Suakin: A Northeast African Port in the Ottoman Empire أندرو شارلس بيكوك A. C. Peacok ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة وتلخيص لبعض ما ورد في مقال طويل عن تاريخ ميناء سواكن ورد في العدد الثاني عشر من مجلة "دراسات شمال شرق أفريقيا Northeast African Studies الصادرة عام 2012م.
وكاتب المقال هو أندرو شارلس بيكوك، أستاذ التاريخ بجامعة سانت أندروس بإسكتلندا، والمتخصص في تاريخ الشرق الأوسط، خاصة تاريخ دولة السَّلاجقة والإمبراطورية العثمانية. وسبق لنا ترجمة عدد من المقالات عن سواكن منها مقالين بعنوان "قصة سواكن" و"رسالتان حول سواكن" كانا قد نشرا باللغة الإنجليزية في مجلة "السودان في رسائل ومدونات". وورد ذكر المدينة أيضا في المقال المترجم بعنوان "المدن في السودان". المترجم ******* ****** ******** **** بروز سواكن ينبغي أن يُفهم وضع سواكن في البحر الأحمر (وهو تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية) في سياق ماضيها السابق، إذ أنها كانت قد أصابت من قبل شهرة وبروزا كمركز لإعادة التصدير أو مخزن كبير للبضائع (entrepot) قبل أن تسقط في أيدي العثمانيين. ولا يعرف على وجه اليقين إن كان لسواكن تاريخ في عهد ما قبل ظهور الإسلام. غير أن هنالك من الوثائق العربية في القرن العاشر (التي أوردها يوسف فضل في كتابه "العرب والسودان") ما يشير إلى أنها كانت ميناءً صغيرا للبجا متخصص في تصدير المواد الغذائية إلى الحجاز، وهو دور ظلت تقوم به عبر التاريخ. ومع بداية القرن الثاني عشر غدت سواكن محطة مهمة لليهود العاملين في التجارة مع الهند (ويسمون المكارمة / المكارم Karimis، ولعل الصحيح كما ذكر لي أحد الخبراء أنهم من طائفة "الشيعة الإسماعيلية". المترجم)، وكانوا يتخذون من عيذاب الواقعة شمال سواكن مخزنا كبيرا للبهارات التي تصدر إلى مصر. وكانوا يقومون أيضا بإعادة تعبئة البضائع المجلوبة من الهند، ويدفعون عليها من مكوس، ويخزنونها في عدن، ثم يعيدون تسعيرها بالدينار المصري في سواكن. وكان هؤلاء التجار يبيعون الأقمشة والملابس في سواكن، خاصة العباءات، وذلك للحصول على المال اللازم لدفع المكوس والجمارك المفروضة في عيذاب. ورغم أن ظهور سواكن وبزوغ نجمها كان يُربط عادة بالتدهور الذي حاق بموانئ البحر الأحمر، ابتداءً من ميناء بادي إلى الجنوب، ثم ميناء عيذاب، إلا أنه يصح القول أيضا بأن ميناء سواكن لم يكن في البدء منافسا لتلك الموانئ، بل كان مكملا لها. وكانت السفن التي تحمل البضائع من عدن إلى مصر تبحر دوما بالقرب من الساحل الإفريقي خشية من تعرضها لرياح البحر الأحمر العاتية، وتتوقف في الموانئ التي تتوفر بها بعض الفرص التجارية. فقد جاء في بعض الوثائق أن السفينة التي كانت تحمل شحنات البهارات والأقمشة التي أرسلها بركات ليفي التاجر بالهند في عام 1132م توقفت في موانئ بادي وداهلاك ونازلا قبل أن تبلغ سواكن وعيذاب. أما علاقة سواكن السياسية مع مصر فقد كانت ضعيفة جدا، ولا غرابة في ذلك حين كانت عيذاب تحت سيطرة شبه ثنائية للبجا والمماليك. وفي عام 1263م أرسل سلطان مصر وفدا لحكام سواكن وداهلاك في محاولة لثنيهم عن مصادرة ممتلكات التجار الذين توافيهم المنية هنالك. وبعد عامين قام المماليك بحملة عسكرية للاستيلاء على سواكن. وكان على رأس تلك الحملة حاكم "قوص" بصعيد مصر. وكان الغرض من تلك الحملة هو تسهيل وصول تجارة "المكارمة"، ولمنع حاكم سواكن (علم الدين عصبجي) من التدخل في شؤون أولئك التجار. غير أنه ثبت للماليك لاحقا أنه من الأجدى لهم الحفاظ على الوضع القائم، فأعادوا علم الدين كحاكم مملوكي. لم تكن الرغبة في حماية تجارة المحيط الهندي كافية لتحافظ على مصالح مصر في سواكن. ويبدو أن "البريد" (وهو نظام بريدي – استخباراتي) الذي أقامه المماليك في منتصف القرن الثالث عشر لربط سواكن بمصر، قد أسيء استخدامه بعد قرن من إنشائه، حين استولى المماليك على سواكن وعينوا تابعين لهم من أشراف مكة لإدارتها. واستطاع هؤلاء الأشراف السيطرة على المدينة عبر مصاهرات عديدة أقاموها مع كبراء الحداربة / الحدربية، الذين ينسبون أنفسهم إلى العرب الحضارمة، ولكنهم يتحدثون بالبداويت. ويبدو أن الحداربة حكموا سواكن اسميا بإشراف (حقيقي) من "سادتهم" overlords المماليك وأشراف مكة. وفي بدايات القرن الرابع عشر كتب عالم الاجتماع المغربي ابن خلدون عن سواكن، حين كان حاكمها هو الشريف زياد بن أبي نمي. وكما هو حاله دوما، فقد خذلت الحافِظة ابن خلدون في تذكر التفاصيل الدقيقة، فقد وصف سواكن مخطئا بأنها "جزيرة كبيرة المساحة "، وأنها "تقع على بعد نحو ستة أميال من الشاطئ". غير أن ما أورده عن مشكلة المياه في جزيرة سواكن صحيح، وتم تأكيده من مصادر أخرى. فعلي الرغم من وجود خزانات أرضية لجمع مياه الأمطار في الجزيرة، إلا أنها لم تكن كافيةً لسد حاجة السكان مما استوجب جلب مياه الشرب بالقوارب للجزيرة من خارجها. وذكر ابن خلدون أن المهنة الوحيدة الممارسة بسواكن هي تصدير الدخن والمنتجات الحيوانية إلى مكة. غير أن سواكن إبان زيارة ابن خلدون لها كانت قد غدت مركزا مهما لإعادة التصدير، ومخزنا كبيرا للمنتجات والبضائع الثمينة مثل الذهب والرقيق المجلوب من مناطق أفريقيا الداخلية. وكان يقوم على جلب وحراسة تلك البضائع الحداربة، الذين كانوا يشنون حملات لصيد الرقيق وجلب الذهب من مناطق بعيدة مثل إثيوبيا. وكان دور سواكن في التجارة العالمية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر غامضا بعض الشيء. غير أن الضرائب (العقابية) التي فرضتها السلالة الرسولية (Rasulid dynasty) في ميناء عدن على التجار الذين كانوا بعد سنة 1423م وما بعدها يجلبون البضائع من الهند، جعلتهم يتخطون ميناء عدن، ويمضون في الإبحار شمالا والتوقف في موانئ جدة وداهلاك وسواكن. وأخفقت محاولات المماليك في جعل تجارة البهارات تقتصر على ميناء جدة. وفي القرن الخامس عشر شرع كثير من التجار الذين يجلبون البضائع من الهند من ذوي الأصول المكية في استخدام ميناء سواكن مركزا لتجارتهم. وفي ذات القرن كانت لسواكن أهمية كبيرة بالنسبة للحجاج الاثيوبيين المسيحيين الذاهبين لزيارة القدس، إذ كانوا يتوقفون فيها لبعض الوقت. وقد تكون تجارة هؤلاء الاثيوبيين المسيحيين في تلك الأيام (التي استمرت حتى القرن السادس عشر) أهم لسواكن من الحجاج المسلمين المتوجهين لمكة، إذ أن استخدام المسلمين لذلك الميناء من أجل الحج لمكة لم يكن كبيرا في تلك السنوات. ومع بداية القرن السادس عشر ترسخت مكانة سواكن كمركز رئيس ومهم للتجارة الإقليمية والعالمية، وطغى ذكرها على بعض الموانئ الأخرى مثل ميناء داهلاك (الذي لم يحفل المسح البرتغالي للبحر الأحمر الصادر في عام 1541م حتى بمجرد ذكر اسمه). بينما قدم الجغرافي البرتغالي تومي بيرس في عام 1512م معلومات مفصلة عن وضع سواكن بالنسبة لطرق التجارة العالمية. فمن جانب، ذكر بيرس أن موانئ سواكن وبربرة وزيلع كانت تقوم بتصدير البضائع منخفضة القيمة مثل اللحوم والأسماك والأرز والقمح والشعير والدخن إلى جدة. وكانت تلك المنتجات تأتي لسواكن من مناطق كسلا والجزيرة. ومن جانب آخر، أدى ميناء سواكن دورا كبيرا في تجارة البهارات. فقد كانت تلك السلعة المهمة تُجلب أولا لعدن من جنوب شرق آسيا، ثم تؤخذ عبر البحر الأحمر عبر موانئ كمران وداهلاك وسواكن، والتي تُحمل منها بالبر إلى القصير Qusayr حيث تنقل منها عبر النيل إلى القاهرة. غير أن الرحلة عبر ذلك الطريق المذكور لم تكن مأمونة تماما، مما جعل تجار البهارات يؤثرون نقل بضاعتهم عبر البحر الأحمر، رغم شدة هيجان رياحه، من سواكن إلى جدة، ومنها ينقلون بضاعتهم بالبر إلى القاهرة. وكانت سواكن تصدر للهند (عبر ميناء عدن) بضائع أفريقية ثمينة مثل الذهب والفضة. تأسيس الحكم العثماني في سواكن جاء اهتمام البرتغاليين بالبحر الأحمر في سياق اهتمامهم وسياستهم الامبريالية (التوسعية) الأشمل، التي كانت ترمي للسيطرة على التجارة في المحيط الهندي، وإقامة موطئ قدم حيوي لها في مناطق استراتيجية على شواطئه. لذا كانت سواكن تحت تهديد برتغالي مباشر منذ بدايات القرن السادس عشر. ففي عام 1513م استولى البرتغاليون على جزيرة كمران وحاصروا سواكن. وفي عام 1517م بدأوا يفكرون في إقامة قلعة لهم في سواكن أو مصوع، غير أن شدة رياح البحر الأحمر في تلك المنطقة أجبرتهم على هجر تلك الفكرة والابحار نحو داهلاك. وبقيت سواكن في تلك السنوات تحت تأثير (ضعيف) للمماليك. ولكن عند استيلاء السلطان العثماني سليم الأول على مصر عام 1517م، ورث العثمانيون، على الأقل نظريا، كل ما كان تابعا للمماليك (ومن ضمنه سواكن). وأعلنت الإمبراطورية العثمانية رسميا عن المناطق التي صارت من ضمن ممتلكاتها في خطاب جاء فيه أنه: "تم ضم كل مناطق الحجاز وكالكوت واليمن، وأرض مصر حتى حدود إثيوبيا وزنزبار، والمناطق الغربية جهة سوريا إلى خُدام الله سبحانه وتعالى" (أي إلى الخلافة العثمانية). غير أن سيطرة العثمانيين على سواكن (ومناطق مثل زنزبار وكاليكوت) لم تكن حقيقية في ذلك التاريخ، بدليل التقرير الذي قدمه القائد البحري العثماني سلمان الريس في عام 1525م، الذي أتى فيه على ذكر "الميناء المقابل لجدة، المعروف باسم سواكن"، وذكر فيه أن بمقدور خمسين فارسا على ظهر سفينة قادمة من جدة السيطرة على سواكن باسم دولة العثمانيين. ويبدو أن السلطات العثمانية قد أخذت باقتراح سلمان الريس، إذ أن كشف حسابات العثمانيين في مصر في عامي 1527 – 1528م أوردت قيمة الدخل المتحصل عليه من ميناء سواكن. ولكن ليست هنالك وثائق أخرى عن تلك الفترة الباكرة للحكم العثماني على سواكن. ويبدو أن "الحداربة" هم من كانت لهم السلطة الفعلية في سواكن في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. ولعل في هذا ما يفسر سقوط سواكن في عام 1541م على يد البرتغاليين، وذلك عندما ساندت حملة برتغالية أرسلها عبر البحر الأحمر حاكم الهند البرتغالي استايفو دا غاما لمساندة حلفائهم الإثيوبيين ضد المسلمين في إقليم عدل (أودال بالصومالية) الذين كان يساندهم العثمانيون. وكان الهدف الرئيس لتلك الحملة التي تحركت من "غوا" بالهند هو تحطيم الأسطول العثماني في السويس. بلغت تلك الحملة ميناء سواكن في الأول من مارس 1541م، وبقيت فيه أسبوعين كاملين. وسجل جواو دي كاسترو قائد تلك الحملة في تقرير له أن سواكن هي "واحدة من أغنى مدن الشرق"، وأتى على ذكر علاقتها التجارية بجنوب شرق آسيا وبمصر كذلك، وقارن أعداد السفن التي تمر بها بتلك التي تمر بعاصمة البرتغال لشبونة. ولا يخفى أن ذلك كان بالتأكيد مبالغة مفرطة. وعقد البرتغاليون في الأيام التي قضوها بسواكن معاهدة سَلاَم مع سكانها. ولم يذكر كاسترو شيئا عن ووقوع أي حوادث عنف في خلال أيامه في سواكن. غير أن ضابطا في حملته (اسمه مانويل دي ليما) ذكر أن البرتغاليين "غادروا سواكن بعد أن ملأوا قواربهم بالذهب والفضة، وبعد أن أشعلوا النار في المدينة وقتلوا خمسين من الأتراك". ولا يعني هذا بالطبع أن هؤلاء الخمسين كانوا بالضرورة من موظفي الدولة العثمانية، ففي تلك الأيام كان كل مسلم يُوصف بأنه "تركي". ولم يتبخر التهديد البرتغالي لسواكن تماما بعد ذلك. ففي عام 1544م أرسل العثمانيون حملة حربية من السويس بقيادة سفير ريس لتقويم سلطتهم ونفوذهم في شواطئ البحر الأحمر وعلى مناطقه الساحلية. ولم تعثر تلك الحملة العثمانية على أي أثر للبرتغاليين في سواكن وما حولها. ولا بد أن البرتغاليين كانوا في سواكن 1544م في مرة أخرى دون أن يلتقوا بالحملة العثمانية. وعلى الرغم من وصف كاسترو لسواكن بأنها مدينة تجارية غنية، فإننا نجد أن الحاكم الذي عينه العثمانيون على المدينة في عام 1554م باعتبارها tax - farm (أي "مؤجرة"، ويطلق عليها العثمانيون كلمة "التزام")، كان قد كتب لرؤسائه شاكيا من أن "الميناء لا يدر دخلا يكفي لإعاشة جنده"، وطالب بأن يعوض بأي اقليم مصري مناسب. ولكن كان الحاكم العثماني على اليمن (أوزدمير باشا) معجبا بسواكن لازدهارها، وكان يطلب من السلطان العثماني سليمان أن يسمح له بالجهاد ضد إثيوبيا انطلاقا من أرضها. وفي ذلك السياق أقامت الإمبراطورية العثمانية إيالة Eyalet بالحبشة Habes، وعاصمتها سواكن، وعين "الباب العالي" بإسطنبول رجلا اسمه أوزدمير باشا حاكما لها ومنحته لقب "قائد القادة". (ضمت إيالة الحبشة، بحسب ما ورد في موسوعة الويكيبيديا مصوع، حرقيقو، سواكن والمناطق النائية التابعة لهم. وفيما بعد ضُم إليهم زيلع وأرض الصومال الغربية. المترجم) سواكن في إيالة الحبشة عقب تكوين إيالة الحبشة، جرت تعديلات عديدة في هيكل الإدارة لتعكس دور سواكن الجديد. فقدم إلى سواكن أول قاضي شرعي اسمه "عبد الوهاب"، وتبعه مسؤولون آخرون مثل المفتش المالي. وقدم إليها من مصر أيضا ضباط وجنود مسلحون. ولما تبين قلة عدد هؤلاء، تم جلب قوات إضافية من اليمن. وتوسعت إيالة الحبشة في عهد أوزدمير باشا، فضمت إليها دبورا في 1559م. وتوفي أوزدمير بعد ذلك بعام لإصابته بمرض قاتل وهو يعسكر على الحدود الاثيوبية. وواصل ابنه وخليفته أوزديمير أوغلو عثمان باشا في قتال الاثيوبيين بين عامي 1560 و1568م. غير أن آمال العثمانيين ذهبت أدراج الرياح إثر هزيمتهم في موقعة أدي كوارو (Addi Qarro) في عام 1579م، التي قتل فيها قائد قادة إيالة الحبشة نفسه. ومع نهايات القرن السادس عشر تحسنت العلاقات بين إيالة الحبشة وإثيوبيا. غير أن سواكن بدأت في التعرض لتهديد جديد، كان هذه المرة من قِبَل سلطنة الفونج. وهنالك وثيقة عثمانية تثبت أن حاكم سواكن كان قد طلب مده بتعزيزات دفاعية للمدينة خوفا من هجوم يحضر له سلطان الفونج دورة بن دكين. وفي تلك الفترة ظلت البرتغال ترسل الجواسيس للحبشة. وقبض على اثنين من هؤلاء الجواسيس في عام 1582م وتم الإعلان في سواكن أنه "تم القبض على أثنين من البرتغاليين الكفرة وهما يدعيان الإسلام ويحاولان الحصول على معلومات عن الميناء ...". ورغم أن العثمانيين كانوا يسيطرون على سواكن، إلا أن قبضتهم عليها (حتى في القرن السادس عشر) كانت مهزوزة إلى حد كبير. ولم يفلحوا في جعل المدينة تعتمد على مواردها الذاتية، بل ظلت في عهدهم في حاجة دائمة لعون غذائي مالي وعسكري من خارجها (غالبا من صعيد مصر أو اليمن أو ابريم في أرض النوبة أو من "شيخ العرب"). ورغم التدهور الاقتصادي والمالي الذي حاق بسواكن في النصف الثاني من القرن السادس عشر، إلا أن أعين الفونج (تحت قيادة ابن دكين) ظلت مسلطة عليها باعتبارها السوق الرئيس لكل أراضي الفونج. وظلت التجارة التبادلية قائمة بين سواكن وسلطنة الفونج حتى القرن السابع عشر، رغم بعض مظاهر العداء بينهما. وكان الفونج يبادلون منتجاتهم من المواد الغذائية بالأقمشة والملابس من سواكن. وكانت من أهم صادرات الفونج عبر سواكن هي خيول صعيد مصر، والتي تصدر إلى إثيوبيا. غير أن العثمانيين أوقفوا في منتصف القرن السادس عشر تلك التجارة عبر سواكن خشية أن تزيد تلك الخيول من قوة إثيوبيا العسكرية. وبخلاف مشاكل سواكن المتمثلة في نقص الأغذية والمال، كانت المدينة تعاني أيضا من صعوبة شديدة في الاتصالات مع إسطنبول، عاصمة دولتها. فالتوجيهات المرسلة من "الباب العالي" بإسطنبول كانت تستغرق خمسة إلى ستة أشهر حتى تصل لسواكن. وتستغرق المراسلات بين سواكن ودابورا نحو 25 يوما، عبر طرق غير آمنة. وزاد الطين بلة قيام "بدو الفونج" بالهجوم على سواكن في عدد من المرات، ومنعهم للسكان من الوصول إلى مصادر المياه فيها، وبيعهم الماء لهم بأسعار فاحشة، بل وقتلهم لعدد منهم. ولم يفلح تشييد العثمانيون لعدد من القلاع في سواكن في صد هجوم "البدو الفونج" على المدينة. وظلت سواكن طوال القرن السادس عشر عرضة لمثل ذلك الهجوم، وتعتمد على السكان المحليين في الدفاع عنها. سواكن في القرنين السابع عشر والثامن عشر ليست هنالك وثائق كثيرة عن إيالة الحبشة وسواكن في القرن السابع عشر. ولكن من المعروف أن علاقتهما مع الدول المجاورة كانت قد بدأت في التحسن، خاصة بعد انتهاء الحرب مع إثيوبيا بتوقيع معاهدة سلام، سمحت لها باستخدام سواكن كمنفذ بحري لبضائعها. وبدأ حاكم سواكن يتقاسم مع سلطان الفونج عوائد الجمارك والضرائب المفروضة على البضائع في الميناء. وسردت الوثائق العثمانية القليلة المتوفرة عن سواكن في عام 1655م أن مصطفى باشا، دفتردار البوسنة، استطاع عن طريق الرشوة أن يتعين حاكما لإيالة الحبشة. وقام الرجل بتعيين وكيل (يسمى "مستلم") له ليدير سواكن اسمه مصطفى أغا. ولكن مصطفى باشا عين سرا شخصا آخر ليكون حاكما على سواكن بديلا لمصطفى أغا إن أساء الأخير التصرف. وبدأ مصطفى أغا عمله في سواكن بإلزام التجار بدفع الجمارك والضرائب المفروضة عليهم في الميناء نقدا وليس بالبضائع كما كانوا يفعلون. واحتج التجار وكبراء المدينة على ذلك وقالوا بأن التجار سيعزفون عن استخدام ميناء سواكن إن أصر الحاكم على قراره، وأيدهم في احتجاجهم كبار القادة في إيالة الحبشة. وعند ذاك ظهر الوكيل "المستلم" البديل الذي كان حاكم الحبشة قد عينه سرا. وحدثت بعد ذلك فوضى ضاربة الأطناب انتهت باعتقال الوكيلين (الأصلي والبديل) واستيلاء أحد الإنْكِشَارِيَّة (اسمه ديلي ديرفس) على حكم سواكن. ولجأ مصطفى باشا لجدة على أمل أن يستعيد حكم سواكن، غير أن محاولته الأولى لاستعادتها أخفقت لشدة مقاومة الجنود العثمانيين بالمدينة (والذين قيل إن أثيوبيا أمدتهم بالعون). وفي نهاية المطاف استطاع مصطفى باشا استعادة حكم سواكن بمعونة قوة بُعث بها إليه من مصر، بينما أفلح ديلي ديرفس وأتباعه في الفرار من سواكن. وتدل قصة ذلك التمرد والقضاء عليه على أن حماس وحرص مصطفى باشا على استعادة السيطرة على سواكن لا بد أن مبعثه كان أهمية ذلك الميناء في جلب موارد مقدرة للباب العالي في إسطنبول. ويدل انحياز جنود حامية سواكن للتجار في احتجاجهم على قرار مصطفى باشا على وجود مصالح (محلية) لهم مع السكان المحليين، وربما يكونوا قد تصاهروا مع الأهالي. وتدل الصعوبة التي لقيها مصطفى باشا في البدء لاستعادة السيطرة على سواكن على قوة دفاعاتها نسبيا. وظلت مشكلة المياه قائمة في سواكن في غضون القرنين السابع عشر والثامن عشر، فكان السكان في بعض الحالات يتسَوَّلَون الماء من السفن العابرة للميناء. ولم تفلح التحصينات الثلاثة التي بناها العثمانيون حول الآبار في حماية المدينة من العطش. وكتب أحدهم أنه لولا تلك التحصينات حول الآبار فإن "هؤلاء الزنوج السود لن يسمحوا لأحد في سواكن بقطرة ماء واحدة، وستموت المدينة عطشا". وعلى الرغم من كل المشاكل التي واجهت سواكن، فقد كانت تعد في القرنين السابع عشر والثامن عشر مدينة تجارية مهمة. وكتب في ذلك الفرنسي بونسيه (الذي زار سلطنة الفونج في عام 1699م) أن سنار كان تعتمد اعتمادا كبيرا على سواكن في صادراتها للعالم (التي تصل لسوارت في الهند) وتشمل العاج والذهب والطِيب الذي تُفْرِزُهُ بَعْضُ غُدَدِ سِنَّوْرِ الزَّبَاد (civet)، وتعتمد عليها أيضا في وارداتها وأهمها التوابل وغيرها من منتجات الهند. وذكر بونسيه أن هنالك في سواكن من يمارس صيد اللؤلؤ والسلاحف. غير أن وثيقة أخرى صادرة من إسطنبول تذكر أن أهم البضائع المصدرة من سنار عبر سواكن إلى الحجاز كانت هي الجمال والرقيق. وفي تلك السنوات، بدأت سفن الدول الأوربية في بسط سيطرتها على التجارة في البحر الأحمر، بموافقة ضمنية من الحكام العثمانيين المحليين، وقلت نتيجة لذلك المداخيل التي كانت تلك الموانئ العثمانية تجلبها لإسطنبول. وتزامن ذلك أيضا مع تشديد التضييق على حركة سفن المسلمين في البحر الأحمر. ثم تضاءلت أهمية إيالة الحبشة مع مرور السنوات فضُمت إلى سنجق (حاكم) جدة، وتركت إدارتها إلى وكلاء "متسلمين". وعند زيارة الرحالة الأسكتلندي جيمس بروس لمناطق البحر الأحمر في 1769م، كان التدهور التجاري الذي حاق بموانئ ذلك البحر واضحا للجميع. ووثق بروس لذلك في كتابه عن رحلته لاسكتشاف منابع النيل الذي صدر عام 1790م، رغم أنه لم يقم شخصيا بزيارة سواكن. ولكن جاءت مذكرات الرحالة السويسري بيركهاردت، الذي طاف على المنطقة في 1814م مؤيدة لما ذهب إليه بروس. وكان بيركهاردت قد لاحظ ازدحام وتكدس ميناء سواكن بالكثير من السفن المعطلة، وأنه ليس هنالك من له القدرة أو المهارة لإصلاح أي عطب في تلك السفن. ولاحظ أيضا تهدم نحو ثلثي بيوت المدينة (وعددها 600). أما المباني العامة فلم يبق منها - بحسب زعمه -سوى ثلاثة مساجد. وأكد بيركهاردت أن الجنود العثمانيين قد تصاهروا مع السكان المحليين، وتم استيعابهم ضمن مجتمعهم، وهو ما لاحظه الكثيرون في القرن السابع عشر. فقد كتب بروس أن "الذين ينتسبون لأصل تركي هم في الغالب من أحفاد الجنود الأتراك... ويقول كثير منهم أن جدودهم تمتد أصولهم لديار بكر أو الموصل. غير أن الكثير منهم له ملامح وأخلاق وسلوكيات أفريقية، ولا يمكن التفريق بينهم وبين الحداربة". وذكر محمد صالح ضرار في صفحة 55 من كتابه "تاريخ سواكن والبحر الأحمر" شيئا عن أنساب سكان سواكن الذين أتى جدودهم من الأجزاء الغربية للإمبراطورية العثمانية، ومن بينها إسطنبول. وهنالك أيضا المنحدرين من أصلاب بحارة وتجار "أتراك"، من الذين نسوا لغتهم الأصلية و"استعربوا"، وتبنوا العادات العربية، وصاروا يرتدون أزياء أهل الحجاز. واستمر التعايش السلمي بين الهياكل الحكومية المحلية والخارجية، وهو الأمر الذي كان موجودا منذ عهد المماليك، حتى السنوات الأخيرة لهيمنة العثمانيين المباشرة. وكانت إدارة المدينة في يد أمير من الحداربة، يُختار من بين أقدم وأرفع عائلات القبيلة. وربما كان هذا استمرارا لتقليد التحالف مع "شيخ العرب" الذي كان سائدا في القرن السادس عشر. وكان تعيين ذلك الأمير الحدربي أميرا على سواكن يتطلب أولا موافقة حاكم جدة (العثماني). أما سلطة العثمانيين في سواكن فقد كان يمثلها فقط ضابط الجمارك الذي يحمل لقب "أغا"، ولم تكن له سلطة فعلية على الحداربة. وذكر بيركهاردت أنه التقى بذلك الأغا (واسمه ياماك)، وسمع منه أنه من أهالي جدة وأنه لا يتحدث إلا القليل من اللغة التركية. وسخر بيركهاردت من ذلك الأغا لمحاولته التمسك بالعادات العثمانية في بلد كسواكن. وأورد بيركهاردت أيضا أن الحامية العثمانية بالمدينة كانت تتكون من خمسة أو ستة رجال فقط من المرتزقة اليمنيين. وكان يعتقد بأن سكان سواكن لم يطردوا أفراد تلك الحامية العثمانية من جزيرتهم إلا خوفا من هجوم (محتمل) يأتيهم من جدة. ومع بدايات القرن التاسع عشر اشتد التوتر بين أهالي سواكن وحكامهم العثمانيين، خاصة بسبب خلافات مذهبية، حيث آثر السواكنيون الابتعاد عن بعض معتقدات العثمانيين المذهبية. فقد كان علماء سكان سواكن (الذين يتبعون المذهب الشافعي) يحاولون منذ ثمانينات القرن الثامن عشر أن يزيحوا القاضي (الحنفي المذهب) الذي عينه العثمانيون. بل وتحاشى بعضهم الصلاة خلفه. وكان للمصلح الديني الشافعي المذهب محمد المجذوب (الذي هاجر إلى سواكن في عام 1829م) أتباع كثر في سواكن، أيدوه في وقفته ضد الإدارة العثمانية الحنفية المذهب. وبالإضافة لذلك التوتر المذهبي، برزت هنالك أيضا صراعات (خفية وعلنية) بين البجا والعرب في سواكن، ولكن كان للشيخ محمد المجذوب دورا مهما في تهدئة تلك الصراعات (يمكن النظر في كتابات البريشت هوفهاينز Albrecht Hofheinz عن حركة المجاذيب ودورها في تجنب الصراعات العرقية والمذهبية. المترجم). وعلى الرغم مما ذكره الرحالة بيركهاردت عن اضمحلال النشاط التجاري (للمسلمين) في البحر الأحمر في غضون سنوات القرن التاسع عشر، إلا أن التجارة ظلت هي مصدر العيش الوحيد بسواكن في تلك السنوات، على الرغم من تأبي سكانها على قبول العملتين المصرية أو العثمانية. وظل ميناء سواكن يصدر للحجاز المنتجات الحيوانية، ويصدر أيضا منتجات سلطنة الفور إلى الهند وإثيوبيا. غير أن التجار البنيان (Banyans) توقفوا عن التعامل مع ميناء سواكن، وظل العمل فيه مقتصرا على تجار سواكن والحجاز. وبقي في سواكن سوق كبير لبيع وشراء المسترقين (قدروا بنحو 2,000 إلى 3,000 كل عام)، وظلت السفن والقوارب المعبأة بالمسترقين تغادر سواكن في طريقها لمختلف البلدان. وظل صيد اللؤلؤ أيضا من سبل كسب العيش بالجزيرة. وكان هنالك أيضا نشاط تجاري في سواكن في موسم الحج إلى مكة، رغم قلة عدد الحجاج المسافرين عير ميناء سواكن (قدرهم بيركهاردت بخمسمائة من الزنوج سنويا، كانوا يشتغلون في أثناء انتظارهم لبواخر وقوارب تقلهم لجدة في أعمال يأنف من الاشتغال بها أهل سواكن). أما غالب الموسرين من حجاج غرب أفريقيا فقد كانوا يؤثرون استخدام الطريق البري من دارفور إلى أسيوط –القصير – جدة، بينما كان حجاج كردفان وسنار يفضلون السفر للحجاز عن طريق السفر عبر النيل إلى مصر. ويمكن أن نخلص مما سبق ذكره إلى أن التجارة بسواكن في القرن التاسع عشر لم تكن تختلف كثيرا عنها في القرن السادس عشر. ويمكن القول أيضا أن سواكن لم تتأثر بأي "طابع عثماني" مميز في غضون سنوات حكم العثمانيين لها. ولم يقم العثمانيون بأي نوع من الاستثمار الجاد في المدينة (على عكس ما قاموا به في مدن أخرى كثيرة). ولعل في هذا ما يشير إلى عدم رغبتهم في إدخال سواكن ضمن منظومة الإمبراطورية العثمانية وحضارتها وثقافتها في مجال المعمار وغيره من المجالات. وليس هنالك أي دليل على أن الوجود العثماني في سواكن (والذي قارب نحو 300 سنة) قد ارتبط اقتصاديا أو ثقافيا بالإمبراطورية العثمانية ومركزها الشرق أوسطي. وظلت سواكن، كما كانت دوما، ميناءً يسيطر عليه الحداربة، ويرتبط بالداخل الإفريقي، وبعالم الملاحة الواسع (في البحر الأحمر وفي غيره أيضا).