سنواتي في امريكا : مليونير سوداني واحد في “ارض الفرص” (19)

 


 

طلحة جبريل
12 October, 2009

 


talha@talhamusa.com

 

ربما تبدو مسألة مثيرة للاستغراب ان يتعرف سوداني على تركيبة الشخصية السودانية وخصائص وطبائع هذه الشخصية خارج السودان ، لكن ذلك ما حدث. فقد اتاحت لي "سنوات امريكا" التعرف عن قرب على السودانيين، ذلك ان العدد الكبير الذي نزح خلال السنوات الاخيرة ادى الى ان تتشكل حياة سودانية بالكامل، حتى لا اقول مجتمعات، في بعض المدن والولايات.

كانت اول مناسبة التقي فيها سودانيين، دعوة غداء تكرم بها الصديق محمد علي صالح في نادي الصحافة. حضرت الدعوة ثلة من شريحة سودانية تتبوأ مراكز وظيفية متقدمة، وهم طبقاً لترتيب ابجدي ، دكتور ابرهيم البدوي، والدكتور احمد خير والدكتور سلمان محمد سلمان والفريق المتقاعد محمد زين. ولعل من المفارقات الدالة ان آخر غداء تناولته في العاصمة الامريكية كانت دعوة من طرف الدكتور احمد خير ومعنا الزميل محمد علي صالح ، حيث اختار لنا الصديق خير مطعماً برازيلياً قريباً من البيت الابيض.

كان أول ما لفت انتباهي في أوضاع السودانيين في واشنطن أن امورهم "مستورة" كما نقول حتى وان كانوا من الطبقة الوسطى بالمقاييس الامريكية ، اي لا يوجد الثراء او الرفاه الذي ينطبع في الذهن عندما تسمع أن فلاناً يعمل في امريكا،هناك طبعا آخرون من "الكادحين"، والعمل في امريكا مسألة حظوظ ولا علاقة له بالمؤهلات العلمية.

وكل هموم السودانيين في امريكا هو تسديد فواتيرهم في نهاية الشهر، سواء  تعلق الامر بفواتير خدمات مثل الكهرباء والماء والتدفئة او الهاتف والانترنيت والاشتراك في المحطات التلفزيونية، أو فواتير بطاقات الائتمان المصرفية. ولاشك ان جميعهم سعداء فقط بمجانية التعليم في ذلك البلد وهي مجانية تطال كل شيء بما ذلك الحافلات المدرسية ، ما عدا ذلك كل شيء له ثمنه حتى العلاج والدواء . لو كان الامر بيدي لفتحت ابواب الوطن لخريجي الجامعات الامريكية من ابناء الجيل الثاني من السودانيين، اي اولئك الذين ذهبوا صغاراً الى الديار الامريكية مع اسرهم أو ولدوا هناك ودرسوا هناك .

ولدي اقتناع أن هذه الافواج من الخريجين لو انتقلوا الى السودان حتى لو دفعنا لهم اضعافاً مضاعفة ، لكان ذلك كافياً للرفع من مستوى التعليم والادارة في بلادنا في فترة وجيزة لا تتعدى اربع سنوات.هذا بالضبط ما فعلته الهند التي ستصبح القوى العالمية الثالثة بعد الولايات المتحدة والصين عام 2035 .

طوال فترة اقامتي في امريكا لم اسمع بان سودانيا أصبح مليونيراً باستثناء واحد، على الرغم من ان امريكا " أرض الفرص" وهي بالتالي تجعل من هذا الاحتمال أمراً سهل المنال. هناك مثل امريكي يقول : ليست هناك كعكة من السماء .

 THERE IS NO PIE FROM THE SKY

إذ لا يمكن ان تصبح مليونيراً إذا لم تعمل من أجل ذلك.

كنت قرأت تعبيراً دقيقاً للاقتصادي الباكستاني محبوب الحق  يقول فيه" إذا لم تنتقل الفرص إلى ارض الفقر سينتقل الفقر إلى ارض الفرص " ويبدو ان هذا ما حدث ويحدث في امريكا والسودانيون ليسوا استثناء ، لكنهم حتى الآن ربما لم يعرفوا جيدا كيف يمكن الاستفادة من" أرض الفرص" . هناك مثل فارسي يقول " الأغنياء لا يعرفون الفقراء  لكن الفقراء يعرفون كل الأغنياء"وهذا ما ينطبق على المليونير السوداني الوحيد الذي سمعت به في امريكا ، وهو نوح سمارة.

كنت اعتقد ان قصة نوح سمارة هي قصة نجاح شخص ترقي في السلم الوظيفي، مثلها مثل سائر قصص النجاح في امريكا، وهي لا تعدو ان تكون قصة مدير شركة ناجح لكن لم أكن اعرف بانه مليونير، الى ان نشرت صحيفة " واشنطن بوست" ذات بزم تقريراً حول المدراء الأعلى دخلاً في منطقة واشنطن ، وهو امر سهل الحصول عليه من الاقرارات الضريبية، ليتضح من خلال تقرير الصحيفة ان هناك 20 مديراَ يدخلون في تصنيف " المليونير" من بينهم نوح سمارة الذي يصل راتبه السنوي الى حدود 14 مليون دولار، كما قالت الصحيفة.

كنت زرت شركة نوح سمارة عندما ذهبت عام 1992 لتغطية زيارة ملك المغرب الراحل الحسن الثاني الى واشنطن ، يومها تعرفت على الصديق محمد الفاتح سعيد الذي كان يعمل مع إذاعة هولندا وايضاً محطة " إم بي سي" واقترح علي زيارة شركة "افريكا سبيس" التي يديرها نوح سمارة ، وكانت شركة تعمل في مجال البث الاذاعي عبر الاقمار الصناعية ، بيد ان الامور ستتغير بعد ذلك حيث تعددت مجالات عمل الشركة وان كانت مرتبطة الى حد ما بالبث الاذاعي.

أعود الآن الى المجتمع السوداني في منطقة واشنطن كبرى. اذا كان غداء "نادي الصحافة" اول فرصة للتعرف على ثلة من السودانيين ، فإن ندوة نظمتها الجالية السودانية في مقرها كانت هي بداية التعرف على مجتمع السودانيين.

قبل ذلك اللقاء كنت تحدثت طويلاً مع الزميل محمد علي صالح حول ضرورة ان يهتم مكتب " الشرق الاوسط" في واشنطن بالشأن السوداني ، وقلت له إن ذلك سصبح واجباً علي شخصياً ، لسببين الاول مهني والثاني شخصي.

السبب المهني ان" القضية السودانية" عندما وصلت الى واشنطن اصبحت " قضية امريكية" الى حد ان المظاهرات التي كانت تنظم حول دارفور مثلا لم يحدث ان نظمت في اي عاصمة اخرى في العالم. وبدا لي وقتها ان الشأن السوداني أصبح يدار بالكامل من العاصمة الامريكية ، وسأروي لكم لاحقاً واقعة بيني وبين الرئيس الامريكي جورج بوش وداخل البيت الابيض ، وهي واقعة موثقة.
السبب الثاني شخصي ، إذ ان مكتب الشرق الاوسط في واشنطن والذي تعتبره الصحيفة أهم مكاتبها على الاطلاق ، تعاقب على ادارته امريكي ولبناني ومصريان، وكانت تغطيته في كل مرحلة تتلون تبعا لهوية مدير المكتب، أذن لماذا لا تكون هناك أيضاً "بصمة سودانية" ؟

بشأن النقطة الاولى حول الاهتمام الاستثنائي بالقضية السودانية كنت استغربت لحالة محددة نشرت حولها تقريراً ، وهو تقرير أثار اهتماماً وقتها وتم تناقله على نطاق واسع. تلك الحالة كانت حول رجل قرر الاضراب عن الطعام حتى الموت تضامناً مع ضحايا العنف في دارفور.وفي ما يلي مقتطفات من ذلك التقرير كما نشر في اغسطس عام 2006 :

يخوض قاي مغنلي أضراباً عن الطعام ... احتجاجاً على ما يعتبره تقاعس الادارة الاميركية في حماية سكان دارفور.

ظل مغنلي معتصماً امام البيت الابيض منذ الرابع عشر من مايو (2006) وهو يبقى طوال اليوم تحت شمس حارة ويكتفي بشرب الماء، وفي الليل ينام على احد المقاعد الخشبية في "حديقة لافاييت" المواجهة للمدخل الرئيسي للبيت الابيض. فقد مغنلي من وزنه ... ما يقارب من 12 كيلوغراماً، لكنه مصمم على مواصلة إضرابه عن الطعام . قال مغنلي إنه قرر أن يقوم بحركة احتجاجية ضد "الابادة الجماعية" في دارفور ... بعد أن قرأ تحقيقاً مؤثراً عن معاناة السكان من النازحين أو اللاجئين في صحيفة "نيويورك تايمز" كتبه الصحافي نيكولاس كريستوف، ومنذ ذلك اليوم قرر خوض حملته لكن اسرته المكونة من زوجته وولدين (25 سنة و21 سنة) رفضت الانضمام اليه، مشيراً الى انه ترك وظيفته حيث كان يعمل في تطوير برامج الكومبيوتر في شركة "بوسطن للبرمجة"ويصل دخله السنوي الى حدود 250 الف دولار. وعندما سألته لماذا اختار دارفور على وجه التحديد كقضية أجاب "في الواقع دارفورهي التي اختارتني وانا لم اخترها ... عندما شاهدت معاناة الناس ... قررت أن اتفرغ لهذه القضية".ويعتقد مغنلي انه سيضع حداً لحركته الاحتجاجية إذا استطاعت قوات أممية حماية السكان هناك. وفي رأي مغنلي لم يعد الاعلام الاميركي يهتم كثيراً بقضية دارفور... لذلك لم تتصل به اية وسيلة أعلام اميركية كما لم يكتب أحد عن احتجاجه او اضرابه المتواصل عن الطعام. ويأمل مغنلي الذي بدا عليه هزال واضح ويتحدث بصعوبة بسبب انعكاسات أضرابه عن الطعام على جسده، أن يشاركه آخرون هذه الحملة الاحتجاجية. وقال في لهجة لا تخلو من التحدي والتصميم، رداً على سؤال حول خطورة مواصلته الاضراب على صحته «لدي حالياً 60 دولاراً استطيع ان اقتني به قناني الماء لمواصلة الاضراب الفترة المتبقية لاكمل 60 يوماً.. إذا إنهارت صحتي أو مت، لا تنسى ان كثيرين يحدث لهم ذلك في دارفور".

الآن أعود الى اول ندوة حضرتها من تنظيم " جالية واشنطن". في تلك الندوة تحدثت لاول مرة منذ وصولي الى امريكا في ندوة عامة، وكانت سعادتي لا توصف ان يكون الجمهور المستمع من السودانيين.

ماذا سمعت وماذا قلت ؟

نواصل

عن "الاحداث"

مقالات سابقة

جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى  يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط

http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1

 

آراء