سنواتي في امريكا: السودانيون في واشنطن الكبرى .. وجاليتهم -20-

 


 

طلحة جبريل
18 October, 2009

 

talha@talhamusa.com

 

خلال "سنوات الجمر" التي عاشتها بلادنا في العقد الماضي، فتحت ابواب للهجرة امام السودانيين الذين كانوا يعيشون في بلدان الشتات باتجاه جميع الاصقاع من امريكا الى استراليا. كانت معظم موجات تلك الهجرة التى اطلقت عيلها الامم المتحدة "برنامج إعادة التوطين" في ثلاثة اتجاهات إما الولايات المتحدة أو كندا او استراليا. وكان أغلب الذين شملهم ذلك البرنامج من الذين يقيمون في مصر.

مرد ذلك سببين: لان القاهرة كانت هي مركزنشاط " التجمع الوطني الديمقراطي" ذلك التحالف السياسي المترهل الذي ظل قادته يعتقدون ان " ايام النظام معدودة" لكن ما أن توالت سنوات المعارضة حتى تركوا الفكرة الاساسية وراحوا يتفاوضون حول شروط عودتهم.

والسبب الثاني هوأن فرص العمل في مصر منعدمة لذلك كان طبيعياً عندما تنفتح كوة للخروج أن لا يفرط فيها اولئك السودانيون الذين ضاقت بهم الحياة وتقطعت بهم سبل العيش. 

عندما وصلت واشنطن وجدت عدداً مقدراً من اولئك الذين ربطتني معهم علاقة " التجمع الوطني الديمقراطي" عندما كنت "ناشطاً" في منطقة المغرب العربي، منهم من التقيتهم بالفعل في القاهرة، وهناك من تعرفت عليه من بعد، وآخرون سمعت بهم لكن لم أتعرف عليهم أو التقى بهم.

أول مناسبة سالتقي فيها مجموعة كبيرة من السودانيين ، كان نشاطاً ثقافياً في مقر الجالية السودانية في واشنطن الكبرى(فرجينيا وميرلاند وواشنطن العاصمة) وهو مقر مؤقت يتبع اساساً لولاية فرجينيا وبه مراكز تدريب مهنية ويمنح للجاليات قاعات لتنظيم بعض أنشطته بداخله.

ذهبت مع الصديق محمد علي صالح الى تلك الأمسية الثقافية، وكنت في معظم تنقلاتي خلال السنة الاولى أعتمد عليه، لانه لم تكن لدي رخصة قيادة ، اضافة الى انني لا أعرف خارطة الولاية، وأريحية محمد استثنائية.

كان موضوع المحاضرة عن " الهوية"، وكان المحاضر هو الدكتور الباقر العفيف، الذي سالتقيه لأول مرة في تلك المحاضرة ، ومن طرائف ذلك اللقاء أننا اصبحنا صديقين بكل ما تعنيه كلمة صداقة، لكن من موقع الاختلاف الفكري وليس من موقع الانسجام. وكان العفيف يعمل اساساً في العاصمة الامريكية باحثاً رئيسياً في " معهد السلام". أن تكون باحثاً و"رئيسياً" في أحد مراكز البحث والتفكير (ثنك تانك) في واشنطن فذلك موقع اكاديمي مرموق بلا جدال.

قدم الدكتورالباقر العفيف، الدكتور صلاح الزين ، وكان وقتها يشغل منصب السكرتير الثقافي للجنة جالية واشنطن الكبرى. كانت مفاجأة لطيفة أن التقي صلاح الزين في واشنطن ولم أكن ادري ان الأيام طوحت به الى هذه الأقاصي مثله مثل آخرين.

كنت تعرفت على صلاح الزين في الرباط. كانت ساقته ظروف صعبة ومصادفة غريبة ليستقر في الرباط لبعض الوقت، إذ جاء من الخرطوم مشاركاً في موسم اصيلة الثقافي، وأثناء مشاركته في المهرجان أبلغه أصدقاؤه في الخرطوم إن قراراً صدر باحالته الى " الصالح العام" ، وكان هذا التعبير هو الذي تستخدمه السلطة الحاكمة في الخرطوم عندما يتقرر فصل شخص ما لأسباب سياسية.

كانت حكاية " الصالح العام" هذه من المصائب التي أدت الى مآس اجتماعية في السودان لا يعرف تداعياتها الا الذين وطئوا هذه الجمرة الملتهبة. أسر بكاملها تشتت وتشردت وجاعت ومرضت وترك ابناؤها المدارس بسبب تلك الرسالة التي أطلق عليها "رسالة الصالح العام"، والتي كانت تعني أنك أصبحت على قارعة الطريق تلتحف السماء وتتوسد الأرض.

كان على صلاح الزين أن يواجه حياة ما بعد" الصالح العام" في المغرب الذي ساقته اليه الصدف الماكرة . كان عليه ان يتدبر حياته بمبلغ زهيد لا يكفي لقوت أيام، وحقيبة يد ...وقبض الريح.  كيف تأقلم الرجل مع هذه الأوضاع ؟ أعتقد أنه هو الأحق لكي يروي ما حدث بعد خطاب " الصالح العام".

تعرفت على صلاح الزين  في الرباط ثم بعد سنوات التقينا في القاهرة عندما كان أحد الذين ساهموا بجهد كبير مع الدكتور حيدر على ابراهيم في إطلاق "مركز الدراسات السودانية " من العاصمة المصرية، التقيته هناك أثناء زيارة للقاهرة ، وكان الصديق الدكتور ابراهيم كرسني، وهو من اقاربي، اقترح علي زيارة المركز. كانت مصادفة سارة أن التقي صلاح الزين في القاهرة.

ثم دارت الايام دورتها، وهأنذا اجد أمامي صلاح الزين في فرجينيا وهو يقدم الباقر العفيف في امسية من امسيات النشاط الثقافي للجالية السودانية الامريكية في واشنطن الكبرى. ولعل من مفارقات هذا الزمان انني تواعدت مع صلاح الزين في الرباط أكثر من مرة أن نتناول العشاء سوياً، ولم يحدث. وتكرر الأمر في القاهرة ولم يحدث. ثم تكرر الأمر في واشنطن ولم يحدث.

ترى ما السبب ؟

ليس لدي تفسير.  

بعد أن قدم صلاح الزين الباقر العفيف، شرع المحاضر في القاء محاضرته حول " الهوية". دافع خلالها العفيف عن فكرة " الافريقية" على اعتبار انها تشكل حلاً لمشاكل السودان حيث أعتبر أن كل المشاكل التي نعانيها سببها فشل السودانيين في تحديد هويتهم.

ادار تلك الندوة الصديق الصحافي حسن الحسن ، الذي سأتحدث عنه لاحقاً وبالكثير من التفاصيل وفي عدة محطات خاصة محطة " اتحاد الصحافيين السودانين في الولايات المتحدة" حيث عملنا سوياً.

أقترح الاخ حسن الحسن في تلك الامسية أن ابتدر النقاش والتعقيب حول ما قاله الباقر العفيف. كانت تلك أول مرة أتحدث فيها أمام جمهور سوداني طيلة حياتي منذ أن خرجت من السودان للدراسة في المغرب. وهو جمهور يفترض ان لديه قدراً كبيراًمن التسامح أفضل من أي جمهور آخر بحكم الوعي المكتسب من التعليم والاتصال مع نمط حياة عصرية ومنظمة مثل الحياة الامريكية.

تحدثت، وبشيء من الانفعال ربما، في معرض التعقيب على أفكار الباقر العفيف. واتذكر انني استهللت حديثي بالقول " لم يحدث أن استمعت لمحاضر ووجدت انني اختلف معه مائة بالمائة كما حدث هذا المساء".

وقلت ايضاً " هل يجوز حتى نرضي بعض الأثنيات والأعراق في بلادنا أن نقول إن ليس لدينا علاقة بالثقافة العربية والاسلامية" وقلت "إنني شخصياً انتمي لهذه الثقافة لكنني قطعاً أعارض وبدون هوادة ما يرتكب من جرائم وفظائع باسم المحافظة على الهوية العربية والاسلامية"

وقلت كذلك وبوضوح إنني لست مع فكرة " السودان الجديد" على الاطلاق، وهذا كلام سمعه مني شخصياً الراحل جون قرنق، بل بالعكس انا مع فكرة " السودان القديم" الذي تمثله بالنسبة لي " دولة سنار" وهي اول وآخر دولة سودانية متوازنة لانها قامت على اساس التحالف بين "الفونج" اي القبائل الافريقية و"العبدلاب" اي القبائل العربية. بين " الافريقية" التي تجنح الى العلمانية، والعربية التي تنهل من الفكر الصوفي.

كنت كتبت في بداية الثمانينات اقترح العودة الى أسم " سنار" بدلاً من أسم " السودان" ، وكان أن كتب الصديق الراحل الشاعر صلاح أحمد ابراهيم تعليقاً غاضباً مستهجناً تلك الفكرة ، وكان يعتقد انها فكرة لها علاقة بفورة الشباب ، وهأنذا اعود في سن الكهولة لاقول إن رأيي ما يزال كما هو بل ازداد رسوخاً مع تراكم المعطيات التي تقول إن اخوتنا في جنوب السودان ذاهبون الى دولتهم وهذا حقهم الذي لا ينازعهم فيه أحد، وأن حكاية " الوحدة الجاذبة" لا تعدو ان تكون خرافة سياسية لا يصدقها حتى الذين أطلقوها.

وقلت كذلك في تلك الاطلالة الاولى امام مجتمع السودانيين في واشنطن، إن الانتماء الى الثقافة العربية الاسلامية لايمكن ولا يجوز أن يكون مبرراً لممارسة سياسات استعلائية اوالدفاع عن أنظمة شمولية او التخلي عن مبدأ اساسي هو ان الوطن للجميع وان المواطنة لا علاقة لها بثقافة او دين أو عرق أو لون.

لاشك ان بعض الحاضرين في "مركز الكومبيوتر" وهو الاسم الذي يطلق على المقر المؤقت للجالية السودانية، راقهم ما قلت والمؤكد ان بعضهم أنزعج من أفكار هذا الوافد الجديد على مجتمع السودانيين في واشنطن.

وبين الذين راقهم ما قلت واولئك الذين انزعجوا للأفكار التي تحدثت عنها ، عقب الباقر العفيف على تلك المداخلة، تعقيباً هادئاً رزيناً وبدون إنفعال، مشيراً الى أن لقاءً كان يفترض أن يتم بيننا في الرباط عندما كان يعمل مع منظمة العفو الدولية" امنستي" وزار العاصمة المغربية بتلك الصفة، ثم راح يفند ما قلت.

ولفت انتباهي ان العفيف كان يستشهد كثيراً باقوال الاستاذ محمود محمد طه، ويقول بوضوح في كل مرة " كما يقول استاذي ". ولعل من فوائد سنوات واشنطن انني تعرفت لاول مرة على بعض " الاخوة الجمهوريين" وأفكارهم وأيضاً من موقع الاختلاف لكن مع كل التقدير والاحترام، وهذا موضوع سأعود اليه أيضاً تفصيلاً.

كانت تلك المحاضرة وما قيل فيها وتعقيباً عليها، مدخلاً  للتعرف على مجتمع السودانيين في منطقة واشنطن الكبرى.

اختمرت بعدها فكرة في ذهني وجدت ان من الممكن تحقيقها من خلال هذه الجالية النشطة، وهي انشاء "مركز للدراسات المستقبلية في واشنطن" يعنى بقضايا الوطن مشاكله وتطلعاته.

شرعت في هدوء وبعض التكتم في جس نبض من يعتبرون نخبة ذلك المجتمع السوداني ووجدت قبولاً عند البعض وحماساً لدى آخرين. لذلك لم تكن فكرة من نوع تلك الأفكار التي تلقى في الهواء ، بل وجدت ان امكانية تطبيقها متاحة، كل ما هو مطلوب أمرين: المثابرة، ومسألة التمويل المادي، وهو العقبة الكأداء أمام أي عمل ينطلق من منظمات المجتمع المدني.

ماذا حدث لتلك الفكرة؟

     نواصل

 

عن "الاحداث"

مقالات سابقة

جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى  يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط

http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1

 

 

آراء