجاه التنمية، قرر الدكتور قصي المتخصص في التنمية استلاف فكرة عبد الله، دون الاعتراف بالفضل له، أو إعطائه ميزة الذكر في مساهمته (يوم 11 مارس 2022)، لإجراء المقارنات بين أمارتيا سن وآخرين في التنمية ولم يكن من بينهم الأستاذ محمود محمد طه. وإنما أشار في ختام خاتمة مساهمته فكتب قائلاً: " ثم لدينا بعد ذلك مقارنات أخرى وشخصيات أخرى (مثل التلاقيات الكثيرة، المثيرة للاهتمام، بين نيريري ومحمود محمد طه في قضايا اجتماعية واقتصادية شتى ".

هنا استميح القراء عذراً في أنني سأعيد محوراً كنت قد نشرته ضمن مقال سابق، وهو محور، في تقديري، جدير بإعادة النشر، كونه يخاطب وهم التخصص وهو وهم كبير جاء به العلم التجريبي المادي وعمقه في العقول ، وينسف المحور، كذلك حجة كل معتقد بالتخصص من الجمهوريين والجمهوريات، وأول هؤلاء الدكتور قصي، وكل من وردت الإشارة إليه في المحور أدناه.


التخصص حجاب ويسد الأفق: إن الله يجتبي ويعلم بما يفوق تصورنا

وماذا عن تقصير المتخصصين في التنمية والاقتصاد تجاه رؤية الأستاذ محمود أو حينما لا يرونها؟


"كتب القراي، قائلاً: "وقد يقول قائل أن الأخ د. عبد الله لم ينقد أفكار بروفسير أمارتيا لأنه غير متخصص في الاقتصاد أو التنمية، ولم يدرس العلوم ذات الصلة بهما، مثل العلوم السياسية أو علم الاجتماع. فهو قد درس التاريخ فقط، وتخرج فيه من جامعة الخرطوم عام 1999م، وحصل منها على الماجستير في التاريخ عام 2005م، والدكتوراة عام 2017م. ولكننا لم نطالبه بنقد متعمق، وإنما كان يكفيه من باب الحياد الفكري، أن ينقل نقد علماء الاقتصاد المتوفر لكتاب بروفسير أمارتيا". هذا حديث لا يصمد أمام رؤية الفكرة الجمهورية تجاه العلم والتعليم والتعلم. فالعلم لا يأتي عبر الدراسات التي أشار إليها القراي، وهو يعلم ذلك جيداً، ولا أحتاج لتذكيره، والحق أنه ليس بالضرورة التخصص. فالأستاذ محمود يقول التخصص حجاب، والتخصص يسد الأفق. والقراي كتب عن عبدالله، قائلاً: "فهو قد درس التاريخ فقط". والحق أن دارس التاريخ هذا، قد أتانا متناولاً لرؤية الأستاذ محمود عن التنمية بما لم يأت به المتخصصون في التنمية والاقتصاد من الجمهوريين. فهل نتهمه بأنه غير متخصص وبس!! وماذا عن رؤيتنا في الفكرة الجمهورية عن التخصص والمعلم ومصدر العلم؟ علينا عدم الاستخفاف بالعقول، وعلينا عدم الحديث مع الناس من علٍ. علينا التواضع.

إن العلوم أصبحت في عالم اليوم متداخلة ومتقاطعة، وكذلك مناهج البحث أصبحت متداخلة، وأصبح هناك ما يسمى بالأنظمة المعرفية المتعددة multi-disciplinary  ، ولم يعد التخصص معيقاً في البحث والتمحيص والتنقيب الفكري. ثم هل نرهن تقديم الفكرة الجمهورية بالتخصص؟ وهل التخصص شرط للحديث في الفكرة الجمهورية؟ وهل نظل منتظرين للمتخصصين حتى نقدم الفكرة الجمهورية للعالم؟ ثم ماذا لو قصر المتخصصون في التنمية والاقتصاد من الجمهوريين، وقد قصروا؟! وماذا لو أن المتخصصين في الاقتصاد والتنمية من الجمهوريين لم يروا رؤية الأستاذ محمود تجاه التنمية، كما رآها الدكتور عبدالله؟ والحق يحمد للدكتور عبدالله أنه قام بما قصر عنه المتخصصون في التنمية والاقتصاد من الجمهوريين، فقد سد فراغاً كبيراً. كما لفت نظر المتخصصين في التنمية والاقتصاد من الجمهوريين وغير الجمهوريين لرؤية الأستاذ محمود تجاه التنمية. فالأمر، في تقديري، يتصل بالإذن والتوفيق والمدد لا بالتخصص، وهذا معلوم لدى الجمهوريين ولا أحتاج فيه لتفصيل. كذلك غنى عن القول بان أهم الكتب في الكثير من المجالات، كتبها كُتاب غير متخصصين في المجال، والأدلة على ذلك كثيرة، عالمياً ومحلياً...".

"لابد لي من الإشارة لما كتبته سابقاً، وهو أمر يتصل بالتخصص ومن واقع تجربة شخصية، فقد أتيحت لي الفرصة لدراسة الماجستير في جامعة أيوا الأمريكية، وهي جامعة مرموقة، ونلت منها درجة الماجستير في برنامج دعم التنمية بالعالم الثالث، Third World Development Support Program، وخلال دراستي في هذا البرنامج وقفت على الكثير من أدبيات التنمية، وأطروحاتها، والتي كانت بمرجعيات فكرية وثقافية مختلفةً، فضلًا عن سياقاتها العالمية والتاريخية، ولم يكن مناخ الاستعمار بعيدًا، ولم تكن كذلك أشواق التحرر بمعزل عن بعض تلك الأطروحات، غير أني لم أجد من الأساتذة الذين درسوني، ولم أجد كذلك مما درسته عن التنمية، ما وجدته في رؤية الأستاذ محمود تجاه التنمية، والتي قدمها عبدالله في كتابه. فلقد قدم عبد الله طرحاً جديداً، جعل من التنمية البوابة الجديدة للفكرة الجمهورية. وجاء ذلك من خلال كتاب قدم طرحاً علمياً ومقنعاً وشيقاً لرؤية الأستاذ محمود تجاه التنمية، وهي، في تقديري، رؤية كانت غائبة عند الكثير من الجمهوريين. لم نكن ندري بأن التنمية، التي هي عند الأستاذ محمود تعني نهضة المجتمع وتحرير الإنسان من الخوف والفقر والجهل والمرض، كانت حاضرة بهذا الوضوح والقوة في كتب مثل: قل هذه سبيلي، والإسلام، وطريق محمد، ورسالة الصلاة، والرسالة الثانية من الإسلام، ولا إله إلا الله، والقرآن ومصطفى محمود والفهم العصري، وتطوير شريعة الأحوال الشخصية، والثورة الثقافية، و تعلموا كيف تصلون،... إلى آخر مما أورده عبدالله في كتابه. وكنا في الوقع إذا ما ذكرت التنمية نستحضر عنوان كتاب الأستاذ محمود: الدين والتنمية الاجتماعية. وكما هو معلوم، فإن لكتاب في الأصل هو عبارة عن محاضرة قدمها الأٍستاذ محمود في السادس من شهر أكتوبر عام 1974، وبالطبع استندت المحاضرة على كتبه التي اشتملت على التنمية بصورة مدهشة وعابرة لفهومنا وتصوراتنا. وهكذا الفكرة الجمهورية، فهي مع كل يوم جديد تقدم لنا ما يفوق تصوراتنا وتوقعاتنا وخيالنا".


دعوة للتواضع وطوبى لمن عمل لهذه الدعوة (الفكرة الجمهورية) ولو بأقل القليل


إنني أدعو نفسي أولاً، والدكتور قصي أن يتواضع أمام كتاب: أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية: التنمية حرية- محمود محمد طه وأماراتيا كومار سن (مقاربة)، ويتصالح معه، ويتواضع أمام إنجازات الدكتور عبد الله وكتاباته، سواء في حواراته عنها، أو نقده لها، أو قراءته فيها، خاصة وأن كبار الكتاب و"المتخصصين" في السودان وخارجه، قد شهدوا بأنها كتابات ملتزمة التزاماً صارماً بالشروط العلمية وبالقيم الأخلاقية الرفيعة، كما أنها رفَّعت من مستوى صناعة الكتاب في السودان. وقد ظل الأستاذ محمود محور هذه الكتابات ومركزها. وفي تقديري أنها كتابات نادرة المثيل، ولم أر نظيراً لها. فهي عندي تأتي بعد كتب الأستاذ محمود محمد طه مباشرة. ولهذا فإن هذا العطاء الكبير الذي يقوم به عبد الله، في تقديري، يستحق منا الاحتفاء والاحترام، وقد قال الأستاذ محمود "طوبى لمن عمل لهذه الدعوة، ولو بأقل القليل".



bederelddin@yahoo.com

 

آراء