مايكل أشر وركوب الصعاب

 


 

 

الحلقة الثانية
بقلم: د. محمد حمد مفرح
رأی أشر، بعد وصوله الی مدينة الأبيض، الا يتوغل بجمله داخل المدينة و ذلك تجنبا لحركة السيارات، حيث تصعب السيطرة علی الجمل وهو يمشي بجانبها. لذا فقد مر بطرف المدينة ثم واصل سيره غربا حيث حط رحاله، بعد مسير لمسافة قصيرة ، تحت شجرة تبلدي ضخمة. قضی ليلته تلك هناك و ظل بذلك المكان حتی نهار اليوم التالي.
غير أنه عندما هم باستئناف رحلته ظهر ذاك اليوم، قام الجمل بقلب ظهر المجن له، كرة اخری، حيث هرب، هذه المرة، تاركا اياه في حال لا يحسد عليها. و ظل أشر يعدو وراءه محاولا اللحاق به، غير أن الجمل أضحی هائما علی نفسه في الأحراش، و مواصلا الجري دون توقف. تمكن بعد لحظات من الجري من الامساك برسنه و لكنه افلت منه و واصل هروبه و ذلك علی نحو تجلی معه عناده و (فقده لصوابه) و كذا رفضه لهذا المصير غير السعيد.
و يمكنني،هنا، تأكيد ما سبق و أن أشرت اليه من أن الجمل ادرك، إذا جاز التعبير، بفضل القدرة علی التمييز التي وهبها الله له، أنه فارق دياره و ترك نهبا للغربة و المصير المجهول، ما جعله يحاول جاهدا التحرر من هذا الواقع الجديد.
لمح أشر، و هو في تلك الحال، شخصين من علی البعد، يركبان جملين فأشار اليهما بيده، في محاولة منه الی لفت انتباههما الی فرار جمله املا في أن يقوما بمساعدته في الامساك به. فهما قصده فقاما، بطريقة تطويقية ماهرة، بمحاصرة الجمل و الامساك به.
وصل أشر الی المكان الذي كان يتواجد فيه الشخصان الممسكان بالجمل فحياهما و شكرهما علی حسن صنيعهما، فردا التحية و الدهشة تكسو محيا كل منهما، اثر اطلالة اشر امامهما. كان لسان حال كل منهما يقول: (ما هذا الامر العجيب .. . خواجة بجمله في هذا الخلاء) !!!.
ذكر أشر أن الشخصين شابان تتراوح أعمارهما بين الثامنة عشرة و التاسعة عشرة. قال له احدهما انه اذا لم يصادف مرورهما عبر هذا المكان فسوف لن يتسنی له الامساك بجمله، و أردف مستفسرا أشر عما اذا كان قد اعطی جمله اكلا، فرد عليه بقوله له انه فعل ذلك يوم امس. ابدی الشاب دهشته و عقب بقوله له ان الجمل يجب ان يعطی اكل يوميا.
سأل أشر الشابين عن اسميهما فردا عليه بقولهما أنهما علي و عثمان و هما شقيقان. سألاه عن وجهته فذكر لهما انه متوجه الی النهود و منها الی دار فور ، فابتسما و قالا له انهما ايضا ذاهبان الی النهود و يمكنه مرافقتهما.
سألهما أشر، عقب ذلك، عن قبيلتهما فذكرا له انهما من قبيلة حمر، فتوجس خيفة للحظات ثم قال في نفسه أنه أصبح وجها لوجه مع بعض المنتمين الی القبيلة التي احيط علما بخطرها عليه، غير ان خوفه ما لبث ان زال. ذلك انه قال في نفسه انه طالما ذكر لهما انه ذاهب الی النهود فلا تراجع عن ذلك، و انتوی مرافقتهما تلبية لدعوتهما له، لا سيما و انه، كان أصلا، غير مقتنع بما قيل له في ام روابة عن حمر و الكبابيش.
رافق أشر الشابين عثمان و علي في رحلتهما، و ظل ثلاثتهم يعبرون بابلهم فيافي المنطقة الغربية لمدينة الأبيض، و التي وصفها أشر بانها عبارة عن سهل مترامي الأطراف، ممتد علی مد البصر.
ذكر علي لأشر انهم، باذن الله، سيقضون الليلة في احدی قری البديرية المسماة ام جودة. استمروا في السير حتی وصلوا تلك القرية بعيد المغرب، حيث حلوا ضيوفا على أحد اهاليها. حيوا أهل البيت فرحب بهما رب الأسرة المدعو جمعة صالح و الذي ذكر لهما لاحقا انه شيخ الحلة.
تجمع اهالي القرية، حسب العادة بقرى كردفان، و قاموا بتحية الضيوف، ثم باتوا مستغرقين في الأنس و هم يرشقون أشر بنظرات مستفسرة ترشح بالدهشة جراء سفره مع هذين الشابين. سأله رب المنزل عن جنسيته فأجاب بأنه انجليزي، فما كان من الرجل، حسبما ذكر أشر، الا و ان ابدی ارتياحا بينا، ثم سأله عما اذا كان الانجليز سيعودون الی السودان. ذكر أشر انه قهقه مبديا استغرابه للسؤال، ثم رد بالنفي.
و اود، هنا، ان أشير الی انه اذا وضعنا حديث الرجل العجوز الذي قابله أشر ناحية بئر القرية، عندما كان في طريقه من ام روابة الی الابيض، و الذي، اي الحديث، كان يكيل فيه المدح للعهد الانجليزي، اي الحقبة الاستعمارية، اذا وضعناه في الاعتبار مضافا اليه استفسار الشيخ/ جمعة صالح عن عودة الانجليز، تتكشف لنا المفارقة العجيبة التي تتمثل في رأي الأهالي الايجابي عن الانجليز، رغم انهم مستعمرون. و من ناحية اخری يتضح لنا دهاء الانجليز و سعة أفقهم السياسي المتمثلة في توفير ضروريات المواطن من معاش و أمن و خدمات و استقرار سياسي علی مستوی السودان بغية تحقيق هدفهم الاستعماري.
استطرد أشر قائلا ان حديث اهالي القرية و الشابين علي و عثمان كان يدور حول اسعار البهائم و المحاصيل من فول و غيره في كل من الابيض و النهود.
جيء، عقب ذلك، بالعشاء و الذي تسيدته صحون العصيدة التي جلبها كل أهالي القرية، فشرع الجميع في الأكل. و لما كانت تلك هي أول مرة يتناول فيها أشر عصيدة، كما ذكر، فقد بدأ يقلد الاخرين في أكلهم لها. غير انه، و وفقا لما اشار اليه، فقد قام بغرز اصابعه داخل العصيدة فكادت ان تحترق. بلغ به الألم منتهاه و لكنه لم يجد بدا من مواصلة الأكل مكرها لا بطل نظرا لأنه كان جائعا. و كما قال فان الاخرين، و لدهشته البالغة، كانوا يأكلون العصيدة غير عابئين بحرارتها.
و في صباح اليوم التالي تحركوا غربا ناحية الخوي، بعد ان ودعوا مضيفهم و شكروه على اكرامه وفادتهم. تواصلت رحلتهم في براري شاسعة عبارة عن بحر لا ساحل له من الرمال، تتخلله القری و كثبان الرمال التي يطلق عليها الأهالي (القيزان)، فضلا عن أشجار التبلدي و الهشاب التي تنتج الصمغ العربي الذي يعتبر احدی صادرات السودان الرئيسية، و كذا أشحار المخيط و العشر و الهبيل و الكداد و اللعوت و الغبيش و غيرها.
أشار أشر الی ان عثمان و علی يقومان، من وقت لاخر، بأداء صلواتهما في خشوع يؤكد علی عظمة الدين الاسلامي الذي يعتبر العامل الموحد لكل المسلمين. و مضي قائلا ان الشابين حدثاه عن حقائق تاريخية معلومة لديه فاستبد به العجب. ذكرا له ان حمر ينتمون الی عرب جهينة الذين قدموا من الجزيرة العرببة مثلهم مثل أغلب القبائل العربية بالسودان. كان مبعث استغرابه المام هذين الشابين بهذه المعلومات.
واصلوا سيرهم في اتجاه الغرب حيث كانوا يقضون الليل في اي قرية تقع علی طريقهم حيث يحلون ضيوفا علی احد الأهالي فيجدون حفاوة و كرما بالغين.
و هكذا فقد تواصلت رحلتهم حتی وصلوا الى مدينة الخوي.
ذكر أشر انهم وصلوا الخوي صبيحة اليوم الثالث، حيث بارحوا دار البديرية الی دار حمر. و أردف قائلا ان نمط الحياة في كل من دار حمر و دار البديرية لا يختلف كثيرا و ذلك رغم أصولهم المختلفة. و زاد بقوله انه وقف، بالمنزل الذي اخذوا فيه قسطا من الراحة اثناء تواجدهم بالخوي، علی تصميم و تخطيط المنزل المشيد بالمواد المحلية (القش)، فوجده شبيها بذاك الموجود بدار البديرية. و أشار الی ان المنزل مكون من البيت الكبير و خلوة الضيوف و الراكوبة و التكل، ثم طفق يتحدث عن تصميم القطية و يوضح الغرض من كل مكون من مكونات المنزل، وفقا لما توافر له من معلومات تحصل عليها من الأهالي هناك.
و قد أشار، من ناحية اخرى، الی ان منظر أشجار التبلدی صار ، مع توجهه غربا، مألوفا لديه، كما تبدت له جماليات وسط كردفان بصورة اسرة.
واصلوا سيرهم صوب النهود حيث أطمأن أشر الی عثمان و علي بعد أن قاما بخدمته كما ينبغي و طوقاه بأريحيتهما في كل شيء، مؤكدين له ان ما ألصق من تهمة بحمر لا أساس له من الصحة، وفقا لما ذكر.
كانوا يعبرون البراري الشاسعة التي تتخللها الأشجار المختلفة، كما كانوا يشاهدون قطعان الأبقار و الأغنام و قليلا من الابل و هي تجوب تلك الفيافي المترامية الأطراف. أضحوا يتجاذبون اطراف الحديث، كما كان أشر يلتفت يمنة و يسرة موثقا لرحلته تلك من خلال الأنس و كل ما يقع عليه بصره.
اوضح له عثمان أن أهالي قبيلته يعتمدون علی الزراعة كزراعة الفول و الدخن و البطيخ و غيرها من المحاصيل.
و مضي أشر بقوله ان شجرة التبلدي الساحرة التي ترسل فروعها عاليا في السماء و التي يسميها حمر (حمرة)، علی قبيلتهم، قد اثارت فضوله. و اردف قائلا أن عثمان و علی أحاطاه علما باستخدامات هذه الشجرة و منها تخزين المياه. ثم ذكرا له انه، و نظرا للجفاف الذي ضرب المنطقة في السنوات الأخيرة، فقد أصبح الاهالي يعتمدون علی (الدوانكي) الحكومية، بدلا من التبلدي.
و صلوا الى قرية مركب القريبة من الخوي حيث قضوا بها مساء اليوم الثالث.
ذكر أشر انه، و حسبما يری، فانه لا يمكن تمييز الحمري من غيره من أفراد القبائل الذين قابلهم سابقا. غير انه مضی قائلا ان علي و عثمان خالفاه الرأي بشدة فيما ذهب اليه، و أكدا له ان من السهولة بمكان تتمييز الحمري من غيره من افراد القبائل الكردفانية الأخری من خلال لهجته.
من جهة أخرى ذكر أشر ان الجوامعة و البديرية ينتمون الي مجموعة الجعليين، ثاني أكبر مجموعة قبلية عربية في السودان، في حين ان حمر يعتبرون انفسهم أشرافا ينحدرون من أسرة الرسول محمد (ص).
غادروا قرية مركب في اليوم الرابع متجهين غربا نحو مدينة النهود. و بعد مسافة قصيرة من مركب، لمحوا شخصين يركبان جملين و يسوقان أربعة جمال امامهما، و هم في عجلة من أمرهما. حدق فيهما علی و عثمان ثم علقا بقولهما انه يبدو ان هذين الشخصين ليسا بحمر، لكن الجمال التي يركبونها عليها (وسم) حمر. و مضيا بقولهما انهما ربما يكونان لصين، غير ان عثمان استدرك قائلا لعلي انهما ربما اشتريا هذه الابل. انخرط عثمان و علي، بعدئذ، حسبما ذكر أشر، في حديث سريع لم يفهم اغلبه، بينما اختفى الشخصان بابلهما في القوز متجهين شمالا.
اشار أشر الی ان ذلك الطاريء اعاد الی ذاكرته كل معلوماته عن (الهمباتة) و قطاع الطرق، لكنه لم يمثل هاجسا بالنسبة له.
و بعد مسير لحوالي ساعة، قابلوا في طريقهم سبعة أشخاص يركبون ابلا و يحملون بنادق قديمة، و القلق يكسو وجوههم. تبادلوا التحية مع أولئك الأشخاص و استفسرهم الأشخاص عما اذا كانوا قد قابلوا رجلين يركبان جملين و يسوقان اربعة جمال فردوا بالايجاب. سأل أحدهم عثمان عن هوية أشر فأفاده عنها، ذاكرا له انه (خواجة) رافقهم من الابيض، ثم ما لبث ان انخرط الجميع في كلام سريع فهم اشر بعضه و لم يتسن له فهم بعضه الاخر.
هم الأشخاص بمواصلة السير فعرض عليهم عثمان مرافقته لهم من اجل تعقب اللصوص لكنهم شكروه ثم قال احدهم ( انحنا امنلحقهم الحرامية عيال الكلب ديل) ثم واصلوا سيرهم.
سأل أشر عثمان عن هؤلاء الناس فأجاب بقوله انهم(فزع) من حمر، احدهم يدعی شيخ حسن محمد من ضواحي النهود. و مضی قائلا ان لصوصا سرقوا منهم ست جمال صباح اليوم.
بعد مسافة ليست بالقصيرة حل ثلاثتهم ضيوفا علی أحد الأهالي بقرية الرويانة. رحب بهم رب الأسرة و بعض الأهالي الذين كانوا متواجدين بمنزله. ذكر أشر ان الناس هناك كانوا يتحدثون عن موضوع سرقة الابل و الذي يبدو ان خبره تفشی في كل المنطقة. كما أشار الی ان أحد الحضور قال، و هو يضرب بعصاه الأرض( عليكم النبي لي بتين الناس يسرقوا بهايمنا و نحن ما قادرين نعمل حاجة).
و عقب أحدهم علی حديثه قائلا له (يا زول انحنا ما عندنا سلاح زي سلاح الناس ديل و الحاكومة ما خلت لينا سلاح).
و أشار أشر الی انه ساد، بعد ذلك، هرج و مرج فاض به المكان. كما ذكر انه يبدو ان ثمة قبائل اعتادت علی دخول دار حمر بغرض السرقة ثم الفرار بعيدا، دون أن يستطيع حمر ملاحقتهم. ثم مضی بقوله انه بقدر تعاطفه مع حمر فقد اثارت مغامرات هذه القبائل فضوله، لذا فقد قرر ان يلج عالمهم هذا لاحقا بهدف سبر أغواره و معرفة الكثير عنه.
و بينا كانوا مستغرقين في حديثهم ذاك، اذا برجلين من رجال الشرطة يحلان و يقومان بتحية الجميع ثم يجلسان و اياهم. كان أحد الشرطيين شابا و الاخر اكبر منه سنا و ضخم الجثة. و بعد أن انخرط الجميع في الأنس و النقاش لبعض الوقت سأل الشرطي البدين أولئك الأشخاص عن هوية أشر فأفاده عثمان عنها. ثم عقب ذلك الشرطي مستفسرا أشر عما اذا كان لديه تصريح سفر او مرور عبر هذه المنطقة من الأمن، فأجاب أشر بالنفي. قال له الشرطي، بلهجة امرة، ردا علی ما ذكر، انه يتعين عليه مقابلة مسؤول الامن بالنهود يوم غد. و لم يجد أشر بدا، و الحال تلك، من الاذعان لأوامر ذلك الشرطي و الذي أوضح أشر انه تصرف، و هو يصدر اوامره له، بشيء من الزهو.
و بينا كان الجميع ينصتون الی الشرطي و هو يصدر أوامره لأشر، تصدی رجل عجوز للشرطي و قال له (خلونا من الخواجة ... الحرامية ديل بتشوفوا لينا ليهم طريقة و لا لا).
ذكر أشر ان الشرطي تصرف علی نحو عصبي مستهجنا ما قاله الرجل العجوز و مبديا امتعاضا لا تخطئه العين، ثم نهض هو و زميله و غادرا المكان بعد تلقيهما (جرعة رأي عام) كبيرة تمثلت في ما قاله الرجل العجوز.
و اود، هنا، ان أشير الى قوة ملاحظة أشر لكل صغيرة و كبيرة تصدر من مرافقيه و من الناس الذين يقابلونه، و كذا لكل ما يشاهد، فضلا عن حرصه على توثيق كل ذلك. كما اود، من بعد، ان أؤكد، مرة أخرى، على جسارة هذا (الخواجة) و عشقه للمغامرة بشكل منقطع النظير، من اجل اشباع رغبته و تحقيق هدفه من رحلته تلك.

mohammedhamad11960@gmail.com
///////////////////////

 

آراء