سنواتي في امريكا: إذا انتخبك السودانيون عليك ان تستعد لمعارضتهم (21)
25 October, 2009
talha@talhamusa.com
عندما فكرت في طرح فكرة" إنشاء مركز واشنطن للمستقبليات"على اساس أن تكون " الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى" هي الغطاء القانوني والشرعي لذلك المركز، كان الهدف هو اختصار الطريق على اجراءات قانونية لإنشاء " مركز دراسات سوداني" في العاصمة الامريكية، يصبح بمثابة نقطة إنطلاق نحو عمل مؤسساتي في واشنطن من أجل الوطن،على أساس علمي محايد ونزيه. ويمكن أن يتحول مستقبلاً الى "قوة ضاغطة" تستقطب الدعم من أجل قضية الديمقراطية والتنمية في بلادنا، وفي الوقت نفسه ان تكون "المسألة السودانية" بكل تشعباتها وتعقيداتها حاضرة قي عاصمة صنع القرار في العالم. كنت أظن ان المركز يمكن أن يشكل نقطة تتلاقى فيها إرادات سودانية ، حتى وان تباينت رؤاها وخلفياتها السياسية، لكن يفترض الا نختلف حول أن يكون لبلادنا صوت يسمع ويفهم ويؤثر في دائرة صنع القرار في امريكا.
واعتقدت آنذاك ان أهم ما يمكن أن يكبح اي عمل في إطار المجتمع المدني هي قضية التمويل المالي، واجريت اتصالات مع بعض السودانيين الميسورين نسبياً، وابدى بعضهم استعداداً من أجل تحويل اقتطاعات ضرائبهم الشخصية الى هذا المركز على اعتبار انه سيكون في مستقبل الايام بمثابة " منظمة غير ربحية" يمكن أن تستقطب دعماً مالياً وبدون شروط. على ضوء ذلك قررت حمل الفكرة الى اللجنة التنفيذية للجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى. كان رئيس الجالية ايامئذ ٍ هو الدكتور احمد عثمان، وكانت علاقتي به يطبعها الاحترام المتبادل. واقترح الرجل ان نعقد اجتماعات تمهيدية لمناقشة الفكرة، وهو ماحدث بالفعل.
كانت هناك اشكالية شرحتها لبعض اعضاء الجالية، وهي انني لا اريد ان أصبح عضواً نشطاً في الجالية لانها قوانينها الداخلية تنص على أن عضويتها هم "امريكيون سودانيون " وهذا أمر من المؤكد أنه لا يضيرها، وينسجم مع القوانين الامريكية، لكنني لاسباب كثيرة ومتشابكة بينت أنني لا اريد الانضمام لعضوية منظمة هي امريكية طبقاً للقوانين السائدة في تلك البلاد، في إطار المحافظة على فكرة اؤمن بها وهي ان أي" انتماء" في الإطار السياسي او المدني يجب أن يبقى فقط لما له علاقة بالوطن. وكان رأيي وموقفي ان هذا أختيار اساسي ، وفي ظني ، وما زلت ، ان من يتصدى للعمل العام عليه تفادي اية ازوداجية في مجال الانتماء. وعلي أن أقول الآن ان وجهة نظري وجدت تفهاً وقبولاً، على الرغم من انها في بعض الاحيان بدت غير عملية . وكان رأيي ايضاً أن ذلك لن يحول دون دعم أنشطة الجالية في جميع الاتجاهات، والمساهمة الفاعلة في هذه الأنشطة.
ومن خلال الاجتماعات والحوارات مع اعضاء الجالية أدركت بعض الحقائق الاساسية في نظرة واسلوب وطرائق السودانيين في التصدي للعمل العام. ومن ذلك ان ما يهمهم في العمل العام هو فقط محطة الانتخابات، إذ الاعتقاد السائد عندهم وثقافة العمل العام لديهم تتوقف عند تلك المحطة . إذ انتخبك السودانيون لقيادة اتحاد أو منظمة من منظمات العمل المدني يعتقدون ان دورهم ينتهي عند ذلك الحد ، وعندها فإن الشعار هو " اذهب وربك قاتلا".
وفي تفسيري لهذا الخلل اقول إن كل شخص يقبل على العمل العام ويدخل ميدانه يصل إلى هناك ومعه حمولته الثقافية كاملة فيها المؤثر بالبيئة والتربية والقيم الموجهة، وفيها المكتسب بالعلم والمعرفة والتذوق، وأخيرا فوقها المتراكم بالتجربة مع الحياة والناس والظروف، لذلك فان هذا التصوير لثقافة اي شخص طبقاً لهذه الرؤية، هو في الجوهر توصيف موضوعي بعرض للحقائق دون أحكام قيمة، وغير ذلك وبعيداً عنه فان قيمة الرجل العام تتأتى ويكون الحكم عليه بالأهداف العامة وبالأداء اليومي وبمقدار ما يضيف هذا الشخص من جهد ينجح وينفع، لكن بشرط أن يقوم بكل ذلك دون أن ينتظر مساندة أو تعضيد.
عقدنا عدة اجتماعات بهدف اخراج فكرة " مركز واشنطن للمستقبليات" الى الوجود ، ولاحظت ان الاهتمام أنصب حول فكرة التمويل ، وكانت لجنة الجالية ترى، وهذا حقها، ان يكون لها علاقة مباشرة بموضوع التمويل. وبعد توالي الاجتماعات راحت الفكرة تترنح ثم ما لبثت ان سقطت ، وبعد فترة قصيرة ضاعت في غياهب النسيان.
منحت لنفسي بعدها فترة تأمل. وما لبثت ان أنشغلت بموضوع آخر لا علاقة له بواشنطن واهلها من السودانيين بل بأمر فيه الكثير من العاطفة.إذ أنشغلت بالحديث في المنتديات بموضوع " الطيب صالح" خاصة ان الظروف الصحية لهذا الصديق العزيز اصبحت تزداد سوءً . ووجدت لزاماً علي أن البي اية دعوة للحديث عنه في مناسبات وامكنة متباينة ومتباعدة. وفي كل مرة كنت أتعرض لجانب من جوانب حياة هذا الكاتب الفذ. وكنت في الواقع مثل من يؤدي ديناً.
وفي هذا السياق كان أقترح علي أن اتحدث عن الطيب صالح في محاضرة من المحاضرات التي ينظمها المكتب الثقافي للجالية السودانية في واشنطن في مركزها المؤقت، واقترحت أن يكون عنوان تلك المحاضرة " تأثير البيئة المحلية في أدب الطيب صالح". كانت تلك المحاضرة هي الاولى التي اتحدث فيها كمحاضر لمجتمع السودانيين في واشنطن. كنت تحدثت قبلها عن " الطيب صالح" في جامعة ميرلاند، وكانت أول مرة اتحدث يها الى طلاب امريكيين عن شخص أزعم انني أعرفه جيداً.
لاحظت أن الحضور كان متواضعاً في تلك المحاضرة التي القيتها في المركز الذي اعتادت ان تنظم فيه الجالية أنشطتها الثقافية ، وهي تتراواح بين مواضيع السياسة والفكر والأدب والتاريخ والتكنلوجيا والاقتصاد. وعلى الرغم من انني بذلت جهداً في رصد وتحليل " علاقة الطيب صالح مع بيئته المحلية" فإن تلك المحاضرة لم تستقطب جمهوراًَ، وكنت أظن ان الموضوع سيفتح شهية كثيرين للاستماع والنقاش. ليس لانني القائل بل لان الموضوع هو " الطيب صالح".
وما زلت اتذكر ان الصديق ابراهيم سعد ، الذي سيتولى في وقت لاحق رئاسة الجالية ، وهو شخص جدير بالاحترام وساتوقف عنده كثيراً، كان في أكثر مناسبة يقول لي " لم اتأسف على شيء قدر أسفي على عدم تسجيل تلك المحاضرة ونشرها على موقع الجالية" وهو ما عزز اقتناعي أن ما قيل لمجتمع السودانيين في تلك الليلة حظي بالرضى.
لكن يا ترى لماذا يقبل عدد محدود جداً على انشطة الجالية الثقافية، علماً ان تقديرات تقول إن هناك 20 الف سوداني في واشنطن الكبرى. في رأيي أن هناك الكثير من العوامل المتداخلة التي أدت الى هذه الوضعية:
*جمهور المحاضرات عادة جمهور نخبوي ، لذلك لا تحضر المحاضرات الا النخبة، خاصة اذا كان الموضوع له علاقة بالأدب والفكر.
* السودانيون يلجأون في الغالب الى تصنيف " المثقفين" طبقاً لميولاتهم الحزبية اوالايديلوجية ، لذلك كثيراً ما تسمع اذا كانت هناك محاضرة لشخص ما ولتبرير عدم الحضور " يا أخي فلان من الحزب الفلاني" وهو ما يعني أن اصحاب هذا الحزب يمكن أن يقولوا كلاماً متشابهاً حتى لو تعلق الأمر بمحاضرة حول " ثقب الأوزون" .
*من النادر جداً أن تجد سودانياً يمكن أن يقول " هذا الموضوع لا اعرفه لذلك ساحرص على الحضور" نحن عادة " نعرف كل شيء ويمكن ان نتحدث او نتناقش حول أي شيء" ".
*تدبير الزمن في بلد مثل امريكا مسألة صعبة ومرهقة، إذ المسافات بعيدة ، وهذه وضعية لا تشجع على تتبع انشطة جادة أو على الأقل ذات طابع جاد.
* الذهنية السودانية تعتبر ان التفوق المعرفي مسألة لا توجد ، لذلك حتى حين يختلف الناس حول آراء زيد أو عمر من الناس يختزلون الأمر في جملة ويقولون: " يا اخي هذا شخص مدعي".
ثمة مسالة ادركتها لاحقاً ، وهو وجود حساسيات شخصية، تضخمت الى حد كبير، وتمخض عن ذلك وجود " معارضة" مستمرة ودائمة للجان الجالية المتعاقبة، على الرغم من أن هذه اللجان انتخبت بطريقة ديمقراطية وشفافة ولا يمكن لأحد أن يقول عكس ذلك. وهذه الحساسية الشخصية جعلت بعض الناس يتسمرون عند موقف معين لا يتزحزون عنه ، وبالتالي يعارضون كل مبادرات الجالية، بغض النظر عن السلبيات والايجابيات. بل في بعض الاحيان هناك من عارض الجالية نفسها. ثم ادركت أيضاً ان جمهرة السودانيين تعارض كل من يتصدى للعمل العام ، حتى لو كان منتخباً ، لانهم لا يتفقون مع منطلقاته الفكرية والسياسية، وهذه قد تبدو مسألة مثيرة للدهشة ، إذ المنطقي انك تحترم من انتخب ، لكن ذلك كان واقعاً عشته وتعايشت معه.
تأسيساً على ذلك وجدت اننا بمختلف مدارسنا الفكرية ومرجعياتنا السياسية، نقدس " الديمقراطية" بل وقدمنا الشهداء تلو الشهداء من اجلها لكننا، وهذه هي المفارقة، لا نقبل نتائج العملية الديمقراطية نفسها. وإذا قلت للناس، على سبيل المثال، انني ادافع عن شرعية فلان حتى لو اختلفت معه سياسياً وفكرياً، سيواجه هذا الموقف بالكثير من الشكوك ، بدلاً من الفهم والتفهم. إزاء هذا الوضع المتشابك والمعقد اختمرت في ذهني فكرة أخرى ، بعد ان سقطت فكرة " مركز واشنطن للمستقبليات" في تعقيدات العمل العام. كانت الفكرة إنشاء منظمة من منظمات المجتع المدني، ذات طابع سياسي ونقابي واضح وصريح. وعلي القول الآن انني لم ابادر هذه المرة ، لكن حين أنطلقت الفكرة وطرحها علي الصديق صلاح شعيب ، كان رأيي ان نمضي قدماً وباسرع ما يمكن نحو التنفيذ. كانت الفكرة تأسيس " اتحاد للصحافيين السودانيين" في امريكا الشمالية، ننطلق منه الى تأسيس لاتحاد الصحافيين السودانيين في الخارج.
اقترح بعض الاخوة ونحن في مرحلة التشاور، أن لا يقتصر الاتحاد على " الصحافيين" بل يضم كذلك " الكتاب". لم أكن متحمساً لكيان فضفاض يضم " صحفيين وكتاباً" وكان تقديري أن من السهل وضع تعريف محدد " للصحافي" لكن ربما يتعذر تعريف من هو " الكاتب" ، خاصة ان المواقع الاسفيرية أتاحت لكثيرين أن ينشروا مقالاتهم وأبحاثهم ، دون حاجة الى من يمنحهم لقب" كاتب"، إذ بات من السهل أن يمنح اي شخص لنفسه هذه اللقب دون انتظار من جهة تصادق او تعترف أو تقر بهذه الصفة. وهذا هو بالضبط الجانب الايجابي من "ديمقراطية الانترنيت".
كيف مضت فكرة إنشاء اتحاد للصحافيين في امريكا . وكيف خرجت الى الوجود؟
نواصل
عن "الاحداث"
مقالات سابقة
جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط
http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1