طريق المعرفة {2} بقلم: د. إشراقه مصطفى حامد

 


 

 


فوانيس
fawanesi@hotmail.com
طريق المعرفة {2}
من سيرة الملح و الدموع والتحدى
زارتنا حبوبتى بلالة, شقيقة امى حليمة التى تصغرها بعامين, كانت تزورها  فى العام مرة او مرتين حين اقعدت الرطوبة اللعينة قدميها الجميلات ولم تستطيع ان تسكت حجول امانيها ف روحى.
حكيت مع امى حليمة عن رغبتى فى الامتحان من منازلهم ولكن هذه المرة من مدنى حيث تسكن شقيقتها وابن شقيقها- عمى محجوب- الذى درس التمريض فى كوستى. كنت يومها صغيرة فى المرحلة الابتدائية, كنت اقول  حينها بانى اريد ان اصير مثله, وكان ناجحا فى عمله, طيبا ومتسامحا مع الناس وخدوما. كان مثلا لىّ فى الاصرار والعزيمة وهو يجتهد ان يحسن وضعه تماما كعم عمر الزبير خميس, جارنا,  ذلك المساعد الطبى الذى عرفته كوستى ونواحيها, بسماحة روحه, وطيبة معشره واكثر ما اعجبنى طموحه وثقافته.
وسافرت مع حبوبتى بلالة وبدأت اجراءات التسجيل للامتحان من منازلهم, وعدت الى كوستى وانكببت على القراءاة عسى ولعل ان ينفك- ساجور- النحس الذى  يلاحقنى.
كنت استفيد من الوقت فى المذاكرة رغم مايطرأ على حياتنا من احزان وغالبا ماكانت  الحياة  تقابلنى بوجه {مكشر}, ومع ذلك تعلمت ان اواجه كل ذلك باصرار غريب, وعناد للوصول الى ما ابتغى, لن اتراجع مهما كانت الظروف, كنت اقول لنفسى كلما لمعت سحالى  الدموع فى عيونى, احادث الحيط حين  تهجس الدنيا فى حضن الليل وتبدأ رحلة الاسئلة والنحيب ودموعى التى منحتها لسماء كوستى لتمطر بكل هذه الكثافة, اسمع صوت الحيطان وهى تقع, لن اكون مثلك ايتها الحيطان, لن اقع, اقولها بخوف وحزر ان تنهار احلامى كما بيوت الفقراء فى الخريف. رغم احساس العجز الذى يملؤنى  الاّ ان عيون أمى بكل انكساراتها كانت شظايا لمرآة  علىّ ان اجتهد بمحبة ان الملم شظاياها, جرحتنى وادمت قلبى قبل اصابعى, ارى وجهى  متعرجات غريبة , انفى ليس انفى ولا عيونى فى مكانها ولا شفتاياّ, اظل فى حالة بحث عن شجرة ممتد ظلها, وساقها وهيط ليسندنى وبنات قلبى. كانت حالتى تتأرجح دائما بين الامل واليأس, وغالبا ماينتصر الامل, انتصار انى مازلت أحيا وان هناك متسعا للاحلام {المتحكرة} فى ادغال عمرى. الامل الذى اتاح لىّ ان ارانى كاملة فى مرايا  عيون أمى, تنهض انكساراتها, تزغرد الفرحة فى عيونى, اغنى وادى الغلابة مع ام بلينا السنوسى التى كانت جارتنا المفدوعة الضحكة تحب اغانيها, {السحاب من وادى وادى تلقى شال افراحنا طافها, يسعد الناس التعابة بكرة يا وادى  الغلابة.
نوال ابو ادريس كانت احدى هذه الغيمات التى تروى وادى الغلابة, وهى تحفزنى ان اقف امام طالبات الصف السادس لاقوم بتدريسهن مادة اللغة العربية اثناء غيابها الاضطرارى,  كستنى الفرحة ونوال تتيح لىّ فرصة ان اقول ما اعرف لبنات لابدّ لهن ان تلامس احلامهن فستاين الامل المزركشة فى عيونى’ الالوان التى تغطى على انتفاخاتها كجثة ظلت اياما فى البحر.
تجربة  ثلاثة اسابيع ولكنها حفزتنى, اسئلة البنات, التفافهن حولى, اقتسامنا للافقار الذى تمّ لاريافنا ومدنّا التى على الهامش, سلحتنى بالارادة وان انهيارى سوف يقود الى {تشليع قش} احلام البنات الصغيرات. بقيت احجيهن بالمعرفة, احلب لهن من ماعز تجربتى, وان عليهن ان يتذوقنه ولو متخثرا.
ثلاثة اسابيع, محملة بالكتب وكراسات البنات للمراجعة وتصحيح الواجبات وباليد الأخرى {جردل} عليه سندوتشات {فول وطعمية} وورقة تفصل بينهما و{اللقيمات}. طمأنت  {الامهات} اللآتى يعملن فى المدرسة كفراشات وبائعات للفطور بانى لن انافسهن فى ارزاقهن, خالتى نورا القصيرة التى كانت تعمل فراشة وهى احدى امهاتى الجميلات, تفصل بيننا وبينها وبنتها الوحيدة حائط متهالك بفعل الفقر و المطر . صوتها وهى تكسينى باليقين { يابتى الارزاق  بيد ربنا, بيعى بيعك}.
كنت اجلس على شباك ذات الفصل الذى كنت اقف فيه مانحة البنات دروبا للمعرفة. يلتفن حولى البينات ويتخاطفن السندوتشات واللقيمات, كان يكفى مايقدمنه من {قريشات} قد لا تغطى تكلفة ما قمت به, ولكنهن ساهمن فى ترسيخ  ايمانى بقيمة العمل.
تقترب الايام, ثلاثة أشهر تبقت واجلس للمرة الرابعة لامتحان الشهادة السودانية, كان علىّ ان اسافر الى مدنى وان اهىء نفسى للامتحانات. مدنى احدى المدن التى تركت بصماتها فى حياتى منذ الصغر, حيث رافقت طيلة سنوات طفولتى امى حليمة لشقيقتها بلالة فى ود كنان. لم يكن لابى اخوات او اخوان فقد كان وحيد امه وابيه. حبوبتى بلالة كانت الحضن الدافىء الذى يحتوينا كلما اتيناهم, كانت تحب امى وتسمعها بحنان, كانت قريبة منها وسندتها حين اختار ابى زهرة اخرى لتقتسم معه ومعنا الحياة. كانت مدنى تبدو  لى زمانيئذ بعيدة, كنت امدّ رأسى الصغير  من خلال نافذة القطار واشرد مع غزلان الوداع وارانب اللقاء, ملامح الناس القادمة والمودعة تأسرنى, اسارير وجهى تنقبض كوديعة حبيبة فى يد الحبوبات وينفرّ كالامل الذى ظل يملؤنى صهيل حصان شرس ضد اليأس..
كنت ومازلت اعى ضرورة اليأس فى مرحلة من مراحل الحياة, ولكنه كان كريما, يجد ابوابى المفتوحة شراعات لسفن الامل و {ينحشر} ويتوهط فى سيرة الكفاح الطويل والمرير.
عمى محجوب يشدّ من أزرى, تجربته فى دراسة التمريض ومن ثمّ المعامل بصبر ومثابرة جعلته على الدوام يؤكد على مسامعى ان النجاح سيأتى وسيطرق ابوابى, مثله كان عمى يوسف, اخذ من امه – حبوبتى- بلالة كل جمالها المشرق فى عيون امى حليمة شقيقتها. تحفيزه لىّ وتأكيده على ان الغد سيكون اجمل لانى مجتهدة ولكل مجتهد نصيب, لم اقلّ له ان نصيبى من الاحزان كثير, ولكنى  لم اتعب بعد, فالاصرار على الانجاز صار بهار حياتى الحادق والحارق فى ذات الروح.
اليأس كان يسطر علىّ خاصة حين تتوارد الاخبار عن مرض أمى التى كثيرا ماكانت تصاب بالصداع النصفى الذى ترقد على اثره ايام وليالى فى شبه غيبوبة, انكفىء على جدار قاسى, مغلقة كل نوافذ الامل فيه.
{نعنشت}  رئتى بخور امى العدنى وهى تحكينى عن ماقالته {حكيمة} الزار. كنت اسمعها, واجلس تحت قدميها لتبخرنى, وكنت اشدو لها وقناعتى صفر كبير عن اعتقادها ان الزار تجاوزها الى عيالها, وان الربكة التى تحدث لىّ فى كل امتحانات تسببوا فيها- عليهم اللعنة- قلت فى سرى ومازحتها, {طيب لو هم صحى بيحلوا العقد خليهم يجوا يقروا معاى الفيزياء الصعبة والسغيلة دى}- أمى حليمة توجهنى بحنان ان لا اسخر من {عيال ماما}- يلحقوكم وينجدوكم يا امى.  ومادامت أمى تظن ان عيال ماما بمثابة قرض  {يهردّ} شقاها وحزنها فلها بهم. سرت حمى الذاكرة فى اطراف اصابعى وانا اشدّ الملاءة على جسمى الهلكان بسبب الملاريا والتايفود والاحلام العصية. سرت حرارة فى اصابعى وصوت  طبل الزار يدوى فى ليلى ذاك,- بتكونى مزيورة- قالت جارتنا وهى تنصحنى ان اكف عن {القراية ام دق, يابتى شوفى ليك سعدا ينفعك وتشوفى جناك قبال زمانك يفوت وغنايك يموت}. لن يموت غناى الامل, صكيت عليها لاطرد البرد عن روحى ونمت وصوت امى حليمة يغطينى بالعزيمة { قرايتها بتنفعها, العرس ملحوق}, وكان قول أبى ايضا لولا هموم المعيشة التى تراكمت عليه وظلّ يشتاق ان انجح واعمل واساعده فى تحمل هذه الحياة.
هى الايام تمضى, وشبح الامتحانات يطلّ ويرتعب عقلى والخوف ان تكون نسبة لا تؤهلنى لدراسة هذا الاعلام.
عثمان, الذى كان يكبرنى بعام واحد ينكافنى – انتى سيبى امور السياسة دى وبتنجحى- ابرطم واتفاصح فصاحة  الدنيا والعالمين معه, نحتدّ بحنية وصوت حبوبتى بلالة ينقذنى- بت مصطفى دى مافى زول يزعلها, عارفينها دمعتا فى طرف عينها- وصدقت, ولولا البكاء لانفقعت كل بالونات المنى التى نفختها احزان الحياة والدروب التى مشيتها.
تعرفت  عن طريق صديقه  على  اسرة عم الشريف فى اشلاق بوليس مدنى, حكتنى عن صبرى الشريف وعن اسرته حكايات تشجى الروح وتهدىء من روعها والدنيا تؤرجحنى بين الهزيمة والانتصار. ربطتنى صلة قوية بعم الشريف, فقد كان  انسانا مثقفا وبوليسا بافق واسع, كثيرا ماجلست جواره وهو يستمع لىّ باهتمام, يفعل مثله مع اى شخص يحادثة.
كنت استمع الى حكاياته ورؤيته وحكمته فى الامور وهو اب لاسرة مدهشة فى تعاونها ومحبتها للناس, أدهشنى تعامله معهم, بحنية وندية قلّ ما نجدها. حكيته يوما بانى كنت قد عشقت ذات زمان عسكرى وسيم الطلعة وبهى الخاطر, ولكن فرقت بينا المظاهرات, اظنه اخذ الامر بصورة شخصية وكنت ضمن من قادن الهتاف- يابوليس ماهيتك كم ورطل السكر بقى بكم- وكان يومها فى الخدمة لتفريق كل اعمال {الشغب} التى اعتاد عليها شعبنا, قلتها بتهكم ومع  ذلك لم استطيع ان اخفى انتشاء قلبى لهذه الذاكرة- ياحليلو, قلتها وعم الشريف يضحك عاليا- يابت ياعفريته.
تلك الايام فى ذلك البيت الفسيح باهله وجمال سته, التى كانت تلتقينى بالاحضان وبمثلها تودعنى, تماما كما تفعل معى كل الامهات اللآتى التقيتهن, يبدو انى امى {دشرت} حنانى فى رحمهن وكانت وشيجتنا هذه المحبة.
سبانا صغيرة  الاسرة, كانت فعلا سبانة, تترك لىّ {عنقريبها} لانام عليه, وسحر الجميلة الرقيقة التى رحلت سريعا عن الدنيا وهى مازالت  طالبة بالفرع, كانت البهاء الذى  يسطع فى عيون هذه الاسرة وبرحيلها رحلت دنيا مفرحة كانت تضجّ فى اركان هذا البيت الحميم.
كانت مدرسة مدنى الثانوية بنات حيث جلست للامتحان هى الاقرب الى الاشلاق, كان صبرى بمثابة اخى وشقيقى, يرافقنى الى المدرسة وينتظرنى مترقبا من تفاصيل وجهى وانفعالاته. يأتى مجرجرا ثياب الحلم والدنيا تضيق بالعسكر والحرامية,  فى يوم الامتحان الاخير أتى وفى  شنطته التى كان دوما مايحملها وبداخلها الميدان, قلت له – يبدو انك ناوى  تسقط حجرنا الليلة- ولسؤء الحظ ركبنا يومها حافلة  لنصل الى مستشفى مدنى ومن هنا نسير على الاقدام حتى البيت. لا ادرى كيف تصرف فى اخفاء مايحمل اثناء التفتيش, كنت متيقنه ان القبض مصيرنا ولكن, استجاب رب العالمين  لندائى- فجعل من بين ايديهم سدا ومن خلفهم سدود.
رجعت  الى كوستى بعد نهاية الامتحانات مباشرة على امل ان اجد عملا فى اى مؤسسة حتى تمر الايام الثقيلة فى انتظار النتيجة. كنت اعرف بانى سوف انجح ولكنى لم اكن متأكدة ان كانت النتيجة ستدخلنى الجامعة والكلية التى ارغب ولهذا جاء تمهيدى وانا احكى مع منى شقيقتى بانى ساعيد للمرة الخامسة والاخيرة.
منى تحرضنى على الضحك وهى تعلق- ياختى انتى ادمنتى بنقو القراية- الله يكون فى عونك, ونضحك ونجوى تعاكس بانها لا ترغب فى المذاكرة وتعلق وهى تغالب النعاس- قرايتى انا وزعوها لاشراقه-
هذا وقد حدث ان جلست للمرة الخامسة على التوالى لامتحانات الشهادة السودانية, حدث ان أدمنت فعلا قصة الامتحانات وحفظتها عن ظهر  عزيمة.
لا انكر ان اليأس اخذ منى كل طاقات مقاومتى التى توالدت من سنوات المعاناة التى اصبحت ملمح من حياتى , بل بهارها وملحها ودموعها. { اها على  ووين يا تاكسى الغرام}, ولسان حالى يدندن {على ووين يا تاكسى الامتحانات}
جلست يومها فى زقاق بيتنا, خلف الغرفة التى كنا ننام فيها , لامست اصابعى  الرماد, رماد الصاج الذى عست عليه عجنة حياتى واحلامى. الرماد هامدا, ناصع البياض, بلا روح وسواد الصاج يلمع بحكايات برقت به عيون امى. عطنت يدى غريقا فى الرماد, اغمضت عيونى وسلمت روحى لمفاتيح الامل لاهزم اليأس هذه المرة, ثمة  لذعة على  جبين  الغد, كانت جمرات الصمود التى شعت تحت رماد هزائمى, نهضت وعيونى تشرق بالغناء
وتعلو حنجرتى مع ابراهيم عوض {ياسلام الدنيا منى واحلام}, نجوى تردف صوتها المؤمل لبكره وتغنى معى {ياسلام الدنيا منى ونجوى} – الدنيا منى, نجوى واشراقه تبتهل فيها إجلال لرب رحيم لن يتخلى عنا وتنده عيون إبتهال – أخواتى  من أبى- تلك التى لازمتنى عيناها الوديعة طيلة الدرب.
ويتبع

 

آراء