رحل رجلٌ وانكسر قلم (في رثاء البروفيسور عمر محمد الحسن شاع الدين)

 


 

 

رحل عن دنيانا عالمٌ فذ وكاتبٌ نحرير خلف وراءه ثروة علمية زاخرة. ذلكم هو خالد الذكر البروفيسور عمر محمد الحسن شاع الدين (صفيّ الدين) التقي الورع صاحب الجذاذت والقذاذات وانكسر بموته قلمٌ لا ككل الأقلام. كان عاملاً بعلمه مدركاً ل "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، فرفع الله درجته "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات". وكان تقياً نقياً فعلمه الله، " واتقوا الله ويعلمكم الله".

لقد فقد السودان واحداً من خيرة علمائه وأعلامه. إن فقد العالم فقدٌ لجزء من ميراث النبوة، و"فقد العالم مصيبةٌ لا تجبر وثلمةٌ لا تسد ونجمٌ طمس وموت قبيلة أيسر من موت عالم".

فاز بعلمٍ يحي به أبداً لأن الناس موتى وأهل العلم أحياء

وقد نذر كثيراً من كتاباته لموضوع العامية في السودان وأتي في ذلك بما لم تأت به الأوائل وصار علماً يستنار به في هذا المجال الخصيب.

كنت أتوق للعودة للوطن للقائه والأنس معه وكنت أود رد زيارته والعائلة لنا، وما زالت كلماته ترن نغما شجياً في أذنيّ وكنت أمني النفس أن أشارك في تكريمه والاحتفاء بسيرته الزاخرة وإنجازاته الكبيرة حياً. ولو كانت ظروف السودان مواتية كان الواجب علينا دولةً ومؤسسات وأفراد أن نحفظ له قدره ونعرف له مكانته وننزله منزلته "ليس منا من لم يعرف لعالمنا حقه".

الفضل في نبوغ استاذنا يعود لذائقته وشغفه لتحصيل العلم. ولوالده المستنير محمد الحسن شاع الدين فقد ربى أبناءه على الأدب والثقافة وكان علماً في مدينة أم روابة وصاحب مكتبة باذخة رحم الله عمنا محمد الحسن شاع الدين ورحم وريثه استاذنا صفيّ الدين.

كنت قد كتبت لأستاذنا صفيّ الدين رسالةً قبل أشهر علمت أنه لم يتيسر له قراءتها معدداً فيها مآثره وصلة الرحم بيننا، لعلي أوردها في ختام هذه المرثية فهي تكمل مآثر الرجل وجاء فيها:

"الحبيب محمد الحسن ابن الحبيب عمر شاع الدين سلام الله عليك ورحمة منه شآبيبٌ وبركات.
أرسل لي والدكم قبل أسابيع وأنا في واشنطن مجموعة من كتبه النفيسة فوددت أن أشكره على هذه المكرمة وهأنذا أكتب له رسالة عبركم أرجو التكرم بتوصيلها له. إلى الرسالة:

يا بن عم، أشهد أنك صفيّ الدين وصفيّ القلب وصفيّ العقل وأنك تقىٌ نقي. أحسست ذلك وتيقنته من أسطرك العامرة بألوان الفن والأدب الرصين المشحون بالعاطفة الصادقة والفكر الوضئ والسحر الحلال. أشكرك على السدر المخضوض وعلى فاكهةٍ كثيرةٍ لا مقطوعةٍ ولا ممنوعة. جاءتني كتبك الفخيمة هديةً نديةً في وقت أحوج ما أكون إليها بين جيئتي وذهابي من مشفى واشنطن الجامعي فتخفف علي من أهوال ما اكتشف الأطباء في جسدي الخائر. والصدق أنها كانت قمة الإمتاع والمؤانسة فتراني أتنقل من السدر إلى "القذاذات" ومن "الجذاذات" إلى "اللون الأبيض في لسان العرب". ومن فرط سعادتي بها كنت أقرأ بعضاً من فقراتها على ابنة أخيك فوزية فتسر منها سرورا.

ثلاثة أعرفهم من أسلوبهم وفكرهم الجهبذ عبد الله الطيب والحصيف عبد الله علي إبراهيم والنحرير عمر شاع الدين. أعرض على فقرةً من كتابات أيّهم فأقول لك هذا عبد الله على إبراهيم أو هذا عمر شاع الدين. أنتم متفردون ومن الصعب تقليدكم ليس لغرابة لغتكم بل لمفرداتكم الجزلة التي تستعصي على الآخرين. هذه الأسفار التي حملها إلي منكم ابن الأخ الفاضل محمد عثمان محمد عبد الله ومن نيوجيرسي إلي في واشنطن الحبيب عوض شاع الدين في زيارته لنا تستحق أن تقطعها أكباد الطائرات إلى بلد لم نكن بالغيه إلا بشق الأنفس.

تجدني يا بن عمي وأنا في غربة روحي وحيرتي من علتي اتلهف شوقاً لمثل هذا الأدب الراقى النبيل يسري عني فيطرد عني الكآبة ويدخل علي البهجة والحبور ويزيدني إعجاباً بك ودعاءً لك "فما أصدق مشاعر الوداد في الغربة". تقول يا بن عم أن الكتابة عبء جسيم ولكني أراها بين إبهامك وسبابتك تقطر سلسلاً من سلسل، "بخيط العنكبوت تنقاد" فلله درك. صحيح قولك أنها قليلةٌ هي الكتابات التي تملي عليك اعتناء صارماً واشتهاءً يسترفد العقل ويستوقده.

رأيتني أخي أتجول وأتحول بين رياضك اللفاء الغناء أشتم عبق ورودها ولا أقطفها.

إذا ما صح أن النبت حيٌ وأن النبت يألم حين يقطع
فإنا إن شممنا الورد يوماً شممنا جثةً بالعطر تسطع

رأيت قائمة أسفارك تحت الطبع فماذا أقول غير "زدن من كتبك شوية وكتر الأشواق عليا" فما أجد فيها إلا كل جميلٍ نبيل وأنا مثلك "أعترف بضعفي أمام كل جميلٍ نبيل". أشهد أنك قد سيلت لعابي لهذه الأسفار فتزداد شهيتي لقراءتها كلما قرأت فقرة أو فصلاً في فراديسك التي أعيش في رحابها.

أحن كثيراً لوطني وبيتي ومكتبتي ولم يغنني عنها أني أقيم الآن بين شواهق العمارات المترفة من حولي ولا تستهويني رغم ما بذل فيها من مال وعرق لأنه في نظري كما في نظرك "لا جمال في مجتمع ترى فيه قصراً يطل على أكواخ". فأمامي خيمة مهترئة تسع بالكاد شخصاً واحداً في أثمال ويقولون أنها عاصمة العالم.

أنا فخور بك يا بن عم وفخور بأن بعضاً من دمك الزكي بجيناته الكريمة يجري في عروق أبنائي. صحيح أن الأيام والشتات في طلب الرزق لم تسعفنا من الجلوس إليكم والاستئناس معكم والتعلم منكم وكم أتمنى أن لو يجمعنا الزمان فيما تبقى من الأيام فنجدد الود ونؤكد العهد." (إنتهت الرسالة)

لا أجد عزاءً في فقد االبروفيسور إلا قول أحد أهل العلم أن الانسان إذا وقع القدر عليه بفقد حبيب فليتذكر ثلاثة أشياء: أن الله يقدر بحكمة لأنه "يعلم وأنتم لا تعلمون"، ويقدر بعدل لأنه "لا يظلم ربك أحدا" ويقدر برحمة لأنه "أرحم الراحمين" فلنرض بقدر الله في أخينا صفي الدين وأنه لحكمة وعدل ورحمة. أجارنا الله في مصيبتنا.

أخوك الفقير إليه تعالى
حسن بلّه محمد الأمين

hassanbella@yahoo.com

 

آراء