رحيل سادن النضال الثوري النبيل، المناضل: عثمان البشري

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

hamidomer122@gmail.com

غيب الموت يوم الخميس الموافق 24 اغسطس 2023 بالقاهرة الاستاذ المناضل عثمان البشري (عثمان محمد البشري) بعد معاناة طويلة مع المرض، تحملها بصبر وإيمان معهودتين فيه، كدأب اهل العزم الصابرين علي المكاره والابتلاءات. نسال الله له الرحمة والمغفرة وان يلهم أسرته وأهله وأصدقاءه وعارفي فضله الصبر والسلوان.
الراحل كان مناضلاً، لا يحلو له المقام إلا وهو في وجه الفعل الثوري ، فقد تسنم خلال تلك الحياة الزاخرة زعامة أو رئاسة المؤتمرات الشعبية السودانية (علي النسق الليبي)، ومنصب منسق عام القوى الثورية العربية السودانية بليبيا ، كما كان له دور ونشاط بارز في الجبهة الوطنية المتحدة بزعامة المرحوم الشريف حسين الهندي في ليبيا .
حزني علي عثمان حزنٌ كبير وشخصي و لا تعبر عنه كلمات و عبارات متناثرة، وليس من معين علي فقده الا الصبر ولعله من رحمة الله وفضله علي عباده المؤمنين أن خصّهم بالصبر والقدرة علي تحمل الحزن والألم علي فقد من يحبون.
و"حاج عثمان"، كما يناديه أصدقاؤه، يعرفه كثيرون غيري، خاصة رفقاء دربه في النضال الثوري، عبر مسيرته العامرة بالبذل والعطاء، وعلاقاته النوعية والممتدة في جميع الاتجاهات داخل الوطن وخارجه، تجعل كثيرين غيري، ومنهم رفقاء دربه في النضال، أعلم وأجدر مني بمعرفة تفاصيل حياته في هذا الجانب وتوثيقها. ولكني أود ان أقف بإيجاز علي أربع مراحل او محطات في حياته، كان لها في اعتقادي، الأثر الأكبر في تشكيل وعيه السياسي العام وتكوين شخصيته، وبلورة رؤيته وقناعاته الآيدولوجية وانتمائه الفكري ، بل وحتي في حياته العامة، وحياته الأسرية التي يقدسها.
أولى هذه المحطات هي مولده ونشأته. فإذا ما نظرنا الى الخارطة الطبوغرافية لمدينة نيالا وما حولها، تلك التي رسمها الانجليز بدقة عام 1949 تقريباً، معتمدين في إعدادها علي الدواب وأحياناً سيرًا علي الاقدام، نتبين فيها، علي بعد 34 كيلومتر تقريبا شرق مدينة نيالا، وعلي بعد 10 كيلومتر شرق جبل أم كردوس، دائرة صغيرة داكنة، ترمز إلى قرية، مكتوب عليها باللغة الإنجليزية (البشري أبكر).تلك القرية يعود تاريخها إلى عهد السلطان تيراب . في تلك القرية ولد عثمان البشرى في عام 1951، من أسرة عريقة هناك، إذ كان جده البشرى عمدة منطقه ام كردوس، وجده الأكبر المعروف (ابكر جوه ) كان (راس ميه) في جيوش المهدية، ووالدته شقيقة الشيخ الورع الفكي الرضي عبد الله، ذائع الصيت في تلك المنطقة خاصةً بين البدو، وفي أجزاء واسعة من ولايتي جنوب وشرق دارفور.غادرعثمان تلك البقعة البدوية الرعوية وهو في السابعة من عمره إلى الجزيرة أبا ليعيش في كنف جده (عم والده). في تلك الفترة (و حتي أواخر الستينات من القرن الماضي) كانت الجزيرة ابا تعج بالأنصارالوافدين إليها، تحديداً من غرب السودان، وقد أتوها تدفعهم عقيدة دينية صادقة وولاء مطلق إلى درجة التقديس، (لأسرة المهدي)، وقد أستغلت الأسرة ذلك الولاء وحولت مريديهم من أنصارإلى عمال سٌخرة (يعملون بالمجان)، وبنوا عبرهم أكبر مؤسسة زراعية (وامبراطورية اقتصادية) عرفت بدائرة المهدي. كان الانصار يعملون بلا مقابل إلا (ما يكفي بطونهم فقط) في المشاريع الزراعية، ويمنحونهم صكوكاً دينية تتمثل في (الفاتحة) التي يرفعها لهم ابن المهدي إمام الأنصار، تضمن لهم امتاراً الى الجنة، كما كانوا يعتقدون .
شب عثمان البشرى وترعرع في الجزيرة ابا بين جموع الأنصاروشاركهم في سن مبكرة من عمره قساوة العيش والحياة البائسة بكل تفاصيلها المثيرة كما أوردها الدكتور الطيب هارون في كتابه (همس التاريخ )، الذي اورد فيه كل تفاصيل المسكوت عنه من تاريخ الجزيرة ابا واستغلال اسرة المهدى للأنصار البؤساء. عايش عثمان في الجزيرة أبا تلك المأساة التي تعرض لها الأنصار في ما يعرف بأحداث الجزيرة ابا في شهر مارس عام 1970، حينما توافد إليها الأنصارلنصرة الامام الهادي المهدي (عليه الرحمة) ، الذي اعلن معارضته الصريحة لحكومة نميري ومعه الاخوان المسلمون، ولم يمض على قيامها عام واحد، فلم تتوان حكومة مايو، في حسم (معارضة) الأنصارالملتفين حول إمامهم الهادي المهدي، فضربت الجزيرة ابا بالطائرات، فزهقت أرواح الأنصارالابرياء بلا رحمة، ولاحقتهم الحكومة فى مسجد ودنوباوى بامدرمان فضربتهم بمدافع اللهب. كان عثمان شاهدًا لكل تلك الاحداث المأساوية التي راح ضحيتها الانصار الابريا , فلا غرو ان يتاثر بها و تسهم فيما بعد في تشكيل توجهاته الايدولوجية و الفكرية ونضاله (الثوري) من أجل العدالة الاجتماعية. وربما كان مِثله في ذلك اخرون من أبناء الانصار، وان أختلفت انتماءاتهم ومدارسهم الفكرية، ولكن قاسمهم المشترك هو رفض الظلم والاستغلال لأهلهم البسطاء والعمل على النهوض بمجتمع الجزيرة ابا إلى حياة أرحب. كان عثمان يروي تلك الاحداث بمرارة وأسي مرددًا :من المؤلم حقًا ان يفلت مرتكبو ذلك الجرم من العقاب آوحتي المسأءلة الجنائية خاصةً بعد سقوط نظام مايو وأتت بعده الحكومة الديمقراطية (حكومه حزب الامه) برئاسة السيد الصادق المهدي عليه الرحمه ، ولم تجد هذه الأحداث حتي الاهتمام اللازم من المؤرخين ولا من ابناء الأنصار!
ثاني المحطات في حياة عثمان البشرى هي مراحله الدراسية ، وهي متصلة ايضاً بحياته في الجزيرة ابا. فوفق ما جاء في كتاب ( همس التاريخ ) لمؤلفه الدكتور الطيب هارون، "بدأ التعليم الديني بالجزيرة أبا بالخلاوي منذ بداية قدوم الانصار إليها. أما التعليم الاكاديمي فقد بدأ بافتتاح أول مدرسة أولية بالجزيرة أبا عام 1924، وهي أشبه بالمدرسة الخاصة، حيث مكث فيها ناظرها ثلاثين عاما!. وما كان ليبقي كل هذه المدة لولا تنفيذه لرغبات وسياسات إمام الأنصار عبد الرحمن المهدي. ورد أيضا في الكتاب المذكور، أن دائرة المهدي كانت لا تشجع شباب الانصار على التعليم بعد المرحلة الاولية وإنما تفضل أن يتفرغوا للإنتاج في أعمال ونشاطات السخرة بدائرة المهدى! ومن الذرائع التي تقدم لإقناع ذويهم هي أن ابناءهم سوف يطِّلعون علي ما يكتب في المجلات والكتب مما لا يتفق وحياة ابناء المسلمين، وأن علماء المسلمين منعوا قراءة كتب الفلسفة والطبيعة ، وأن الدائرة لا تشجع أبناءً العمال علي دخول المدارس، وأن يكتفوا فقط بالتعليم في الخلوة والانخراط في معسكرات انصار المهدى. مثل هذا القول الصادر من الإمام ، حتي لو كان قولاً مبطناً او تلميحاً يعتبره شيوخ الانصار (ومنهم جد عثمان)، توجيهاً من الإمام واجب النفاذ والاهتداء به. وبالفعل لم يتوان الجد في إلحاق حفيده بالخلوة ليحفظ القرآن وراتب الامام المهدي ، ولكنه أصرعلى جده أن يلحقه بالمدرسة فاستجاب الجد لرغبة حفيده وادخله المدرسة الصغرى شريطة أن يذهب بعد عودته من المدرسة إلى الخلوة حتى يحفظ القرآن، فحقق عثمان رغبة جده بحفظه القرآن بأكمله في سن مبكرة من عمره. وذكر عثمان ان جده رغم التزامه الصارم بتوجيهات الإمام، إلا أنه كان عطوفاً على حفيده، ربما ليعوضه حرمانه من حنان والديه الذين فارقهما وهو في السابعة من عمره. وكان قلّما يرفض له طلباً، خاصة حينما يلح برغبته في العودة إلى والديه.
تلاميذ المدرسة الصغرى التي التحق بها عثمان كانوا يدرسون اللغة العربية والدين والحساب لمدة ثلاث سنوات ويلتحق بعدها المحظوظون منهم بالمدرسة الاولية ليكملوا دراستهم ويجلسوا لامتحان دخول المدارس الوسطي. ولسوء طالع عثمان أنه قبل أن ينتقل إلى المدرسة الأولية زار اثنان من أحفاد المهدي الجزيرة أبا وكانا يلبسان الزي الأفرنجي، وهو زي يختلف عن (العراقي) الذي كان يرتديه ابناء الانصار في المدرسة. أعجب عثمان وإثنان من زملائه بالزي وطالبوا ذويهم بشراء مثله لهم. وكان الرد أن عوقب عثمان و زميلاه بالجلد والحرمان من المدرسة لمدة عامين دراسيين؛ لا لسبب غير أنهم طلبوا أن يُشترى لهم (اردية وقمصان/ أي زي افرنجي) مثل الذي يرتديه ابناء (السادة). وذلك تطاول وجرأة من أبناء الأنصار ومحاولة للتشبه بأبناء بيت السيد الامام وذلك أمر لم يكن مقبولًا ولن يمر دون عقاب يحدّ من مثل ذلك الطموح المتجاوز لحدود أدب إولاد الانصار، كما يرغب في تربيتهم إمامهم. ذلك الجرم المنكر كلف عثمان وصاحباه الجلد والحرمان من المدرسة عامين دراسيين ولم يعد إليها إلا بعد إلحاح و إصرار منه لدرجة (اضرابه ) عن تناول الطعام وإلحاحه المستمر للعودة به الي ديار والديه ، وأيضا تدخل شقيقه الأكبر ابراهيم محمد البشرى (عليه الرحمة )، الذي نال قسطًا من التعليم ( حتي المدرسة الوسطى) بمدينة نيالا.
يبدو أن حادثة (الزي الافرنجي ) قد تركت جرحًا غائرًا في حياة عثمان، إذ ظل يذكرها مراراً، وآخر مرة سمعتها منه حينما أتيت إلى وداعه قبل يوم من رحلته الأخيرة إلى القاهرة.
بعد انتقاله إلى مدرسة كوستي الاولية ثم المدرسة الأميرية المتوسطة بنفس المدينة، وجد عثمان الدعم المادي والمعنوي من أخيه الراحل ابراهيم محمد البشرى، فأقبل علي الدراسة بكل جد ومثابرة أهلته للقبول في عام 1968 بمدرسة النيل الابيض الثانوية بمدينة الدويم. و كما هو معلوم في تلك الفترة، كانت المدراس الثانوية قليلة جدا ودخولها ليس بالأمر السهل، كما ان المدارس الثانوية آنذاك، كانت تعد مرحلة مهمة في حياة الطالب، حيث يتكامل فيها التلقي الاكاديمي مع الأنشطة الثقافية والرياضية والفنية والاجتماعية. وكانت المدارس الثانوية أيضا تمثل بدايات تبلور الانتماءات الفكرية والسياسية للطالب، ولعل من الملاحظ ايضاً ان الطلاب الذين يجمعون بين التحصيل الاكاديمي والانشطة المصاحبة الأخرى (الاجتماعية والثقافية والرياضية وحتي السياسية)، كان جلهم من المتفوقين والمبرزين في مراحلهم التعليمية. كان لعثمان نشاطٌ سياسيٌ وثقافيٌّ ورياضيٌّ بارزٌ في مرحلته الثانوية، مما أهله لترأس اتحاد طلابها. وفي عام 1972 التحق عثمان بكلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم، فواصل فيها نشاطه السياسي، فأصبح المسؤول السياسي لتنظيم الجبهة الديمقراطية بكلية الاقتصاد بالجامعة، وهو منصب يتطلب قدرات سياسية وثقافية عالية، إذ يعد من أهم المناصب في التنظيمات الطلابية والاحزاب السياسية.
بعد تخرجه سنه 1976 من قسم الإحصاء في كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم، لم تستهوه الوظيفة التي كانت متاحة آنذاك في المصالح الحكومية اوالقطاع الخاص فهاجر إلى ليبيا. تلك كانت مرحلة مهمة في حياته ومليئة بالكثير المثير، لكن عثمان لم يبح بكل اسرارها. ففي ليبيا كانت له صلات متميزة مع شخصيات سياسية سودانية مهمة مثل السياسي السوداني المرموق الشريف حسين الهندي، عليه الرحمة، وقد ساهم معه عثمان وآخرون في تأسيس الجبهة الوطنية التي كانت تسعى لإسقاط نظام النميري. ومنهم أيضا الاستاذ المعروف عبد الله زكريا ادريس، احد الذين أعدو(الكتاب الأخضر) في ليبيا، وساهم معه عثمان في تأسيس الجبهة الشعبية الاشتراكية واللجان الثورية، والتي شغل فيها عثمان منصب منسق عام القوى الثورية العربية السودانية، ثم منصب الامين العام لتنظيم المؤتمرات الشعبية بالسودان. وفي تلك الفترة ايضا اوكلت له مهام حساسة تتطلب الجسارة الثورية والحصافة السياسية لتعلقها بالعمل السياسي الثوري في السودان ودول الجوار العربي والافريقي.
في منتصف عام1989 قررعثمان العودة الى ارض الوطن ليستقر ويستريح مع اسرته في مدينه نيالا، ويعوض والدته و زوجته الوفية الاستاذة عزيزة كِنٍيّن حرمان السنين. في طريق عودته من ليبيا إلى دارفور، وفى رتل من السيارات، بعضها محمل بمقتنياته الشخصية، حدث مالم يكن في الحسبان، لعثمان ومرافقيه، اذ اعترضتهم قوة مسلحة من الجيش التشادي (لحكومة الرئيس حسين حبري)، وكانت تلاحق المعارضة التشادية في داخل الاراضي السودانية في شمال دار فور. تم أسرعثمان وآخرين واقتيادهم الي تشاد، التي أعتبرت القافلة صيدًا ثميناً، ظناً منها أن تلك القافلة جاءت لدعم المعارضة التشادية. عند وصولهم وجهت لعثمان ومن معه تهمة مساعدة وتمويل المعارضة التشادية، وهي تهمة تصل عقوبتها حد الاعدام، وتعرض عثمان خلال اعتقاله لأبشع أنواع التعذيب الذى قلما يحتمله بشر، إذ تعرض للسحل بربطه وسحبه بالسيارة لمسافات طويلة في الرمضاء الحارقة وكبس عادم السيارة في فمه ثم نفخه، وضربه في الرأس بقوة حتي فقدانه الوعي، كل ذلك من اجل انتزاع الاعتراف والإقرار بالتهمة الموجهة إليه زوراً، ثم زُجّ به في السجن. وقد عرفت السجون التشادية آنذاك بقساوتها وبسوء معاملتها للمتهمين والنزلاء على السواء. وتواصل التعذيب لأكثر من ستة أشهرفي المعتقل التشادي، تحمله عثمان بشجاعة و صبر معهودين فيه، و كأني به متحديًا جلاده بقول الشاعر الابنودي:
"دوس يا دواس
ما عليك من باس
واكتم كل الأنفاس.
الضهر مليئ بالناس
إللى حبيتهم دون ما يبادلوني
الاحساس ".
ومن شدة التعذيب وسوء الطعام مع قلته، صار عثمان هيكلاً عظمياً لا يقوى على الحركة. ولولا عناية الله، للقي عثمان حتفه آنذاك في السجن التشادي في عام 1990.
ومع تفدم قوات المعارضة نحو العاصمة أنجمينا، والاقتتال الذي وصل أطرافها، صدرت الأوامر بتصفية المعتقلين وبخاصة عثمان البشرى وصحبه. ولكن قبل تنفيذ الأمر كانت المدينة في حالة من الهيجان والفوضى وعلى وشك السقوط في أيدي المعارضة، وبدأ انهيار القوات التشادية، ومن بينها الجنود المكلفين بحراسة السجن والذين بدأوا الفرار لينجو كل بنفسه. ومن لطف الله علي النزلاء والمعتقلين، سارع أحد الحراس، قبل فراره بفتح أبواب الزنازين وسمح للمعتقلين بالخروج سريعاً من السجن. فانقذت العناية الالهية عثمان وكتب الله له الحياة الي ان وافته منيته في القاهرة بعد أكثر من ثلاثين عاماً من ذلك التاريخ. وحسب تشخيص الاطباء فان العلة التي صاحبته من الضرب فى الرأس، رغم تطاول السنوات، كانت ذات صلة بالسبب المباشر في وفاته بالقاهرة. التعذيب الذي تعرض له عثمان في انجمينا أكده السفيرعمر مانيس في إفادته التي جاء فيها (رحم الله المناضل عثمان البشرى وتقبله في عليين مع الصديقين والشهداء. أُلْقِىَ به في معتقلات حسين حبري في النصف الثاني من عام1989, وتعرَّض عثمان لشتى أنواع التعذيب التي مات تحت وطأتها العديد. كنت حينها بالسفارة بانجمينا، وفي إحدى نشرات التلفزيون التشادي، عرضوا شريطا ومقابلات مع من زعموا أنهم مرتزقة. كانوا عبارة عن هياكل عظمية من شدة وصنوف التعذيب، وعثمان كان ضمنهم ولكننا لم نتعرّف عليه من فرط ما طرأ عليه من تغيير، عبارة عن جثمان يتحدث، ولكن المرحوم عثمان ذو إرادة من فولاذ وقوة تحمل لا تضاهى. صمد وصابرحتى سقط حبري وخرج عثمان إلى فضاء الحرية الرحب. ذهبت في وفد رسمي برئاسة وزير الخارجية إلى انجمينا، بعد أسبوع من هزيمة وهروب حبري، وعلمت أن عثمان اُخذ إلى المستشفى فزرْتُه ووجدْتُ آثار التعذيب باقية حية في جسده النحيل وخاصة افظع انواع التعذيب، ( كبس العادم في فمه وتشغيل ماكينة السيارة والضغط على دواس الوقود).
خلال فترة اعتقاله في تشاد انقطعت اخبار عثمان تمامًا، حتي ظن أغلب أهله أنه ليس على قيد الحياة، إلا أن زوجته الوفية (عزيزة ) وأمه وشقيقها الشيخ الورع الفكي الرضي عبد الله، لم يفقدوا الأمل في حياته. و كثيرأ ما كان (الشيخ الرضي) يكفكف دمعة شقيقته ويواسيها بقول الله (وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ وبقوله لها "ان الله الذي أخرج يوسف من غيابة الجب وردّه، لقادِرٌ أن يرد إليك ابنك عثمان"، وبالفعل تحقق الرجاء، وردَّ الله عثمان إلى أهله في عام 1991. تلك فترة كانت عصيبة في حياته، ولم يبح بكل أسرارها، ربما قد ترد شذرات منها في كتابه المرتقب، الذي تعهدت بطباعته إحدى دور الطباعة والنشر بببروت ووقع عثمان عقداً معها منذ عامٍ تقريباً، ونتمنى أن يرى هذا الكتاب النور ليَنْتفِعَ به الناس .
المحطة الرابعة في حياه عثمان هي فترة الكفاح المسلح. فحتي عام 2003 كان عثمان رئيساً لحزب المؤتمرات الشعبية في السودان، وهو حزب مسجل ومعترف به وله مقرٌّ في الخرطوم. ووفق ما جاء في أمر تأسيسه فهو حزب سياسي معارض يسعي لإصلاح (نظام الانقاذ) بالوسائل السلمية وتحقيق التبادل السلمي للسلطة! كما هو معلوم في عهد الإنقاذ فإن مثل هذه العبارات (الرنانة) التي وردت في أمر تأسيس حزب المؤتمرات الشعبية، قطعًا لا تدرأ عنه الملاحقات المتكررة (واللعب الخشن ) من قبل الجهات الأمنية (حتي من باب فقه سهر الجداد ولا نومه)! وبالفعل أخرجت الأجهزة الامنية كرتها الأحمر وقررت اعتقال عثمان بصفته رئيساً لحزب المؤتمرات الشعبية (المعارض سلمياً)، فداهمت منزله بضاحية الصالحة بام درمان، ولكن من حسن حظه، في تلك اللحظة كان خارج منزله. وحينما علم بوجود رجال الأمن حول منزله، لم يعد اليه، وأخفي نفسه إلى أن تمكن من التسلل إلى مواقع حركة تحريرالسودان المنطلقة من دارفور وأنضم إليها وليبدأ حياةً جديدة من النضال. لم يكن عثمان من المؤسسين لحركة تحرير السودان، لكنه أصبح أحد القيادات النوعية، وذلك بحكم خبرته السياسية ونضاله الطويل ومعرفته بفنون وباستراتيجيات القتال التي اكتسبها من وجوده في معسكرات الجبهة الوطنية المتحدة بقيادة المرحوم الشريف حسين الهندي و مع القوى الثورية العربية السودانية في ليبيا، علاوة على تأهيله الأكاديمي الرصين. وكل ذلك مكّنه أن يكون عضواً في المكتب السياسي لحركة تحريرالسودان.
في ابوجا اعترض عثمان وآخرون علي الاتفاقية بالكيفية التي تمت بها، فخرجوا من حركة تحرير السودان بقيادة مناوي، وكوّنوا ما يسمى (حركة تحرير السوادان قيادة الوحدة). و كان عثمان أمين دائرتها السياسية وعضو الهيئة القيادية. كل ما يتعلق بأسراروخفايا الفترة التي أمضاها المرحوم عثمان مع الحركات المسلحة، وحتي اتفاقية الدوحة، أوردها مفصلة في سفره القيِّم ( النزاع المسلح في دارفور.. وقائع و أحداث/334 صفحة /الذي نشرته وتملك حق توزيعه الدار العربية للعلوم والنشر ببيروت 2016). لقد جاء فيه " ان هاجس مشكلة دارفور ظل يشكل كابوساً على المسؤولين في ليبيا وحاولوا مرارًا لمَّ شمل الحركات … وأن الحركات يجب أن يكون لها صوت موحد تقدم به مطالبها في حزمة موضوعية متكاملة ص 226). برعاية، ودعوة من ليبيا، تجمعت سبعة من فصائل الحركات المسلحة في طرابلس في الفترة ما بين 2/2/2009 إلى 18/3/2010 . الهدف الأساسي من اجتماعها هو توحيد فصائلها في جسم واحد، ولكن الامر استعصى عليهم . ويقول عثمان في كتابه المذكور "لما استيئسنا من الجدل العقيم طلبت من الاخوة في ليبيا أن يمكِّنوا بعض القادة من ابناء دارفور للحضور إلى طرابلس لإرشاد القيادات المجتمعة في طرابلس بضرورة الوحدة ويساعدوهم علي اتخاذ القرار الصحيح ، وأن يقبل بعضهم بعضا ". وكان رأي عثمان (أن يتم الاختيار لرئيس المجموعة من خارج تلك الفصائل، لأن الحركات المجتمعة لن تجتمع على واحد منهم ليكون رئيساً لهم). وفي ذات الاطار يقول الفريق ابراهيم سليمان، الذي كان رئيساً لتلك اللجنة التي أتت من الخرطوم إلى ليبيا من أجل توحيد فصائل الحركات، يقول " كان عثمان البشرى صادقاً في مساعيه لتوحيد فصائل حركات النزاع المسلح حتي لا تتفرق بينهم قضية دارفور وتضيع، لكن الكثرة غلبت الشطارة".
انسحبت مجموعة عثمان (قيادة الوحدة) أيضاً من مفاوضات الدوحة في عام 2011، بسبب التنافر والخلافات التي دبت بينهم في الدوحة، ومنهم من كان رافضا أصلًا لمنبر الدوحة بحجة ان قطر لا تستطيع حل مشكلة دارفور لبعدها الاقليمي وعدم المامها بتعقيداتها. ويقول عثمان ( إن تأخيرنا في الميدان وحضورنا المتأخر كان سببا في إضعاف موقفنا التفاوضي في الدوحة، إذ وجدنا الوضع هناك شبه محسوم وهيكل حركة التحرير والعدالة قد تم بناؤه ومعظم الأماكن تم ملؤها ). وايضا من بين مجموعتهم من لم يكن مقتنعًا بالشخص الذي تم اختياره لرئاسة حركة التحرير والعدالة، الجسم الذي تم تأسيسه في الدوحة لتتوحد فيه الفصائل المتعددة الموقعة علي وثيقة ًسلام دارفورً في الدوحة.
انسحبت مجموعة الوحدة من مفاوضات الدوحة لتجتمع في القاهرة لمناقشة خياراتهم المتاحة، التي كانت بكل اسفً محدودة . وحسب رأي عثمان إن خيار العودة إلى الدوحة مرة أخري (مطاطئ الراس ) بعدما غادروها بمحض إرادتهم، ذلة وانكسار. أمّا الخيار الحربي بالعودة إلى ميدانه في دارفور فإنهم قطعًا ما عادوا يملكون أدواته ومقوماته. ودبت الخلافات بينهم إلى حد المفاصلة، وعاد بعضهم مرة أخرى ولحق ما بقي من مفاوضات الدوحة ومنهم من غادرإلى اوربا، أما عثمان (ومن معه) فوقع اتفاقًا ثنائي مع الحكومة، بموجبه عاد من القاهرة إلى السودان في 15/2/2011
من استحقاقات ذلك الاتفاق مع حكومة الإنقاذ، تقلد عثمان البشرى منصب وزير الصحة في حكومة السلطة الاقليمية لدارفور برئاسة الدكتور التجاني سيسي، التي أتت في إطار اتفاقية الدوحة في 11/6/2011. ولكن يبدو أن عثمان لم يكن على وفاق وانسجام مع رئيس حكومة اقليم دارفور، وكان له رأي سالب في السلطة الإقليمية لدارفور، إذ ذكر عثمان في كتابه ( إن المرحلة الدقيقة التي يمر بها إقليم دارفور تتطلب قيادة لها القدرة علي المساهمة بإيجابية في شأن الاقليم، ليست تابعة لارادة النظام أومنفذة لسياساته التي أوصلت البلاد حافة الانهيار)، أيضا في رأيه أن السلطة كانت خاضعة ومسيرة، و يقول عنها (يستحيل على سلطة تنفيذية مسؤولة، في وضع دارفور المتأزم أن تعطل الاجتماعات الدورية لمجلسها التنفيذي أحد عشر شهرا). ويصف السلطة بأنها صدي، لم تأت بجديد، وأنها لا تستطيع ان تطرح خطة بديلة لما هو سائد منذ بدايه عهد الانقاذ . ازاء هذا الراي السالب وعدم التوافق مع رئيس السلطة، ترجل عثمان من منصبه في السلطة الاقليمية لدارفور. لا أدري استقال أم أقالوه ، لكنه كان لا يقبل المخازي .تلك بعض من المحطات في مسيره حياة عثمان (القلقة) التي كانت لا تقبل الخنوع والاستكانة، والمليئة بالبذل والعمل الثوري.
كان عثمان رحمه الله شخصية متفردة، مزيج من الصفات قلما تجتمع في شخص واحد، بل هو سبيكة من اثمن وأقوي معادن الرجال. شخص جسور وشجاع وله مقدرة علي تحمل الأذى الجسماني والمعنوي، والصبر علي الشدائد والمخاطر. حفظ القرآن وأدّي فريضة الحج مبكراً فعرف بين اقرانه بحاج عثمان، بسيط وسهل في تعامله مع الآخرين، كما أنه كان عفيف اليد واللسان. وكل من عرفه وتعامل معه عرف عنه قدراته العالية في العمل العام والتنظيمي وقدرته في ترتيب الاولويات، وصدّق القول بالعمل. كان عثمان شديد الود والوفاء لأصحابه الخلصّ، ومنهم صديق عمره المهندس حسين ابراهيم صالح، والمرحوم المحامي علم الدين ابودور( صديقه منذ مرحلة المدرسة الوسطي) ، والمهندس فيصل عبد العزيز، والاستاذ ادم محمد نور(رفيقه في المعتقل التشادي)، وقد بادلوه الود والوفاء. فقد كانت لهم (لمّة) راتبة أيام الجمعات في دار عثمان بام درمان، وكانت أسرته تفرح بقدومهم وتتفاني في خدمتهم، وصدق مثلنا المحلي القائل (الفارس برجاله والكريم بام عياله). ومَنْ مثل عثمان وسط أهله وأسرته وأصهاره من آل كِنِيّن، الذين بادلهم حبًا بحب ووفاءً بوفاء! كان كريماً وودوداً مع أسرته، يمازح ابناءه واحفاده ويسمعهم المفيد من الحديث والطُرَف الزاخرة في ذاكرته. كان كتابنا المفتوح، ولم تكتمل فصوله، كما لم نفلح في تكملة قراءته. هو تجسيد للحكمة الأفريقية المأثورة:(حينما يموت رجل افريقي معمر (زعيم افريقي)، تقبر معه مكتبة كاملة). عثمان كان مكتبة وطنية كاملة، وها هو يُقبر في غير الأرض التي قاتل من أجل حريتها ووحدة ترابها، وفى زمان نَحِسُّ فيه أن الوطن بدا وكأنما يتلاشى من بين أيدينا!
"وأبى قال مرة
الذي ما له وطن
ما له في الثرى ضريح.
ونهاني عن السفر"..(درويش)
العزاء لآل البشرى ولأصهاره الكرام ال كِنِيّن ولأبنائه: عادل وهبة وفاطمة وهاجر وفدوى وفرحة والصغير محمد، وزوجاته الفضليات الأستاذة عزيزة كِنِيّن وفضيلة عبد الرحمن البشرى، و العزاء موصول لأصحابه ومحبيه وأخص صديق عمره الوفي المهندس حسين ابراهيم صالح، وكل الذين افتقدوه، آمل الّا تفتقدهم دارحاج عثمان برحيله منها، تلك الدار التي كانت عامرة بطلاب الجامعات من ابناء أهله الوافدين إلى الخرطوم من الأطراف القصية للوطن ، دار زاخرة بالكرم ومعزة النفس والأهل وقيم النضال الثوري.
وأخيرا عزائي الخاص لدكتور (مستر ) احمد عبد الرحمن البشرى، الذي جاء إلى القاهرة من مدينة مانشستر وعاد اليها، ثم حدثته نفسه ليعود إلى القاهرة مرة ثانية بعد يوم واحد فقط من مغادرته لها ليكتب الله له (حضرة) عثمان، ويشيعه ويتلقى العزاء من جموع السودانيين الذين لم تسعهم صالة العزاء بحي الفيصل بالقاهرة. وأيضا أخص بالعزاء الدكتور علي كنين وشقيقته الدكتورة زهور لوقفتهم المشهودة إبّان مرض "حاج عثمان" في القاهرة .
رحم الله عثمان محمد (الضوّايْ )، سادن النضال الثوري النبيل الذي لا يقبل المخازي، غيبه الموت (قبل ما يشوف تغيير الوشوش)، كما يقول الابنودي، ويبقي قول المتنبي
(وإذا كانتِ النُفوسُ كِباراً ... تَعِبَتْ في مُرادِها الأَجسامُ)

د حامد عمر
القاهرة/ ٢٥/سبتمبر ٢٠٢٣
hamidomer122@gmail.com

 

آراء