طلقات ضوئية لإنهاء الحرب المصيرية

 


 

 

أصبح من غير الممكن تغطية نار الحرب والدَّمار الذي أحدثته والفظائع التي ألحقتها "بالعويش الإعلامي" الكاذب الذي ظل يصوِّر لنا أنّ الحرب ستنتهي في غضون أيام أو شهور، وأنَّ هناك منتصرٌ من بين هذه المجموعات المتقاتلة يمكن أن يُعوَّل عليه في إخراج الوطن من وهدته. يلزمنا تجرع الدَّواء على ثلاث دفعات كي نستطيع استعادة توازننا النفسي والعقلي ومن ثَم الشروع في التخطيط العملي لبناء وطن على أسس علمية وحضارية. الجرعة الأولى مفادها أن الجيش منهزم معنوياً ومهزوم ميدانياً، الجرعة الثانية تتمثل في الإقرار بأنّ الدعم السريع لديه قوى تدميرية ولا يملك أي أفق بنائي وطني، الجرعة الثالثة هي إقرار النخب المقتدرة بخذلانها لهذا الشعب رغم ما أولاهم إياه من رعاية وعناية وحفاوة فاقت حد الكفاية. لقد تبنينا "منطق الخلاص الشخصي" وتركنا الشعب نهباً للأيديولوجيات الفارغة والشخصيات التافهة التي ما فتئت تقتات من الدولة حتى أوردت الشعب موطن الحرب والهلاك.

أولاً، لقد ارتكبت قيادة الجيش فترة الثلاثة عقود الماضية جرائم عِدة كانت هي سبب الجفوة بين القيادة العسكرية ومن ينتظم تحت إمرتها حالياً، وفيما بينها وبين الشعب. لقد تخلصت الإنقاذ من الضباط الأكفاء، دفنت بعضهم أحياء، استعانت بالمليشيات لإبادة الزرقة في جنوب البلاد وغربها، فضَّت ميدان الاعتصام، أراقت دماء المتظاهرين السلميين المناهضين للانقلاب، تركت فجوات أمنية خطيرة تسللت من خلالها مجموعات إرهابية عبثت بأمن البلاد، حرَّضت على قطع الطريق القومي، تهاونت في التصدي "للفصيل المتمرد"، حتى إذا ما أحكم قبضته على مناحي العاصمة المثلثة تجاوزت حد الاتزان المهني في التعامل معه مستعينةً بالطائرات والمدفعية والدبابات داخل الأحياء السكنية، ممَّا خلف أضراراً بالغة في حيوات المواطنين وممتلكاتهم.

قيادة مثل هذه لا يمكن أن يوليها الشعب ثقةً تؤهلها لخوض معركة مصيرية - ناهيك عن أن تنجح في تحقيق تعبئة شعبية ناجحة - من المفترض أن نتجاوز فيها إرث الماضي سعياً لتشييد منصة تفسح المجال للتفاكر الحيوي حول "مشروع الجمهورية الثانية"، الذي اطَّلعت فيه على أفكار قيّمة للأديب والروائي محمد سليمان الفكي الشاذلي كما أفدتُ في ذات الموضوع من نقاشات مع آخرين حادبين. لا تحتاج المؤسسة العسكرية إلى مسيرات تأييد شعبي وهتافات لرفع روحها المعنوية، تحتاج المؤسسة إلى التخلص من اللجنة الأمنية والاستعاضة عنها بقيادة وطنية لا تشوبها رائحة الحزبية ولا تحوم حولها تهمة الفساد المالي والانتماء الأيديولوجي. حينها فقط تستطيع "الكتيبة الظافرة" القادمة بإذن الله حسم الفوضى العسكرية والسياسية وذلك بالتخلص من العسكريين المؤدلجين ومن الساسة المتآمرين. متى ما حدث ذلك سيلتئم الجرح الوطني وتتواثق المجموعات العسكرية كافة في المضي قدماً نحو تكوين دولة متماسكة لا تتخطفها الأهواء ولا تعبث بها الرغبات. إذا صدق حدسي تجاه التغيير المرتقب، فإنّ من الممكن تحقيق الانتصار القومي (الذي يخص الشعب كله ولا يُعنى به فصيل إجتماعي محدد) في فترة لا تتجاوز ثلاثة إلى ستة أشهر (من تاريخ بدء الحرب). بغير ذلك، فإنني أتوقع أن تطول الحرب لفترة ثلاثة إلى سته أعوام يستحيل السودان بعدها إلى أشلاء مستقلة أو إلى بقع تتقاسمها الدول المجاورة.

ثانياً، لقد ثبت عملياً أن للدعم السريع قدرة تدميرية هائلة لكنّه ليس لديه مشروع بنائي وطني، وذلك أمر غير مستغرب فالعصابة الإنقاذية التي أنتجته لم تملك يوماً غير مِعولٍ للهدم، وما أنتجته من ثروات بترولية أو معدنية سرقته وهرَّبته للخارج. يدّعي قادة الدعم السريع استيلائهم على الاحتياطي المركزي وأنّه لم يتبق لهم غير المدرعات والمهندسين كي يعلنوا تفوقهم العسكري التام. السؤال: ثم ماذا هم فاعلون بعد ذلك؟. هل سيعلنونها مملكة أسرية، دولة جُنيدية، أم مؤسسة وطنية تُسند قيادتها لقحت المركزي؟. ثم ماذا عن اللغط الذي يثيره "المستشارون" هذه الأيام عن "دولة ٥٦" بعد أن خلت جُعبتهم من هراءٍ كانوا يرددونه عن "الدولة المدنية الديمقراطية"، خاصةً بعد أن رأى المواطنون بأم أعينهم ممارسات أنْسَتهم ذاك الأفق الإنساني الحضاري فذكرتهم مقولة سيدنا عمر رضي الله عنه: "حاكمٌ غشوم خيرٌ من فتنة تدوم"؟. إنّي لاحظت فيمن استطلعت من آراءهم ذهولاً قد يعقبه غضبٌ ثمّ غليان قد يتسبب في قيام حرب أهلية لا سمح الله.

كتب الدكتور الدرديري محمد أحمد مقالاً رائعاً بعنوان عربان الشتات وكيف نحبط مشروعهم الاستيطاني حاول فيه تبرئة عيال الجُنيد من الأفعال الإجرامية، بيد أنّه ذهب فيه مذهباً سوسيولوجياً تخللته كثيرٌ من الفجوات السياسية التي تعمّد فيها إغفال الدور الذي لعبته "العصابة الإنقاذية" في محاولتها استثارة الحفيظة القبلية لأهل الحزام الرعوي وتوظيف حماستهم القتالية في حروبها العبثية التي أعلنتها ضد المجموعات الإثنية في جنوب البلاد وغربها. لم يذهب الدرديري إلى نفيهم كأن يقول بأنّهم غير سودانيين، ولم يدن فعائلهم الفاضحة كالسرقات وانتهاك الحرمات بطريقة مباشرة، لكنّه اتخذ بين ذلك سبيلاً جعلهم فيه مواطنين لم ينصهروا بالكفاية ثقافياً ومجتمعياً مع سائر أبناء البلاد!

قد يقول قائلٌ عن "دولة ٥٦" أنّها دولة صَفوية سيَّرها منطق نُخبوي وخضعت لتراتبية عرقية كانت السبب في الحروب والتشرذم الذي حدث. بالرغم عن ذلك فإنَّ من الإنصاف أن نقول إنَّ الآباء المؤسسين كانوا نزيهين ووطنيين بيد أنّه لم يكن بمقدورهم تجاوز ظروف النشأة والتكوين التي شكّلت ذهنية كثيرٍ من القادة آنذاك وأثرت على نظرتهم لقضايا التنمية والهوية والتي ارتبطت بمفهوم الانصهار واتخاذ الإنسان وسيلة وليس غاية لتحقيق وجهة أيديولوجية بعينها. بتغير ال (paradigm) تغيرت أفكار الكثيرين وأصبحت أكثر ليبرالية وواقعية، بيد أنّه ظلت هناك عقبات صعُب تخطيها بعد أن أحكمت المؤسسات الإمبريالية قبضتها على المؤسسات السياسية والاقتصادية والمالية، وتعمّدت من ثمّ وضع دول العالم الثالث في خانة التبعية التي تحتم عليها تصدير الخام واستيراد المُنْتَج، وذلك قبل دخول الحرب الباردة وانقسام العالم إلى قطبين يصعب مقاومة الجاذبية الفكرية والسياسية لكليهما. مع بروز العولمة أصبح الأمر أكثر تعقيداً إذ فاقت قدرة التأثير للشركات قدرة الدول لإصدار الموجهات.

ثالثاً، لقد أيقنت النخب المستقلة - خاصة بعد اندلاع الحرب - أن تقاعسها عن أداء واجبها الوطني وترك مهمّة بناء الدولة الوطنية لمجموعة من الأفراد أقل ما يقال عنهم أنّهم غير متخصصين ستكون عواقبها وخيمة على الجميع، عليه فلا بد من أن تتداعى كل مجموعة لتكوين خلية في نطاق
تخصصها المهني أو إطار توجهها السياسي، كي يتسنى لنا لاحقاً تكوين جبهة من الوطنيين المستقلين الذين سيضطلعون بمهمة بناء الوطن الذي سيخرج من المحنة قريباً، سيسترد عافيته ويكون قريباً قِبلةً للاستثمارات العالمية. ختاماً، يحتاج الوطن إلى رؤية مانديلا الأخلاقية، رؤية نهرو الفكرية، ورؤية مهاتير التنموية. نحتاج أن نتسامى ونعلو فوق الجراح، وذلك لن يحدث إلّا إذا أيقنا أنّ ما حدث في السودان هو النهاية المنطقية للنظام الثيوقراطي الديني، حينها فقط يمكن أن نستوعب مقولة "أنّ الدين خُلق للإنسان، ولم يُخلق الإنسان للدين" وأنّ العدالة الاجتماعية هي مقصد العبودية ومناط التكليف الإلهي.

Auwaab@gmail.com




 

آراء