صحافة وقنوات : إنكفاء على الذات
أقرب إلى القلب :
Jamalim1@hotmail.com
(1)
من متابعاتي لما ينشر في صحافتنا، لاحظتُ عند أكثرها إهمالاً للقضايا العالمية، وللتطورات التي تجري في الساحات الإقليمية والدولية. تلك ملاحظة لها سلبياتها ، وتستوجب لفت النظر والمعالجة. إن جيلنا الذي تفتح على صحافة ما بعد حقبة الإستقلال، وهي صحافة ورقية صرفة، قبل الولوج إلى عالم الانترنت والصحافة الالكترونية واتساع تأثير الوسائط الإجتماعية، سيرى في أكثر قنواتنا الفضائية وصحافتنا السودانية الورقية ، على كثرة عددها، جنوحاً بائناً نحو إغفالِ الكثير ممّا يدور من حولنا ، في الإقليم الذي نحن فيه أولاً، وفي العالم الأوسع من حولنا بعده.
(2)
من متابعاتي تلك ، عنّ لي أن أدلي برأيٍّ، قد يعجب البعض، وبالتأكيد لن يرضي الكثيرين من أصدقائي الصحفيين. .
إني أفتقد في الكثير من صحافتنا، اهتماماً جاداً بتقديم ملخصات عمّا يدور في الساحات الإقليمية والدولية من قضايا، لا شكذ لها اتصال بالمجتعات الدولية، ونحن جزء من منظومته. ما أكثر ما نسمع من ترديد إعلامنا عن كون العالم صار قرية صغيرة، ومع ذلك تجدنا متقوقعين ومشغولين بقضايانا المحلية. لأضرب مثلاً واحداً هنا. من متابعتي لبرنامج "بعد الطبع" في "قناة النيل الأزرق" ، المخصّص لاستعراض الصحف السودانية ، فأجده لا يخرج عن قضايانا المحلية. ذلك أمر محمود ، ولكن من المهم إضافة لذلك الاهتمام، أن يتطرق البرنامج لما تنشره الصحف العربية والأجنبية "بعد الطبع" وكلها متاحة في لحظة نشرها على الانترنت. ليس عسيراً على قناة قوية مثل "قناة النيل الأزرق"، أن تنوّع في ذلك البرنامج، فتستعرض تطورات أحداثٍ إقليمية أو عالمية، مع الصحفيين الذين تستضيفهم يومياً. .
في تقديري وتقدير الكثيرين، أنّ متابعة بعض التطوّرات الإقليمية والدولية، ستجد اهتماماً من المشاهدين ، فوق أنها تكمل جانباً تنويرياً مطلوباً من البرامج المعنية بالتعليق على الأخبار. بعد اتساع دائرة استعمالات الانترنت ووسائط التواصل والتفاعل الاجتماعي، لم تعد القنوات الفضائية ولا الصحف الورقية ، مصدراً يستقى منه الناس الأخبار، بل الأنسب هو تقديم الإضاءة اللازمة للخبر : تحليله وتبيان خلفيته ورصد تداعياته المتوقعة. .
(3)
دعني أعدّد لك أمثلة هنا، بعضها لا يثير العجب فحسب ، بل الغيظ والاستهجان. .
• أستعجبُ أن لا يكون لإزاحة رئيسٍ مثيرٍ للجدل وبلغ أرذل العمر، مثل "موجابي" في زيمبابوي، ذكراً في قنواتنا الفضائية وصحافتنا الورقية ، يناسب ذلك الخبر ويتجاوز تفاصيله المعروفة، ليقدم التحليل الرصين، الذي يتصل بأزمة الديمقراطية في القارة الأفريقية، وأيضاً بملف تداول السلطة في بلدانها.
• أستعجب أكثر، أن لا يكون لعودة "مهاتير محمد" إلى سـدّة الحكم من جديد في ماليزيا عبر بوابة الديمقراطية ، ما يثير الالتفات ، وهو رجل تجاوز التسعين عاماً من العمر ، ولكن قدمت لنا ماليزيا صورة زاهية للحاكم الرشيد ، الذي حقق تنمية ورسّخ مقوّمات أمّة .
وحدها المقارنة بين الإثنين- "موجابي" و"مهاتير"- ، التي تفتح مساحة للتحليل وللجدل المثمر ، وبما يكون له صداه على أحوالنا في القارة الأفريقية. لا تغيب على الفطنة ما يمكن أن تتركه تلك المقارنة، من أصداءٍ قوية على جوانب من همومنا المحلية في السودان. .
• ثم نتابع في القنوات الإقليمية والدولية، تداعيات قرار إدارة الرئيس "ترامب" بنقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية إلى القدس المحتلة، فأعجب أن لا تسلط قنواتنا الفضائية وصحافتنا الورقية، إضاءات لها من القوة والرصانة، ما يحفّز الشارع السوداني، فيتداعى وتخرج التظاهرات مندّدة بذلك القرار. نحن في السودان، وقد دفعنا بجيوشنا للقتال في اليمن حماية للمقدسات الإسلامية، فيما يُزعم، ألا يهزّ ضمائر إعلامنا السوداني - قنوات وصحافة- ذلك الذي مسّ المسجد الإقصى في القدس المحتلة، فيكون كفيلاً بخروجنا للقتال دفاعاً عن رمزٍ من رموز عقيدتنا الإسلامية. . ؟
• وإني أتابع مسار العلاقات المضطربة آناً، والمتجهة نحو التحسّن آناً آخر، بين الإدارة الأمريكية وحكومة كوريا الديمقراطية، حول برامجهما النووية، فيزداد عجبي ! إن مسئولي إعلامنا - قنواتٍ فضائية وصحافة ورقية - لا يراجعون كيف جاملتْ دبلوماسية السودان إدارة "ترامب"، فاعلنتْ إنهاء علاقات السودان تماما مع كوريا الديمقراطية، انتظاراً لعطف أمريكي ينتظره السودان. ذلك تهافتٌ أشبه بالذي حدا بالسودان إنهاء علاقاته مع إيران الإسلامية، جملة وتفصيلا، دون مبرّر منطقي. . !
(4)
لطالما سمعنا ما تردّده هذه الصحافة وتلك القنوات هنا ، أنها التي تسهم في تشكيل الرأي العام السوداني، وفي بلورة توجّهاته ! ألا يحقّ لنا أن نتساءل أين الرأي العام السّويّ الذي ساهمتْ في تشكيله أجهزتنا الإعلامية، من أمر علاقاتنا مع الكوريتين. . أو أمر رؤيتنا للقيادة الرشيدة في القارة الأفريقية، أو أمر تراجع إيماننا الراسخ بعدالة القضية الفلسطينية. .؟
هذه أمثلة يزعجني أن أرى أغلب قنواتنا وصحافتنا، لا تعيرها اهتماما مناسبا. ولعلّ أخطر ما في مثل هذا النهج القاصر، هو جنوحها إلى إشاعةِ نوعٍ من انعزالنا عمّا حولنا ، واستغنائنا عما لا يتصل بهمومنا المحلية بصلةٍ مباشرة. لكأننا بتجاهلِ تلك القضايا التي تمور في الإقليم الذي ننتمي إليه ، وفي العالم الأوسع من حولنا، نعزّز من انعزالنا عنهم ، وركوننا إلى التقوقع داخل أزماتنا . وأعجب أن أرى وأسمع الشكوى تردّد هنا وهناك، من كون الآخرين لا يعرفوننا جيداً، وأن الصورة الخارجية عن بلادنا، يجري تشويهها لصالح أجندات معادية لنا. إننا نتحمّل المسئولية الكبرى هنا. .
(5)
إن اشغالنا بأزماتنا داخل حدودنا، أو مع الدول المجاورة لنا- صغرتْ أم كبرتْ - واستغراقنا في مجاهداتٍ لإيجاد حلولٍ لاستعصاءاتٍ تتصل بتلك الأزمات، لا يبرّر هذا العزوف اللافت عن الاهتمام بالتطورات السياسية والاقتصادية الكبرى، التي تجري في الساحات الإقليمية والعالمية من حولنا.
أرثى لحال إعلامنا – صحافة وقنوات فضائية - إذ هي في عالم آخر. حين أتابع خبراً عن حكم بإعدام زوجة سودانية قتلت زوجها السوداني، بتفاصيله الكاملة في الفضائيات الأجنبية، وقد أثار حفيظة الأطراف الدولية المهتمة بحقوق الإنسان، إلا حفيظة إعلامنا فهي نائمة، أحزن للتغييب الماثل. .
الخرطوم في 16 مايو 2018