سد النهضة .. ملفٌ فنيّ أم سياسي؟
(1)
لو كان مشروع بناء سدٍ على مجرى مائي بين بلدين، لأمكن لهما الاتفاق على إنجازه بما يعود عليهما بالنفع وبالفوائد المشتركة من دون عناء. ليس سد النهضة، الذي رغبت إثيوبيا في بنائه على نهر النيل الأزرق، الأول من نوعه، لكنه ضخمٌ وعالي التكلفة، يتم تشييده على نهرٍ ينبع في إثيوبيا، ويعبر أراضي بلدٍ آخر هو السودان، ثم يصبّ في بلد ثالث هو مصر. ينبع نهر النيل الأزرق في أراضي إثيوبيا، ويعبر إلى السودان، ويلتقي بنهر النيل الأبيض، فيكون اسمه نهر النيل، ثم يعبر إلى مصر، فينحدر ليصب آخر أمره في البحر الأبيض المتوسط. كان يمكن للبلدان الثلاثة أن تتفق لاقتسام خيرات ذلك النهر، والتشارك في المنافع الناتجة من تشييد سدٍّ عليه، من مياه أو من طاقة كهربائية، لكن الخلاف الذي نشب بين الأطراف الثلاثة، وإن بدا فنياً، لم يقف عليها، بل اجتذب أطرافاً أخرى، إقليمية ودولية.
(2)
إذا كتب هيرودوت أنّ "مصر هبة النيل"، فمصر في تاريخها القديم تمتد من الهضبة الحبشية، حيث ينبع نهر النيل الأزرق. ويتصل بصنوه نهر النيل الأبيض الذي ينبع من الأخدود الأفريقي العظيم، ثمّ ينحدر في جريانه، شاقّاً تلكم الأودية والسهول، حتى يصل إلى مصبّه في البحر الأبيض المتوسط. غير أنّ التاريخ المعاصر يحدّث عن بلدان ثلاثة، إثيوبيا والسودان ومصر، تتقاسم ذلك النهر العظيم، ولكلٍ منها استقلالها وسيادتها على أراضيها وحدودها السياسية التي
"التاريخ المعاصر يحدّث عن بلدان ثلاثة، إثيوبيا والسودان ومصر، تتقاسم ذلك النهر العظيم"تفصل بينها.
انطوتْ صفحات التاريخ القديم، ونحن أمام واقع معاصر ماثل، أفرزته وقائع وتطورات قسّمت الإقليم إلى بلدانٍ صارت دولاً قومية مستقلة. من تجليات الظاهرة الاستعمارية في القرنين التاسع عشر والعشرين أن تشظت أقاليم وتوزّعت قبائل وإثنيات، وتوزّعت موارد وثروات طبيعية، فتشكلت قنابل موقوتة قابلة للانفجار، أمام تناقص تلك الموارد وازدياد التنافس على موارد الإقليم بين مجتمعاته وبلدانه. "سد النهضة" أحد تجليات ذلك التنافس الحاد على الموارد بين إثيوبيا والسودان ومصر.
(3)
تمدّدت جولات التفاوض بين البلدان الثلاثة سنوات وسنوات حول ذلك السّد، من دون أن تُفضي بهم إلى اتفاقٍ يتم بموجبه اقتسام خيرات المياه والطاقة الكهربائية الناتجة عنه، بما يرضي الأطراف الثلاثة. كان واضحا لهم أن التفاوض لن يقتصر على الأمور الفنية، ولن ينجح مهندسو الري من إثيوبيا ومن مصر أو السودان في اختصار المسافة إلى الاتفاق المرجو حول "سد النهضة". تقاطعت أجندات كلِ طرفٍ مع الطرف الآخر. كلما احتدم الاستعصاء في التفاوض بين الأطراف الثلاثة، زادت مساحات الاختلاف وتضاعف احتمال التصادم والتنازع المهلك. بقي على كل طرفٍ منهم أن يسعى إلى تقوية موقفه التفاوضي، بالبحث عن حلفاء داعمين، تحت مسمّى "وسطاء".
(4)
سارع رئيس الوزراء الإثيوبي إلى جنوب أفريقيا، الدولة الأقوى في القارة الأفريقية، يطلب
"أبي أحمد في حاجةٍ لتعزيز سلطاته زعيماً في بلدٍ لكنيسته المسيحية وجود تاريخيّ راسخ، فيما لسكانه المسلمين وجودٌ معتبر"وساطتها. يعرف آبي أحمد، القادم من خلفية مسلمة وغير تقليدية في إثيوبيا، أنه في حاجةٍ لتعزيز سلطاته زعيماً في بلدٍ لكنيسته المسيحية وجود تاريخيّ راسخ، فيما لسكانه المسلمين وجودٌ معتبر.
إزاء تعثّر التفاوض بين الأطراف الثلاثة، سعى البلد الذي يتمسّك بتاريخه منذ هيرودوت بأنه هبة النيل إلى الولايات المتحدة الأميركية، الدولة الأقوى، يطلب السند والدعم. تودّد الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إبّان مشاركته في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول من عام 2019، للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ليساعد في جهود التفاوض بشأن سد النهضة، وإن لم يفصح صراحة عن تطلعه لمساندة أميركية.
(5)
أما السودان، البلد الذي وضعته الجغرافيا وسطاً في ملف سد النهضة، بين بلدي المنبع والمصب، فقد فاجأ مصر وإثيوبيا بثورته الشعبية في ديسمبر/ كانون الأول عام 2018، التي أسقطت نظام عمر البشير الإسلاموي، فأربكت حسابات التجاذب بين مصر وإثيوبيا حول ذلك الملف. للثورة في السودان ولقياداتها رؤية غير التي عبّر عنها نظام "الإنقاذ" المباد، والذي ظلّ، حتى ساعة انهياره، أضعف من أن يتخذ موقفاً فنياً وسياسياً يناسب مصالحه.
بات واضحاً لدى كلِّ طرفٍ من الأطراف الثلاثة أنّ الجانب الفنيّ الهندسيّ آخذٌ في التراجع أمام أهمية الجوانب السياسية وأجنداتها. تعقدتْ لعبة التفاوض، فيما سعى كلّ طرفٍ منهم للتودّد إلى حلفاء يعضدون مواقفه. لقد تعثر التفاوض الداخلي في ثورة السودان بين الجانبين، العسكري والمدني، فكان للاتحاد الأفريقي دورٌ بالغ الأهمية، إذ بعث ممثله للمساعدة في جولات التفاوض بين السودانيين. ولكن سنحت فرصة لإثيوبيا.
(6)
للجار امتياز على الآخرين. ها هو رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، يسارع إلى إرسال
"الأجندات الخفية لكل من مصروإثيوبيا هيَ التطلع إلى موقف مساند من السودان، كونه "الصوت الثالث المرجّح" في ملف المفاوضات"ممثل عنه للتوسّط بين السودانيين، وتعزيز جهود الاتحاد الأفريقي. في المقابل، سعتْ مصر، وهي أيضاً الجار الشمالي للسودان، إلى التواصل مع العسكريين الذين لعبوا دور حماة ثورة الشعب السوداني، ولكن الطرف المدني في قيادة تلك الثورة ظل على توجّساته من النظام المصري. بدتْ الصورة وكأنّ كلاً من إثيوبيا ومصر يناور لكسب السودانيين إلى جانبه، فكانت مبادراتهم لدعم استقرار السودان. ولكن من المؤكد أن الأجندات الخفية لكليهما هيَ التطلع إلى موقف مساند من السودان، إذ هو من يملك "الصوت الثالث المرجّح" في الملف الذي لم يجرؤ أيٌّ منهما على الإشارة إليه.
تجيء جائزة نوبل للسلام التي نالها آبي أحمد، ولربما بحيثياتٍ تتصل بدوره في إنجاح التفاوض بين السودانيين، لتعزّز قوة المواقف الإثيوبية داخلياً وخارجياً.
(7)
في المقابل لم يتردّد النظام المصري في التودّد إلى الإدارة الأميركية للتوسّط في ملف سدّ النهضة. لم تكن تلك قفزة إلى مجهول، بل هي خطوة محسوبة من الرئيس السيسي، لكسب الجولة ضد الغريم الإثيوبي بضربة قاضية.
تدرك الحسابات المصرية أهمية الدور الأميركي. قد يكون الرئيس ترامب الذي يحاصره الكونغرس بشراسة لمحاكمته، وربما لإزاحته من "البيت الأبيض"، في حاجة ملحّة لتبييض وجه إدارته، بما يذكّر مواطنيه بأنه الرئيس الذي يملك القدرة والمصداقية على لعب أدوارٍ حتى في الأقاليم البعيدة. قدمت مصر سانحة طيبة له يمكن اهتبالها. ليس من شكٍ في أنّ الاجتماع الذي جمع إليه وزراء خارجية مصر وإثيوبيا والسودان، وأجلسهم حول مكتبه، ليحثهم على التوصل إلى اتفاق حول سد النهضة، هو لإظهاره كبيراً يُملي إرادته على صغار تلك الدول.
(8)
ليس من التقاليد المراسمية أن يجمع رئيس دولة في مكتبه وزراء خارجية عدد من الدول، يتحلّقون حوله، وكأنهم تلاميذ في مكتب مديـر مدرسة. الرسالة التي أرسلها ترامب هيَ إلى الوزراء المعنيين، ولكن أيضاً إلى الكونغرس الذي يتحرّش به.
خلاصة الأمر أن ملف سدّ النهضة الذي تختلف حول فنياته الدول الثلاث: مصر وإثيوبيا والسودان، بات ملفاً سياسياً بامتياز، تتقاطع حوله أجنداتهم، وأيضاً أجندات بعض الكبار.