سنواتي في امريكا: تأسيس اتحاد الصحافيين السودانيين (22) … بقلم: طلحة جبريل

 


 

طلحة جبريل
7 November, 2009

 

talha@talhamusa.com

 

كانت تجربة تأسيس اتحاد للصحافيين السودانيين في الولايات المتحدة ثرة ومفيدة، تعلمت منها الكثير. من بين أهم ما تعلمت طرائق السودانيين ومزاجهم في التعامل مع العمل النقابي ومنظمات الجتمع المدني. ربما يبدو أمراً باعثاً على الاستغراب القول إن الوعي بالعمل النقابي ومتطلباته لدى شرائح من مجتمعنا يفترض أن وعيها المعرفي أقل من وعي "طبقة المثقفين"، ظل متقدماً ،وأعني العمال.

عندما كان الداعي لكم بالخير صبياً يافعاً يعمل "تلميذ نجار" في" هيئة النقل النهري " في الخرطوم بحري كانت نقابات العمال تخلق زخماً استثنائياً. كانت نقابة النقل النهري جزء من نقابة عمال السكك الحديدية العتيدة التي ظلت تنشر الوعي بالتزامن مع دفاعها عن مطالب وحقوق اعضائها ليس فقط وسط عمال السكك الحديدية بل في جميع المدن التي توجد بها أوراش الصيانة او مرافق الخدمات المرتبطة بها وفي مقدمتها مدينة عطبرة. كانت نقابة السكك الحديدية تتوزع بين تيارين سياسين هما الاتحاديون والشيوعيون، وعلى الرغم من الصراعات المريرة بينهما فإن خلافاتهم ونقاشتهم ساهمت مساهمة مقدرة في رفع مستوى وعي العاملين في هذه المؤسسة. وفي ظني ان المبرر الأساسي لانهاء السكك الحديدية كمرفق خدماتي كان تضييق الخناق على النقابات في هذه المؤسسة التي ظلت تجر وراءها تاريخاً طويلاً.

لم يقتصر دور السكك الحديدية على تقديم خدماتها في مجال نقل المسافرين والبضائع بل ربطت أجزاء البلد بعضه بعضاً وكانت بمثابة " لحمة " الوطن، وعندما تفككت كمؤسسة تفككت أيضاً النقابات، وفقدت البلاد مرفقاً خدماتياً كما فقدت منبراً للوعي السياسي والاجتماعي قل نظيره. ذلك "الوعي النقابي" الذي عشته بفضل نقابة السكك الحديدية، أفادني كثيراً في مستقبل الايام.

بدأت عملية تأسيس اتحاد الصحافيين السودانيين في امريكا، بعقد اجتماعات تمهيدية في المكان نفسه الذي تنظم فيه جالية واشنطن الكبرى أنشطتها الثقافية والاجتماعية، كان هناك من لديهم حساسية مفرطة تجاه أي عمل يتم تحت مظلة الجالية. وهو أمر سأتطرق اليه تفصيلاً في وقت لاحق. أنصب النقاش في تلك الاجتماعات التمهيدية على سؤال محوري مفاده : هل يكون اتحاداً للصحافيين والكتاب أم اتحاداً للصحافيين فقط، وهل تقتصر عضويته على الصحافيين العاملين ام يضم كل من سبق وأن أمتهن الصحافة كمهنة.

كان رأيي أن تقتصر عضوية الاتحاد على الصحافيين ، وأن يضم في عضويته كل من مارس الصحافة. على ضوء تلك المناقشات اقترحت الصيغة التي وردت في القانون الأساسي للاتحاد، وهو قانون ظل محل أخذ ورد، لكننا على الرغم من ذلك عملنا به. كانت الفقرة التي تعرف من هم أعضاء الاتحاد كما وردت في القانون الداخلي تقول" عضوية الاتحاد متاحة لجميع الصحافيين في أي من المؤسسات الصحافية والاعلامية في الولايات المتحدة، أو اولئك الذين سبق لهم ان مارسوا الصحافة كمهنة أساسية في اي مرحلة من مراحل حياتهم العملية ولاية فترة من الفترات، سواء كانت صحافة مكتوبة اومرئية او مسموعة".

وحتى لا تقعدنا " حساسية المكان" عن الانطلاق ، اقترحت ان تنتقل الاجتماعات التمهيدية لتأسيس الاتحاد الى منزل الصديق العزيز محمد علي صالح ، كان محمد سخياً كريماً كعادته. كانت توجد خلف منزله غابة صغيرة، كنا نجتمع تحت أشجارها على بعد بضعة امتار من المنزل ، وكان الرجل يحضر في كل مرة وجبة غداء من المشويات والأرز وبعض المقبلات. كان العدد يقل ويزيد والنقاشات تتشعب لكننا كنا نتقدم.

استطعنا أن نحسم مسألة هوية الاتحاد وأصبح اتحاداً للصحافيين فقط. ثم بعد ذلك جرى نقاش صعب ومعقد، كانت الأغلبية ترى ان يكون" اتحاداً مهنياً" ويبتعد عن الشأن السياسي، وكاد أن يحدث انقسام. كان هاجسي الأساسي أن يتأسس الاتحاد، لكن الأمور ظلت تدور حول هذه النقطة الجوهرية: هل هو اتحاد مهني أم اتحاد سياسي؟.

وفي جلسة طويلة بينت وجهة نظري وكنت عادة أتفادى الحديث حول النقاط التي تثير خلافات، وقلت إننا لا يمكن أن ننأى بانفسنا عن قضايا وطننا وقضية الصحافة الاولى هي الحرية وتدفق المعلومات ، واقترحت ان نتعامل مع الشأن السياسي طبقاً لهذه الرؤية وكان الغرض تهدئة مخاوف الذين اعتقدوا ان الاتحاد يمكن ان يغرق في الخلافات السياسية التي يمكن أن  تفرق ابناء المهنة.

كانت هناك معضلة اخرى. هل ننتخب قيادة للاتحاد ثم نصوغ القوانين الداخلية أم نبدأ بالقانون الداخلي؟ ، قلت وقتها إنه طالما ان "الجمعية العمومية" هي سيدة نفسها علينا ان ننتخب قيادة الاتحاد ثم بعد ذلك نضع القوانين الداخلية ، وعلى الرغم من أن هذه ليست مسألة سليمة تنظمياً ونقابياً، لكن كان ذلك هو الحل المتاح. وهكذا تقرر تشكيل اللجنة التي تقود الاتحاد، قبل وضع قوانينه الداخلية.

أحبذ في قرارة نفسي العمل من الصفوف الخلفية، ذلك وضع يروقني، أقول ذلك صادقاً، لكن الصديق صلاح شعيب، وكان يسكن في ضاحية "ريستون" ليس بعيداً عن " شانتيلي" حيث أقطن، حمل لي ذات مساء رغبة المشاركين في التأسيس أن أتولى رئاسة الاتحاد على أساس انني " مستقل" و" صحافي ممارس". والواقع ان الصديق صلاح نقل لي اقتراحاً توافقياً يقضي أن اتولى رئاسة الاتحاد ويصبح محمد المعتصم حاكم الامين العام على ان تضم اللجنة التنفيذية كل من حسن الحسن والمقداد شيخ الدين وصلاح شعيب، وذلك بعد أن اعتذر كل من الزميلين محمد على صالح ولقمان أحمد عن عضوية اللجنة التنفيذية.

 وهكذا كان.

 بعد ذلك ستأتي الفترة الأصعب، وهي مرحلة العمل .

اعلنا في بيان منشور عن تأسيس " اتحاد الصحافيين السودانيين في الولايات المتحدة" وأرفقنا ذلك بتصريحات صحافية، وبعد فترة كان علينا تغيير الاسم الى " اتحاد الصحافيين في امريكا الشمالية" بعد أن عبر بعض الزملاء والزميلات في كندا عن رغبتهم في الانضمام للاتحاد ، قبل ان نعود الى اسم " اتحاد الصحافيين في الولايات المتحدة" لأسباب تحتاج الى شرح وتوضيح.

كانت بداية انطلاق العمل هي حصر العضوية بناء على الصيغة المقترحة في القانون الاساسي. وسار هذا الأمر في يسر وبدون تعقيدات. لكن بعد فترة وجيزة وجدت انني مطالب بانجاز ثلاث مهام في منتهى التعقيد.

المهمة الاولى هي اقناع الاعضاء بأهمية وجدوى هذا الكيان الجديد، اي كان مطلوباً إقناع من " أسسوا" او  "انضموا" للاتحاد بجدواه. وهذه مفارقة، لكنها طرائق السودانيين في التعامل مع منظمات المجتمع المدني. المهمة الثانية تمثلت في طمأنة الجالية السودانية أن الكيان الجديد لم يأت ليزاحمها أو ليكون منبراً مناوئاً للجنتها التنفيذية. أما المهة الثالثة، وكانت هي الأكثر تعقيداً، وتكمن في كيفية التعامل مع السفارة السودانية في واشنطن، بل واكثر من ذلك كيفية التعامل مع " السلطة الحاكمة في الخرطوم".

المهمة الاولى أي إقناع " من أسسوا بجدوى ما فعلوا"  تطلبت اتصالات مع الأعضاء الفعليين أو المحتملين لشرح اهداف ومرامي الاتحاد ،و تعاون معي في هذه المهمة وبكل حماس واخلاص الصديق صلاح شعيب. وخلال فترة وجيزة ارتفعت عضوية الاتحاد الى عشرات منتشرون في جميع الولايات المتحدة.

المهمة الثانية حول "تبديد مخاوف لجنة الجالية" توليتها بنفسي، ودار حولها  نقاش طويل وصريح مع الصديق المهندس ابراهيم سعد الذي اصبح وقتها رئيساً للجالية السودانية. وكانت مكالماتنا الهاتفية تمتد أحياناً لساعات. كان ابراهيم سعد لبقاً في طرحه لبعض المخاوف في أن يتحول الاتحاد الى منبر مناويء للجالية وخاصة للجنتها التنفيذية، واستعمل لغة ديبلوماسية في توضيح وجهة نظره، وكنت صريحاً وواضحا وشرحت له ان لا مجال مطلقاً أن يتحول الاتحاد الى منبر مناويء لسببين: إذ المنطق يقول ان تكامل وتعاون منظمات المجتمع المدني هو الأساس ولا يعقل ولا يستقيم أن يحدث تضاد بين الجهتين. والسبب الثاني ان مجالات عملنا وأنشطتنا مختلفة ، ذلك ان الجالية تحكمها قوانينها الداخلية التي لا تتيح لها القيام باي دور سياسي، ونحن كيان " السياسة" جزء من مهمته طالما ان الصحافة هي " تدفق المعلومات وحرية تداول هذه المعلومات وهي ايضاً حرية مناقشة صنع القرار" وهي وبهذا التوصيف السياسة بعينها. وأستطيع القول إن الصديق ابراهيم سعد كان متجاوباً مع الشرح والتوضيح ، وكان ايجابياً في التفهم والتعامل.

عرفت ابراهيم سعد شخصاً مثالياً في القيام بمهامه، كان وهو رئيس الجالية يحضر قبل الجميع يرتب بنفسه القاعة التي سيتحدث فيها المتحدثون، ثم يقف الساعات الطوال بنفسه يصور الوقائع ، ولا يغادر القاعة الا وقد أعاد طاولاتها وكراسيها الى ما كانت عليه، وتولى الاشراف على موقع الجالية على الشبكة  اشرافاً تقنياً وتحريرياً. وهو الذي اتاح لأعضاء الاتحاد النشر المنتظم في ذلك الموقع وعملنا سوياً على استقطاب اسماء وازنه ، حتى أصبح واحداً من أهم المواقع السودانية. كان إبراهيم قليل الحديث كثير العمل. إذا وعد أوفى. يبادر الى فعل الخير. يقفز من مناسبة الى أخرى مجاملاً ومواسياً. كان إحساسه الاجتماعي مرهفاً.لا يكل ولايمل. يجهد نفسه لارضاء الجميع. عرفته رجلا يتمتع بصلابة خلقية وميل غريزي لفعل الخير. ليس جافاً فيقطع أو طرياً فيعصر. كانت له طاقة مختزنة للبذل والعطاء. خصومه يقولون إنه " اسلامي" متدثر ، وكنت أجد فيه رجلاً متديناً دون خلفيات سياسية. ظل صديقاً حقيقياً.

تركت أجواء الاحتقان السياسي والصراع الذي عرفته بلادنا منذ بداية التسعينات وحتى بدايت الألفية الثالثة، مرارات شديدة في نفوس المعارضين للنظام ،الى حد ان التعامل مع" السفارات" كان ينظر اليه باعتباره" خيانة". كانت وجهة نظري ان الأنظمة زائلة وتتغير، لكن الوطن باق ، و" السفارات" حتى لو حشدت بالموالين، ستبقى في نهاية المطاف " سفارات" الوطن وليس سفارات" الانظمة".

 الوطن لا يمكن أن يرثه احد حتى لو حكمه عقود ، من هنا كان اعتقادي وما يزال اذا كان " الوطن" لا يمكن تركه لفئة اياً كانت قدراتها التنظيمية وما تمتلكه من أسباب القوة، فإن الأمر نفسه ينسحب على السفارات، لذلك كنت أقول لابد من التعامل مع السفارة السودانية في واشنطن من موقع الاختلاف، وكتبت في مقال منشور وانا رئيس للاتحاد اقول " السفارة في النهاية جزء من مؤسسات وطن، ولا يمكن أن نترك الوطن أو جزءاً منه لهذه الفئة أو تلك حتى تحوّله إلى "ملكية خاصة" وهو ما يهدفون إليه في نهاية المطاف. وطبقاً لهذا الفهم هل يمكن أن يكون ذهاب المواطن إلى سفارة بلده مباركة أو تأييداً لسلطة حاكمة او متحكمة في عاصمة هذا الوطن".

كان هذا هو موقفي المكتوب والمنشور وما أقوله دائماً إن عظمة " الكلمة المكتوبة انها مكتوبة".

على ضوء هذا الفهم جرى التعامل مع " سفارة السودان في واشنطن"، كيف تم ذلك ؟

نواصل

 

 

"الاحداث"

مقالات سابقة

جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى  يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط

http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1

 

 

آراء