طرد نواب الجنوب و”قميص عثمان”
tigani60@hotmail.com
في 25 مايو 1984م كان الرئيس الراحل جعفر نميري يلقي خطابا بمناسبة ذكرى انقلابه الخامسة عشرة، وكان الخطاب الأول له بعد اعلانه تطبيق قوانين الشريعة الاسلامية قبل ذلك ببضعة أشهر، ويبدو ان كاتبي الخطاب من مجموعة داخل الاتحاد الاشتراكي تعارض ذلك التوجه وتنتقد اسلوب التطبيق في ما عرف بمحاكم الطوارئ الشهيرة، ووجد النميري نفسه يقرأ عن سماحة الاسلام وعدالته وسعته وترفعه عن التشفي والتشهير، ليدرك انه وقع في كمين نصبه له معدو خطابه، وبدا انه كمن يدين نفسه فأزاح الخطاب المكتوب جانبا وواصل خطابه مرتجلاً، ولكن مع ذلك سنفعل وسنفعل، مؤكدا على الاسلوب الذي كان سائدا في تطبيق القوانين محل الانتقاد، ولم تمر الحادثة حتى علق عليها د. حسن الترابي بسخريته المعهودة في ندوة اقيمت بكلية الطب بعد ذلك بأيام واصفا المشهد بأنه «خطاب الاخ الرئيس الذي رد عليه الاخ الرئيس» في اشارة الى حالة الصراع داخل كواليس الحكم حينها.
ولعل شيئا من تلك الحادثة الطريفة حدث في خضم متابعة الأزمة التي فجرها رئيس البرلمان، الذي قرر طرد النواب الجنوبيين من البرلمان فوراً وقبل نهاية الفترة الانتقالية، بحجة أن ذلك استحقاق نص عليه الدستور، وهو قرار أصر على تنفيذه على الرغم من أن ذلك ليس محل إجماع وسط حزب المؤتمر الوطني الحاكم، بل ويناقض قراراً رئاسياً صريحاً أقر في آخر اجتماع لمؤسسة الرئاسة قبل شهرين باستمرار مؤسسات الحكم التي أسستها اتفاقية السلام حتى انقضاء أجل الفترة الانتقالية في التاسع من يوليو القادم.
على أية حال ففي خطاب الرئيس البشير أمام البرلمان في دورة انعقاده الثالثة هذا الاسبوع، التي التأمت وسط مقاطعة للنواب الجنوبيين بعد الجدل الذي أثاره قرار رئيس البرلمان بطردهم وشايعه فيه أنصار من قادة الحزب الحاكم. يبدو ان كاتب خطاب الرئيس البشير واجه المعضلة ذاتها التي واجهها النميري ورد عليها بنفسه. فقرر ان يعفي البشير من الحرج ويورد موقفين متناقضين في الخطاب نفسه .ففي مستهل الخطاب ورد نصا ان يوم التاسع من يوليو القادم موعد انتهاء الفترة الانتقالية سيضعنا امام مرحلة جديدة تبرز فيها الحقائق والواجبات وهي انتهاء العمل بجميع النصوص والأحكام المتعلقة باتفاقية السلام الشامل في الدستور الانتقالي لعام 2005م ، وهو نص لا يحتمل اللبس، ويعني بوضوح ان موعد انتهاء العمل بالنصوص والاحكام المتعلقة باتفاقية السلام الشامل هو التاسع من يوليو. ويأتي في صميم ذلك بالطبع الوجود البرلماني للحركة الشعبية، وبالتالي فإن هذا النص في الخطاب الرئاسي يبين بوضوح التناقض مع قرار رئيس البرلمان طرد النواب الجنوبيين فوراً.
ولم يقف التناقض عند هذا الحد فقد عاد الخطاب الرئاسي ليناقض في آخره ما اثبته عند مستهله، فورد نصا ما يشير الى قبوله بطرد البرلمانيين الجنوبيين حيث قال في لهجة وداعية «دعوني ازجي تحية خاصة لاخوتنا النواب من الولايات الجنوبية الذين شاركونا الفترة المنصرمة واثروا النقاش داخل المجلس واسهموا مساهمة مقدرة في الممارسة الديمقراطية وطرح القضايا وكانوا اضافة للمجلس، وأتمنى ان يستفيدوا من التجربة البرلمانية التي عاشوها هنا في هذا المجلس ونقلها الى الجنوب واني على ثقة انهم سيجدون منكم كل عون".
وحين كان الخطاب الرئاسي يؤكد الحرص «على أن تكون علاقتنا مع دولة الجنوب المقبلة من أميز العلاقات بين جارين جمعت بينهما الأواصر والعيش المشترك» ، كان الخطاب موجهاً لمقاعد خالية من النواب الجنوبيين الذين قاطعوا الجلسة مغاضبين، أما قمة المفارقة فقد جاءت في خطاب رئيس البرلمان الذي دعا «لإدارة الامور بين الشمال والجنوب بحكمة».وان طالب الحكومة في الشمال وحكومة الجنوب الجديدة «بضرورة إدارة الامور بينهما بالتواصل ومراعاة حقوق الجوار وبالمودة التي تقرب البعيد وبالمصلحة التى تذلل الصعاب»، فاذا كان الأسلوب الذي تعامل به رئيس البرلمان بطريقة تفتقر إلى اللياقة وإلى مراعاة الحقوق والمودة التي دعا لها . رغم أنف قرار مؤسسة الرئاسة . اذا كانت هذه هي الحكمة التي يدعو لها فكيف يا ترى ستكون الامور اذا كان يتصرف على العكس من ذلك؟.
من الواضح أن قضية البرلمانيين الجنوبيين تمثل نموذجاً مثالياً لافتعال الأزمات السياسية غير المبررة في بلد لا تنقصها الأزمات، ومعركة «دون كيشوتية» في غير معترك، ولقد فشل المدافعون عن قرار طرد النواب الجنوبيين فشلاً ذريعاً في تقديم أسباب موضوعية تسند هذه الخطوة التي لا تعني شيئاً سوى تسميم الأجواء المسممة أصلاً، بفعل المتطرفين من الانفصاليين الشماليين والجنوبيين على حد سواء، ولا تؤدي الي تحقيق مصلحة وطنية واحدة ، بل تصب المزيد من الزيت علي نار المشاكسات التي اتسمت بها علاقات الشريكين طوال الفترة الانتقالية، ولو أن قادة البرلمان، الانتقالي والحالي، بذلوا معشار الجهد والاصرارالذي ينفقونه حالياً على قضية انصرافية، لان بقاء النواب الجنوبيين لم يتبق عليه الا ثلاثة أشهر، لو بذلوه في قضية تعزيز الوحدة وضمانة استدامة السلام لربما كانوا قدموا مساهمة إيجابية لعلها كانت تجنب البلاد مصير الشرذمة والتقسيم. لقد كان إسهام قيادة البرلمان سلبياً إبان المرحلة الانتقالية إذ أنها بدلاً من أن تقدم نموذجاً مغايراً في الحرص على تعزيز فرص الوحدة، انخرطت حتى النخاع في المشاكسات بين الشريكين ونقلتها من الاطر السياسية والتنفيذية الى الجهاز التشريعي لتؤكد افتقاده لعنصر المبادرة الايجابية في جهاز يفترض انه يحمي مصالح الشعب ويمتلك القدرة على تجاوز اخطاء الجهاز التنفيذي.
فالذريعة الوحيدة التي يتحجج بها المتعجلون للتخلص من الوجود البرلماني الجنوبي قولهم إن ذلك يأتي التزاماً بنص دستوري، والدليل الواضح على التعسف في تفسير هذا النص والتمترس خلفه خارج السياق الدستوري والسياسي أنه أغفل استمرار مشاركة الجنوبيين في السلطة التنفيذية حتى نهاية الفترة الانتقالية، وأغرب الحجج التي سيقت في هذا الخصوص القول إن هؤلاء النواب أصبحوا مواطنين في دولة أخرى ولا يجوز لهم المشاركة في التشريع لدولة لا ينتمون لها، إذن فأي منطق هذا الذي يجوز للجنوبيين المشاركة في إدارة دولة لم يعودوا من مواطنيها، وأيهما أهم وأكثر خطراً الجهاز التنفيذي أم البرلمان؟. واذا كان هؤلاء جادين في حرصهم هذا ألم يكن منطقياً أن يصروا على أن يغادر جميع الجنوبيين مناصبهم في كل أجهزة الدولة فوراً وليس النواب وحدهم، إذن لوجدنا وجاهة في تفسيرهم للنص الدستوري على هذا النحو المختل، وكيف يتنازل البرلمان عن مسؤوليته في حماية الدستور الذي لا يتجزأ مكتفيا فقط بما يليه، اللهم الا اذا كان هذا البرلمان يمثل مواطني فولتا العليا ، أما الجهاز التنفيذي فلعله يمثل حكومة داهومي. ولا يهم البرلمان كثيرا من يحكم البلاد إذا كانوا من مواطنيها أم لا؟!!.
لا يحتاج المراقبون إلى كثير عناء واجتهاد في التحليل لإدراك أن هذا التعاطي غير المنطقي والمفتقر للموضوعية مع أزمة النواب الجنوبيين قد يعكس في الواقع وجها آخر من وجوه الصراع بين مراكز القوى المتعددة داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم. الآخذ في الاحتدام، وقد أطل بأكثر من وجه خلال الآونة الاخيرة. لقد تحول الحزب بالفعل إلى «كانتونات» وجزر معزولة عن بعضها البعض، وأصبحت كل جماعة تسيطر على إحدى مؤسسات الحكم تتصرف في السلطات التي تليها على النحو الذي يخدم أهدافها الصراعية بغض النظر عن انعكاسات ذلك السلبية على صورة الحزب ووحدته وقدراته القيادية ، ولم يعد هذا التنافس بين الأنداد على وراثة القيادة أمراً خافياً وقد سارت بذكره الركبان وسودت تصريحات قياداته المتناقضة الصحف، بل وتحدث البعض صراحة عن وجود هذا الصراع.
واستخدام البرلمان كأداة في الصراع السياسي علي النفوذ ليس جديداً في العرف الإنقاذي، وقد حاول الترابي استخدامه إبان الصراع الذي انتهى بانقسام الإسلاميين في خواتيم القرن الماضي. وكما كانت القضايا المثارة في ذلك الوقت لا تعكس حقيقة الصراع الدائر في الكواليس، فإن أزمة النواب الجنوبيين الحالية ليست سوى قميص عثمان، فالذين يرفعونه يدركون أكثر من غيرهم أنه لا فرق بين ذهابهم الآن أو بعد أشهر معدودة لا يعني شيئا، ولكن إثارتها سانحة مواتية لتعزيز المواقف في الصراع الداخلي وتصفية الحسابات.
واللافت في هذا الخصوص ما ذكره زعيم نواب المؤتمر الوطني، فقد اعلن في تصريح له ان الحديث عن اسقاط عضوية الحركة الشعبية بالولايات الجنوبية من البرلمان جاء بناء على سند قانوني وهو يدل على استقلالية البرلمان في اتخاذ قراراته، والسؤال الذي يطرح نفسه بداهة استقلالية ممن ولماذا؟، ومضى اكثر ليعلن صراحة أنه إذا نوقشت هذه المسألة في اجتماع الرئاسة القادم فإننا سنتمسك بالقرار باعتباره امرا مضمنا في الدستور الذي تمت اجازته والعمل به طيلة الفترة الماضية.» مضيفاً «انه لايوجد قرار سياسي يلغي نصا دستوريا»، أليس واضحا ان ذلك يكشف عن المدى الذي وصل اليه الصراع داخل الحزب الحاكم.
لقد تبقت تسعون يوماً فقط على تقسيم السودان إلى دولتين، ولا تزال القضايا العالقة لفك الارتباط سلمياً بين الشمال والجنوب باقية بلا حل، وكل واحدة منها تكفي لإشعال فتيل الحرب مجدداً، وكان ظن السودانيين أن الانفصال الذي قبلوه على مضض سيكون آخر مآسيهم، ولكن مع انشغال النخبة الحاكمة في صراعات داخلية في هذا الوقت العصيب بدلاً من الانصراف إلى تركيز الجهد كله لتأمين العبور بسلام إلى مرحلة جديدة، تعني ببساطة أن مأساة الانفصال مرشحة لتتحول إلى كارثة حقيقية على البلاد والعباد.
عن صحيفة (إيلاف) السودانية
6 أبريل 2011