سيرة شيخ بابكر بدري الذاتية: “تاريخ حياتي” (2 -2) .. عرض وتلخيص بدر الدين حامد الهاشمي
سيرة شيخ بابكر بدري الذاتية: "تاريخ حياتي" (2 -2)
Shaykh Babiker Badri's Autobiography: Tarikh Hayati
نصر الحاج علي
عرض وتلخيص بدر الدين حامد الهاشمي
هذا هو الجزء الثاني من عرض مختصر لمقال للأستاذ نصر الحاج علي عن سيرة الشيخ بابكر بدري الذاتية، والتي سجلها في سفره المشهور "تاريخ حياتي". نشر المقال باللغة الانجليزية في عام 1967م في مجلة "السودان في رسائل ومدونات".
ذكرنا في الجزء الأول أن الشيخ بدري تقاعد من الخدمة الحكومية في فبراير من عام 1929م، فعاد إلى رفاعة حيث افتتح مدرسة لأحفاده في عام 1930م، ثم انتقل بالمدرسة بعد ذلك لأم درمان، حيث اصبحت أكبر وأفضل مؤسسة تعليمية خاصة في السودان وربما في أفريقيا المدارية. بدأت "الأحفاد" بروضة للبنات والأولاد ثم تطورت حتى غدت مدرسة ثانوية للبنات وأخرى للأولاد فيهما عدد من الأنهر ومئات الطالبات والطلاب (كان هذا في عام 1967، قبل قيام "جامعة الأحفاد"). عمل الشيخ بابكر بدري بلا هوادة ومن عام 1930م إلى حين وفاته في يوليو من عام 1954م في بناء "الأحفاد" ماديا وتقنيا عبر المراحل الأولية والوسطى والثانوية، وما هو قائم الآن يشهد بعظمة ذلك الشيخ الذي نشأ في مجتمع تقيده تقاليد وثقافة عربية اسلامية شديد المحافظة، وأفلح رغم ذلك في استيعاب الأفكار الغربية المعاصرة المتعلقة بالتقدم وإعادة البناء الاجتماعي وفي التصالح معها واستغلالها لمصلحة بنات وبني وطنه. لقد تصدى الشيخ، وبمفرده، للقيام بأول جهد طوعي وطني لإرساء قواعد التعليم الأهلي بالسودان على أسس عصرية، ولاقي في سبيل ذلك صعاب جمة ومتاعب هائلة في زمن سادته اللامبالاة والاتكالية والاعتماد الكامل على الحكومة في بناء السودان الحديث. إن حياة الرجل، كما تتبدى واضحة في مذكراته، هي مثال شديد الوضوح للطفرات (mutations) التي تحدث في الطبيعة بين حين وآخر فتنتج ظاهرة جديدة تضيف أو تخصم من زخم الحياة المتصاعد. في حالة الشيخ بابكر بدري فإن تلك "الطفرة" قد أضافت، وبما لايقاس.
بعد أن ذكر الأستاذ نصر جانبا مختصرا من حياة الشيخ، وطرفا من أحوال السودان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين دلف إلى وصف المذكرات والتي صدرت بالعربية بعنوان : "تاريخ حياتي – بابكر بدري" في ثلاثة أجزاء عدد صفحاتها 185 و 278 و218 على التوالي. يغطي الكتاب الأول الأعوام السبعة وثلاثين الأولى من حياة المؤلف، مع مقدمة كتبها التربوي المصري المعروف الدكتور محمد فريد أبو حديد والذي كان قد تعرف على بابكر بدري في عام 1940 واستمع له، وود لو اتيحت له فرصة كتابة تاريخ حياته، وكان يظنه في الستين من عمره، بينما كان الشيخ بابكر في واقع الأمر في الرابعة والسبعين من العمر. يقول أبو حديد إن تاريخ حياة بابكر بدري هو في الواقع تاريخ السودان الحديث.
يتناول كتاب المذكرات الأول توثيقا ووصفا للأشخاص والأماكن والأحداث والمؤسسات التي شكلت حياة جيله في غضون أعوام الحكم التركي – المصري الأخيرة وسنوات المهدية وبدايات الحكم الثنائي.
سجلت تلك المذكرات الأحداث بتسلسلها الزمني، وبمن كانوا شهودها، وجاءت بعناوين مثل: "خلوة الفكي الكراس /الكراص؟" و"الإمام المهدي يظهر في الساحة" و"الانضمام لجيش لمهدي وحصار الخرطوم" و"مع قوات ود النجومي" و"استسلام حامية سنار" و"بين أمدرمان وسواكن" و"هروب سلاطين" "ومصير نساء المتمة" وغير ذلك.
جاء في الجزء الثاني من المذكرات مقدمة ضافية كتبها السير ستيوارت سايمس السكرتير الخاص لسير وينجت حاكم عام السودان الأول بين عامي 1899 – 1916م، والذي عين هو نفسه حاكما عاما للسودان بين عامي 1934 – 1939م. أثنى السير سايمس على الشيخ بابكر كرائد للتعليم ورجل تقدمي الأفكار. من موضوعات الجزء الثاني من المذكرات جاء في الفصل المعنون "أول يوم للحكم الثنائي" وصف مفصل لمدينة أمدرمان وهي تسقط في يد المستعمر، وسلوك وتصرفات جنود القوات الغازية. شملت موضوعات هذا الجزء أيضا عناوين مثل "الحكومة تفرض ضرائب لم يعهدها السكان" و"اتجهت للتدريس" و"خططي لفتح أول مدرسة للبنات في رفاعة" و"المفتشون والمآمير يتدخلون في كل شيء" و"المجاعة والذرة من الهند" و"انشاء خلاوي معتمدة" وغير ذلك من الموضوعات. خصص المؤلف بقية الكتاب (نحو 96 صفحة) للسنوات الأخيرة الصعبة في حياته كموظف حكومي بين عام 1922 -1928م حين ظل في خلاف دائم مع رؤسائه وبعض موظف الحكومة الآخرين في أمور تتعلق بالتعليم وغير ذلك من الأمور، وأضطر في نهاية المطاف للتقاعد والعيش على راتبه التقاعدي الزهيد والسعي لبدء حياة جديدة. عنون الشيخ تلك الصفحات بعنوان: " الخلاف بيني وبين البريطانيين يصل لطريق مسدود".
يتناول الجزء الثالث من المذكرات، والذي قدم له السيد عبد الرحمن المهدي، حياة الشيخ في سنوات تقاعده من عام 1929م إلى حين وفاته. ظل السيد عبد الرحمن صديقا مخلصا ونصيرا معوانا لبابكر بدري، وكتب في مقدمته له أن "حياة صديقي بابكر بدري تمثل تاريخ أمة وتطور جيل بحاله."
تناول الجزء الثالث تفاصيل محاولات الشيخ المستميتة للحصول علي مال كاف لتمويل مشاريعه التعليمية في مدارس الأحفاد ولتدريب المدرسين. تطرق الكاتب أيضا الأحداث المهمة التي وقعت قبل وبعد الحرب، عبرت معظم العناوين التي وردت في هذا الجزء عن هذه الأحداث مثل "الاتفاقية البريطانية – المصرية في 1936م" و "البعثة التجارية المصرية 1931م" و"الحرب العالمية الثانية" و"الخريجون" و"زيارتي لمصر بعد خمسين عاما" و"الزراعة والتعليم" و"تجريب المنهج المصري" وغير ذلك من الموضوعات.
كتبت المذكرات بلغة عربية كلاسيكية بسيطة، مستخدمة في بعض الأحايين اللغة الدارجة في الحوار والمخاطبة المباشرة. يحمد لمن قاموا بتحضير الكتاب للنشر عدم تدخلهم في لغة الكاتب بالتعديل أو الحذف أو الاضافة خاصة فيما يتعلق بما يمكن أن يعد اساءة أو خروجا على الأخلاق أو القيم أو التقاليد (يبدو أن الأمر ليس بهذه البساطة والتعميم كما ظهر لاحقا وتم تناوله في كثير من الصحف والمواقع الاسفيرية. المترجم). وبهذا فإن المذكرات تعد سجلا صادقا لحياة الناس في السودان النيلي وعن علاقاتهم ببعضهم البعض وبالأجانب أيضا. ليست هنالك خصلة ما في المجتمع السوداني، ولا مكون من مكونات الفرد السوداني النفسية والروحية والجسدية لا تجدها في ما فعل أو رأي أو سمع به بابكر بدري وسجله في مذكراته. يجد القارئ لتلك المذكرات متعة لا تقل عن تلك التي يجدها في قراءة قصة كلاسيكية أو رواية، ويجد فيها الباحث في التاريخ وعلم الاجتماع والعلوم السياسية أيضا فائدة كمصدر غني ورئيس للمعلومات.
تكمن القيمة الحقيقية لهذه المذكرات في أنها كنز غني بالمعلومات الصحيحة، إذ أن الكاتب قد التزم فيها جانب الأمانة والصدق والاخلاص، وأظهر فيها طبيعته البشرية الصرفة في ساعات قوتها ولحظات ضعفها .... من غير تزويق ولا تدليس...عند بزوغ فجر الايمان وكذلك عند وميض برق الاغراء. مما يثير الدهشة هو إصرار المؤلف – ومن باب الأمانة التاريخية- على التزام جانب الأمانة في تسجيل الحوادث التي مرت عليه والأفعال التي قام بها رغم مرور سنوات وعقود على تلك الحوادث والأفعال. كان بإمكانه أن "يعيد النظر" في أفعاله وأقواله الماضية وهو يسجلها في مذكراته، بيد أنه لم يفعل، بل قاوم في شجاعة أدبية نادرة اغراء التعديل والإخفاء والتبرير. إن مذكرات بابكر بدري تحفل بعديد الأمثلة عن مواقف متذبذبة له تتضح فيها من جهة شجاعته الأدبية والمادية وصبره واستقامته، ومواقف أخرى له تشير إلى جبن وانتهازية وسهولة وقوع في حبائل الاغراء. فالحادثة التي يرويها في صفحة 63 من الجزء الأول من المذكرات عن حاله وهو على ظهر حماره في مرمى نيران العدو في باخرته على النيل تدل على عزم وتصميم وقدرة فريدة على التحمل. كذلك تدل مواجهته للورد كتشنر عقب هزيمة القوات المهدوية مباشرة عند لقائه مع تجار أمدرمان بسبب نقص الحبوب، وهجومه على الحكم الثنائي واتهامه له بسرقة قوت المواطنين، دلل ذلك على شجاعة نادرة (ص 5 من الجزء الثاني). ومن جهة أخرى تدل قصة أخرى على تقبل بابكر بدري للإذلال حين لقيه عبد الله السنوسي الأخ غير الشقيق للخليفة عبد الله من جهة أمه، والذي أمر بجر بابكر بدري من على ظهر حماره وخلع عمامته وحزام وسطه وسيفه، وشتمه قائلا: "يا ود البقس... لماذا لم تهرول خلف حماري؟". أجابه بابكر بدري وهو يجثم تحت أشعة الشمس الحارقة بأنه لم يؤمر بذلك، وانتهي الأمر بدعوته للأمير لتناول الشاي في بيته! في بيت بابكر بدري أمر الأمير بمصادرة الطقم الذي قدم فيه له الشاي وأرسله لبيته فلم يحر بابكر بدري غير ترديد عبارات الجذل والحبور على ذلك الفخر الذي أسبغه ذلك الأمير عليه (صفحة 166 من الجزء الأول). كذلك ذكر بابكر بدري أنه شارك في معركة كرري دون كبير حماس، وأنه انتهز فرصة وجود جثة أحد الأنصار بقربه في أرض المعركة مضرجة بالدماء فقام بتلطيخ جسده بتلك الدماء وطلب من اثنين من جنود الأنصار أن يحملاه إلى مكان آمن يختبئون فيه جميعا (صفحة 180 – 181 في الجزء الأول). لقد كانت كل خطواته وأفعاله مدروسة محسوبة بالفعل، ولا تتم إلا بعد تبصر وتدبر للحال والمآل. إنه - وكما سجل في مذكراته- عندما يدرك أن لا مجال البتة للعقل أو المنطق كان يقبل بالواقع مهما كان وينبذ الشجاعة الكاذبة ويتصرف بحسب مقتضى الحال.
خلص الأستاذ نصر الحاج علي بأن الشيخ بابكر بدري يمثل الحلقة الرابطة بين الماضي والحاضر، وكانت له نظرة مستقبلية بعيدة جعلته يترك لنا وصفا دقيقا وأمينا لمراحل مختلفة من تاريخ البلاد.
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]