شيء من الكلام عن أزمة الصحافة السودانية وقضية الأطباء …. بقلم: محمد المكي أحمد

 


 

 

modalmakki@hotmail.com

 

مثلما أثارت  "الطبخة الانتخابية"في أبريل 2010 - و التي أخرجت "الطبعة الثانية لحكومة الانقاذ" - نقاشا ودهشة  تتباين كيفيات تحليلها  في أوساط  سودانية وخليجية وعربية وغيرها،  فان ما يجري في السودان حاليا  طرح   علامات استفهام  اضافية عن مغزى الاستمرار في السياسات القمعية .

هذا النهج القديم المتجدد  أثار ايضا  يثير حاليا استياء   ملحوظا في أوساط سودانية في الخارج،  بسبب  ممارسات ديكتاتورية للنظام الحاكم  لا علاقة لها بما يقال عن "التحول الديمقراطي" المفترى عليه.

كان عدد من  السودانيين - وكنت واحدا بينهم – يدفعون  قبل اجراء الانتخابات "المزورة"  باتجاه التوافق بين السودانيين من خلال انتخابات حرة ونزيهة، لينتقل البلد من حال الضياع والتشرذم الى عالم الاستقرار والتداول السلمي للسلطة  من خلال الشفافية الانتخابية والصدقية في اجراءاتها.

معلوم لدى أي مراقب منصف  أن الانتخابات أثارت خلافات، وأضافت مشكلات لأنها افتقرت الى الشفافية والنزاهة ، ورغم ذلك لم أتوقع أن يعود  " الانقلابيون الديمقراطيون الجدد" الى "المربع الأول"  بهذه السرعة بعدما سيطروا على كراسي الحكم  بأسلوب آخر ، أي العودة الى  ممارساتهم القديمة التي تقوم على  التحكم في مصير الشعب من خلال البطش والاستبداد وتكميم الأفواه.

كان من الأفضل  للنظام وقادته -رغم أن الديمقراطية لا تقبل الادعاءات ولا انصاف المواقف التي تتعلق باحترام الحريات والحقوق – أن يحتمل و يصبر قادة الحكم الذين يقولون إن الشعب انتخبهم  على ما يكتبه صحافيون  وكتاب  وسياسيون من أصحاب الرأي الآخر ، أو ما ينادي به   أطباء من اصلاحات  ومطالب مشروعة  ، أو أن يتم التعامل باسلوب ديمقراطي مع مسيرة تضامن قام بها طلاب طب في جامعة الخرطوم أرادوا أن يعبروا سلميا عن تضامنهم مع أطباء تعرضوا للضرب والاعتقال والاهانات.

كان متوقعا  في بعض الأوساط  السودانية المتفائلة بعدما تكلم  قادة الحكم  كثيرا  عن دخولهم   ماوصفوه بمرحلة "التحول الديمقراطي" بعد الانتخابات أن يتم السماح للصحافة السودانية   بمواصلة رحلة الانتعاش   ولو على سبيل التمويه والديكور  في طرح قضايا الوطن بالجرأة والشفافية التي سادت خلال فترة الانتخابات.

طبعا لم يحدث ذلك والأدلة بدأت تزداد يوما بعد يوم، ويكفي الاشارة الى اغلاق  صحيفة " رأي الشعب" التابعة لحزب المؤتمر الشعبي  من دون اسناد الأمر الى الجهة المختصة في مجلس الصحافة ، ومن دون احترام الدستور الانتقالي، أو احترام ضرورات العودة الى القضاء قبل اتخاذ أي أجراء  تعسفي ، سواء تمثل في اعتقال صحافيين أو سياسيين كما جري  للأمين العام لجزب المؤتمر الشعبي الدكتور حسن الترابي.

هذه الممارسات الديكتاتورية ، وبينها  اعادة فرض الرقابة على بعض الصحف ومنع مقالات بعض الكتاب من النشر في الصحف يشكل  انتكاسة ليست للنظام السياسي فقط وخصوصا  أنه  يشهد انتكاسات متواصلة، وانما انتكاسة لكل  من سعى  الى خداع  الناس وروج الى أكذوبة  أن  السودان دخل الآن  مرحلة "تحول ديمقراطي"يتمتع فيها الناس بحقوقهم من دون ظلم أو بطش.

 في مقال كتبته في "الأحداث"  بعد انتخابات ابريل 2010 أشرت الى  أن المحك في صدقية النظام الحاكم تكمن في كيفية تعامله مع الصحافة بعد انتهاء فترة الانتخابات، وفي طريقة احترامه لحقوق السودانيين عموما في التعبير السلمي، سواء من خلال الكتابة في الصحف او تسيير مظاهرات احتجاج سلمية للتعبير عن موقف ، أو للمطالبة بحقوق مشروعة.

سقط  قادة الحكم في السودان  سريعا في أول اختبار بعدما "اكتسحوا" بطريقتهم "الخاصة"  انتخابات مشكوك في نزاهتها ، و أعتقد أن المشاركين في فبركة  النتائج الانتخابية  وجهوا ضربة مؤلمة حتى للحكام أنفسهم، لأنه نسفوا قيم الشراكة في بناء الوطن، ووضعوا النظام أمام مآزق عدة يتحملها وحده.

  الطبخة الانتخابية  لم تقنع  كثيرين داخل وخارج السودان بما تردد بشأن "الشعبية الجارفة" لأهل الحكم ، بل أثارت انتقادات في دوائر منظمات رقابة مستقلة سودانية وأجنبية، وهاهي أحدث الأدلة أن  الرأي  العام السوداني  وخصوصا المعنيين في بعض المناطق السودانية  لم يهتموا  بخوض انتخابات الاعادة في بعض الدوائر والمناطق السودانية  حسب تأكيدات   وسائل اعلام  سودانية.

هذا كله يعني  أن اعتقال صحافيين وأطباء ومنع طلاب من التعبير السلمي عن تضامنهم مع أطباء محتجين على أوضاعهم يجدد الـتأكيد على أن النظام الحاكم في السودان لا يحترم ما نص عليه الدستور الانتقالي   الذي  نص القانون على حرية التعبير والاعلام كما نص على العدالة والحقوق المتساوية .

 

 اعادة الرقابة سواء جزئيا أو انتقائيا على الصحافة السودانية تتناقض أيضا  مع قانون الصحافة الذي أقرته حكومة الانقاذ وفاخرت به  ، وان ما تتعرض له  الصحافة والصحافيون السودانيون  حاليا  سدد  ضربة  أيضا  لنتائج المؤتمر الثاني  للصحافيين السودانيين  العاملين خارج السودان لذي عقد في الخرطوم .

 حرصت على المشاركة  في المؤتمرين  الأول والثاني للاعلاميين السودانيين العاملين في الخارج  رغم الجراح  والظلم وأحزان التشرد على مدى   سنوات عدة بعد انقلاب الثلاثين من يونو 1989  ، وكان دافعي للمشاركة في المؤتمرين  يتمثل   في رؤية تركز على دعم   قيم الحوار بين السودانيين أيا تكن طبيعة  الخلافات بينهم  ، وكان الهدف يركز على تعزيز خطى السودانيين على طريق   التوافق   المذبوح حاليا على مقصلة التسلط والاستبداد والظلم .

مشهد  الحال السوداني الحالي يثير الحزن  والألم ، ويؤكد استمرار الخلل في معادلة الحقوق والواجبات،  وفي هذا الاطار أشير الى مقال قرأته  في موقع  "سودانايل " كتبه دكتور أحمد عبد الله خلف تحت عنوان "لماذا أضرب الأطباء"، وتناول فيه بالأرقام والاحصاءات أوضاع الأطباء والمفارقات بين مخصصات نظرائهم في مواقع أخرى في البلد كالشرطة والأمن والجيش.

الكاتب قال " أن يوم الطبيب في وزارة الصحة يتراوح ما بين 15 – 30 جنيه ( أي أن عامل اليومية دخله أعلي من طبيب وزارة الصحة ) و الخادمة في المنزل لا ترضي بمرتب الطبيب حسب   قول د.كمال عبدالقادر وكيل وزارة الصحة ".

برقية : عندما تختل معادلة الحقوق والواجبات  يسود الظلم وتتسع دائرة الغبن و"المفاجآت.

 

آراء