سنه يا ولد! .. ألفاظ عامية سودانية في الحديث النبوي الشريف

 


 

 


(1 من 2)
waqialla1234@yahoo.com
في معرض  تقديمه لديوان الشيخ محمد سعيد العباسي وتقريظه للديباجة الشعرية المتوهجة في شعره، قال أمير من أمراء دولة الأدب، هو الأستاذ محمد فريد أبو حديد:" رأيت نخبة من فضلاء أدباء السودان، وقرأت لهم، وسمعت منهم. وكنت في كل مرة أزداد إيمانا أن الصور التي تلمع في شعرهم، تنبعث عن فن أصيل، ومن نبع فياض. بل لقد ذهب بي الخاطر أحيانا، إلى أن ألمح في شاعر السودان أديبا أبعد أصلا في العروبة من سائر الأدباء.
 لقد سمعت في شعر السودان البدوي وفي أهازيجه الشعرية من صيغ الألفاظ، ومن صور التعبير، ما لا يتوفر إلا لقوم لهم لسان عربي أصيل، من أرومة بدوية عريقة.
 لقد سمعت في السودان من شعراء الشعب، قوما ينطقون لعامة الناس، بما لا يدركه في غير السودان، إلا المتأدب المتوفِّر على دراسة اللغة، فهو ينشد للناس بلغة عامية، متحدثا عن الشادن ... والرحال، والمسارب. وما أظن عامة شعب عربي آخر تدرك لهذه الألفاظ معنى.
ومن ذلك ذهب بي الخاطر أحيانا إلى أن أهل السودان العربي إنما ينطقون بلسان قديم، ويغترفون العربية من أصل أصيل. بل لقد خطر لي أنهم استقوا العربية عبر البحر، قبل أن يرتووا من منهل الإسلام. وليس ببعيد أن يستطيع أحد الباحثين إثبات قدم العروبة في السودان، وأن القوم قد عاصروا في الجاهلية إخوانا كانوا يتغنون معا بلسان عربي مبين".
هذا الأمل الذي داعب خاطر الأستاذ الكبير أبي حديد قد أقدم على تحقيقه، وإن بنهج علمي مختلف، أحد علماء السودان الشباب، وهو الدكتور أبشر عوض محمد إدريس، حيث توفر على إحصاء عدد ضخم من الأحاديث والآثار التي وردت فيها ألفاظ يكثر استخدامها في عامية أهل السودان، ويظن الكثيرون أنها ألفاظ عامية سودانية قح، فإذا بالدكتور يستخرج لها أصولا من أفصح مادة لغة الضاد، ويقوم بتخريج هذه الأصول من الأحاديث والآثار، ويردف ذلك بشروح وافرة لهذه الألفاظ من غريب الحديث، لسان العرب، وتاج العروس، وجمهرة اللغة، وأساس البلاغة، ودلائل الإعجاز، وغيرها من مصادر لغة الضاد!
ولهذا البحث الذي أنجزه الدكتور أبشر قيمة ودلالة علمية كبرى باتجاه تأصيل اللهجة العامية السودانية. ويمكن إن بذل جهد طيب في ترويجه وإيصاله إلى القارئ السوداني العادي، أن يصبح واحدا من كلاسيكيات البحث العلمي اللغوي في السودان، وإضافة متميزة إلى ما صدر خلال العقود الماضية من جهود علمية كبيرة في دراسة اللهجة العامية السودانية، وأهمها قاموس اللهجات العامية الذي افترع مشروعه أحد المستشرقين، وتصدى لإكماله الباحث الدؤوب البروفسور الراحل عون الشريف، رحمه الله.
وبجانب القيمة العلمية المتميزة لهذا البحث الذي نحن بصدده، فإنه بحث طريف لطيف، مكتوب بلغة رشيقة، وقراءته مسلية ممتعة، ولا يحرم من قراءته إلا ذو حظ مغبون. ودعنا  في عرضنا هذا القاصر له نأخذ منه نماذج معبرة من الألفاظ العامية الفصاح.
التلتلة والجهجهة:
 إن كلمة (التلتلة) وتصريفاتها مستعملة بكثرة في عامية السودان. ولكن المؤلف يدلنا على أصل لها في حديث رواه ابن مسعود :" أنه أتي بسكران أو شارب خمر فقال: تلتلوه ومزمزوه". وفي الشرح  قال أبو عمر: وهو أن يحرك ويزعزع ويستنْكَه حتى يوجد منه الريح ليعلم ما شرب.  والتلتلة والبربرة والمزمزة بمعنى واحد. وجمع التلتلة تلاتل وهي الحركات.
قال ذو الرُّمة يصف بعيرا:
بعيد مساف الخطو     تقطع أنفاس المهاري تلاتله!
وكلمة (أجلح) بمعنى منحسر الشعر عن جانبي الرأس كلمة عامية سودانية، ولكن المؤلف يدلنا على لها أصل في حديث علي بن أبي طالب في أسرى بدر:" فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيرا، فقال له العباس: يا رسول الله: إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها ... إلخ الحديث.
 وكلمة (الجهجهة) كلمة عامية كثيرا ما تستخدم في كلام السودانيين العادي للإعراب عن معنى الحيرة والاضطراب و(عدم الجيهة). ولكن المؤلف يدلنا على أصل لها فصيح ورد في حديث أبي سعيد الخدري، قال: بينما رجل من أسلم في غنيمة له يهش عليها في بيداء ذي الحليفة، إذ عدا عليه ذئب  فانتزع شاة من غنمه، فجهجأه الرجل، ورماه بالحجارة حتى استنقذ منه شاته..." قال الزمخشري: جهجأه: زجره والهمزة من هاء.
 وقال عمرو بن الإطنابة:
والضاربين الكبش يبرق بيضُه     ضربَ المُجَهْجَهِ عن حياضِ الآبل!
الطبطبة والعترسة:
وأما كلمة (الطبطبة) التي تعني صوت وقع الأقدام عند الجري، والواردة في مثل قول المادح حاج الماحي، رحمه الله، وهو يصف جري جمله:
اسمه مشي رجليه طبطب!
 فإن المؤلف يدلنا على أصلها الفصيح في الحديث الذي أخرجه أبو داود عن ميمونة بنت كردم، قالت: خرجت مع أبي في حجة رسول لله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدنا إليه أبي وهو على ناقة له، فوقف واستمع له، ومعه دِرَّة ٌكدِرَّةِ الكُتَّاب فسمعت الأعراب والناس وهم يقولون الطَّبطّبيِّة الطَّبطّبيِّة  الطَّبطّبيِّة. قال الخطابي: قولها: يقولون الطَّبطّبيِّة إنما هو حكاية وقع الأقدام.
وأما (العترسة) التي تعني العرقلة والشدة والصعوبة، فإن أصلها، كما يدلنا المؤلف يوجد في الحديث الذي أخرجه صاحب كنز العمال عن أنس قال:" علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات، لن يضرني معهن عتو جبار، ولا عترسته، مع تيسير الحوائج ولقاء المومنين بالمحبة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. بسم الله على نفسي وديني، بسم الله على أهلي ومالي، بسم الله على كل شيئ أعطاني ربي. بسم الله خير الأسماء،  بسم الله رب الأرض والسماء، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه داء. بسم الله افتتحت، وعلى الله توكلت. الله الله ربي لا أشرك به شيئا. أسألك اللهم بخيرك من خيرك، الذي لا يعطيه غيرك. عز جارك وجل ثناؤك، ولا إله إلا أنت. اجعلني في عياذك وجوارك من كل سوء ومن الشيطان الرجيم. اللهم إني أستجيرك من جميع كل شيئ خلقت، وأحترس بك منهن. وأقدم بين يدي بسم الله الرحمن الرحيم: قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفوا أحد. عن أمامي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي وتحتي. يقرأ في هذه الست قل هو الله أحد إلى آخر السورة".
 وللمرء أن يتساءل مستبعدا: من أين تأتي العترسة بعد أن يقرأ الإنسان بخشوع وإخلاص هذا الدعاء البليغ، الذي أوردناه في سياقنا هذا بطوله وتمامه لتتم به الفائدة وتكتمل، وحتى لا يشكون أحد بعد اليوم من عترسة تعترضه أو تعتريه!
المحجان والخربشة والدَّباس:
وأما كلمة (المحجان) وهو عود طويل ملتو رأسه يشبكه الراعي في أغصان الشجر ليحت به (الخُرْيم) وغيره من ثمر الشجر فتأكل منه أنعامه، فهي كما يدلنا المؤلف، كلمة فصيحة لها أصل في حديث جابر الطويل عن موت إبراهيم ابن النبي صلى لله عليه وسلم:" ... ما من شيئ توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه. لقد جيئ إلي بالنار، وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قُصْبَه في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه، فإن فطن له قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب....".
وأما (الخربشة) وهي إفساد الشيئ وتشويهه، وتعني أيضا التجريح بالأظافر، فإن لها، كما يفيد المؤلف، أصل في الخبر الذي رواه ابن الجوزي من غريب الحديث:" كان كتاب فلان مخربشا". قال الزمخشري: الخربشة والخرمشة والخرفشة معناها التشويش والإفساد.
وأما طائر (الدباس) المنتشر في السودان ويكاد يماثل الحمام إلا أنه وحشي لا يستأنس، والذي ورد ذكره في قول ود الفراش:
نيران قايدة                      ضارباني أم سنين في كلاي صايدة
فرع المحلب الرقباته زايدة     تقوقي دباسة تحته وفوقه بايضة!
فإن له أصلا في الحديث عن عبد الله بن أبي بكر، أن أبا طلحة الأنصاري:" كان يصلي في  حائطه، فطار دُبْسيٌ ، فطفق يتردد يلتمس مخرجا، فأعجبه ذلك فجعل يتبعه بصره ساعة، ثم رجع إلى صلاته، فإذا هو لا يدري كم صلى، فقال: لقد أصابتني في مالي هذا فتنة، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر له الذي أصابه في حائطه من الفتنة، وقال: يا رسول الله هو صدقة لله فضعه حيث شئت".
المِريِّش والسبهللي:
وقد درج العامة في السودان على وصف كل من أوتي مالا بأنه امرؤ (مِريِّش). ويظن البعض أن هذه الكلمة من عامية أهل المدن، ولكن لهذا اللفظ، كما قال المؤلف، أصل قديم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم:" أن رجلا فيمن كان قبلكم راشه الله مالا وولدا، فقال لولده: لتفعَلُّنَّ ما آمركم به أو لأولين ميراثي غيركم، إذا أنا مت فأحرقوني. وأكثر علمي أنه قال: ثم اسحقوني واذروني في الريح، فإني لم ابتهر عند الله خيرا، وإن الله يقدر على أن يعذبني. قال: فأخذ منهم ميثاقا ففعلوا ذلك به وربي. فقال الله: ما حملك على ما فعلت؟ فقال: مخافتك. قال: فما تلافاه غيرها". أي ما غفر له إلا بسببها.
 قال ابن الأثير: يقع الرياش على الخصب والمعاش والمال المستفاد.
وقد درج العامة في السودان على وصف الشخص العاطل الطائش المبهدل بأنه (سبهللي). ولهذا اللفظ أصل في حديث ابن عمر:" إني لأكره أن أرى أحدكم فارغا سبهلل، لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة".
 قال ابن الأثير:  سبهلل أي فارغا ليس معه من عمل الآخرة شيئ. يقال: جاء يمشي سبهلل إذل جاء وذهب فارغا من غير شيئ.
الكيزان والأزيار:
وأما (الكوز) فهو لفظ شائع الاستعمال جدا في عامية أهل السودان. ويقصد به في استعماله الأصلي الإناء المعروف الذي يغترف به من الزير أو من أي إناء آخر. ولكن لـ (الكوز) معنى مجازي اصطلاحي طريف آخر معروف.
 وقد جاءت كلمة (الكوز) بمعناها الأصلي  في حديث أم سلمة، قالت:" نبذت نبيذا في كوز، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يغلي، فقال: ما هذا؟ قلت: اشتكت ابنة لي فَنُعِتَ لها هذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم".
وقد روى هذا الحديث البيهقي في باب النهي عن التداوي بالمسكر.
وأما (الكوز) بمعناه الاصطلاحي، وأما القول المروي، وكأنه حديث، عن البحر والكيزان التي تغرف منه فلا أصل له!
وأما (الزير) فهو إناء من الفخار يتخذ لحفظ  الماء وغيره. وله ذكر في خبر الشافعي عن الحميدي، قال: سمعت الشافعي يقول: كنت أطالب الشعر وأنا صغير اكتب، فينا أنا أمشي بمكة أو في ناحية من مكة،  سمعت صائحا يقول: يا محمد يا محمد بن إدريس، عليك بطلب العلم. قال فالتفت فلم أر أحدا، فرجعت فكنت أطلب العلم، وأكتبه على الخرق، وأطرحه في الزير". قال ابن الأثير الزير الحب الذي يعمل فيه الماء.
سنهْ يا ولد!
وأما كلمة (سنهْ سنهْ) مكررة هكذا فهي كلمة تقال للإعجاب بالشيئ واستحسانه. وهي كلمة حبشية الأصل. وقد ورد ذكرها في حديث البخاري عن أم خالد بن سعيد، قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي، وعليَّ قميص أصفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سنهْ سنهْ". قال الحميدي: يعني حسن حسن.
ومن الكلمات المكررة التي تستخدم في عامية السودان كلمة (وراء وراء). كناية عن الشيئ المخفي المحجوب. تقول مثلا: دة من الظاهر لكن من وراء وراء...
 ولهذا التعبير أصل في حديث الشفاعة الذي رواه مسلم عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة. فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم! لست بصاحب ذلك. اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله. قال فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك. إنما كنت خليلا من وراء وراء. اعمدوا إلى موسى صلى الله عليه وسلم الذي كلمه الله تكليما. فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقول: لست بصاحب ذلك. اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه. فيقول عيسى صلى الله عليه وسلم: لست بصاحب ذلك. فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم. فيقوم فيؤذن له. وترسل الأمانة والرحم. فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا. فيمر أولكم كالبرق. قال قلت: بأبي أنت وأمي! أي شيء كمرٍِ البرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمر الريح. ثم كمر الطير وشد الرجال. تجري بهم أعمالهم. ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب! سلم سلم. حتى تعجز أعمال العباد. حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا. قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة، مأمورة بأخذ من أمرت به. فمخدوش ناج، ومكدوس في النار. والذي نفس أبي هريرة بيده! إن قعر جهنم لسبعون خريفا"!

 

آراء