بعض مرتكزات الفكرة الجمهورية (5)-أ

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

"إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"

صدق الله العظيم

*قمة الحضارة،*
*وبداية عدّها التنازلي*

*قمة الحضارة –عصر التنوير*

كما ذكرنا في الحلقة السابقة، لقد نشأت الحضارة الغربية المعاصرة في أوروبا في القرن الخامس عشر، وقد أعقبت عصر الإقطاع وهيمنة الكنيسة.. وكرد فعل ضد هيمنة الكنيسة. اتجهت الحضارة الجديدة الى ( العلمانية)، وهي تعني هذا العالم – الدنيا.. وقد بدأ التحول بصورة تدريجية، ولم يتم التخلّص من هيمنة الكنيسة إلا بعد الإصلاح الديني، والحروب الدينية.. وحتى بعد ذلك استمر التأثير الكنسي، في إطار محدود.. *فالحضارات لا تبدأ في نقطة زمنية معينة، كما لا تنتهي في نقطة زمنية معينة، وإنما تكون البداية والنهاية في مساحة زمنية*.. أخذت الحضارة الغربية مظهرها الأساسي في القرنين السابع عشر والثامن عشر.. وقد كان لظهور العلم المادي التجريبي أهمية خاصة في هذه الحضارة، ومؤخراً أصبح هو وتطبيقاته المظهر الأساسي للحضارة.. وبالطبع العلم المادي التجريبي يقوم على العقل المجرَّد وعلى التجربة، وموضوعه الأساسي هو الطبيعة.

في القرن الثامن عشر ظهر ما عرف بعصر التنوير.. وحركة التنوير، في تقديري، هي قمة الإيمان بالحضارة الغربية، *والإيمان بأنها تمثل الخلاص النهائي للبشرية*، والأمل العظيم في السعادة، وفي الكمال الإنساني، هنا على الأرض، وليس في الآخرة كما تبشر الكنيسة.. يرى برينتون أنّ الفكرة الأساسية للتنوير هي أنّ جميع البشر يمكنهم أن يبلغوا قدراً من الكمال، هنا على الأرض، فهو يقول مثلاً: "إن الفكرة الأساسية والإبداع المُذهل لعصر التنوير – أي الفكرة التي تجعل منه نظرة جديدة إلى الكون في شموله وعناصره - هي *الاعتقاد بأن البشر جميعاً يمكنهم أن يبلغوا على هذه الأرض قدراً من الكمال*، وكان الفكر الغربي حتى تلك اللحظة، يظن أن هذا الكمال يمكن فقط للمسيحيين دون سواهم، وأنه يأتيهم نعمة من الرب بعد الموت.

هذه النظرة إلى أن النوع البشري لديه إمكانية بلوغ الكمال لم تتحقق قرابة الألفي عام من المسيحية، ولا آلاف السنين الأخرى السابقة في ظل العقائد الوثنية وإذا كان لها أن تتحقق في القرن الثامن عشر، فمعنى هذا بوضوح أن أمراً جديداً لا بد وأن يحدث"... ((المرجع في كل المعلومات والاقتباسات هنا من كتابنا: الفكر بين الإسلام والحضارة الغربية)).

لا بد من وقفة عند هذه النظرة المتفائلة جداً، والأمل الكبير جداً، في أن تحقق الحضارة الغربية، من الكمال الإنساني، ومن السعادة الإنسانية، ما لم يحققه غيرها من الأفكار والأديان.. *وكل هذا الأمل العظيم، قائم على العقلانية، والتطور العلمي والتكنولوجي وعلى التنوير*.

على الرغم من أن لوك ونيوتن، عاشا في أواخر القرن السابع عشر، إلا أنهما يعتبران فكرياً، أهم من أسس للفكر الذي ساد في القرن الثامن عشر، وما بعده وإلى اليوم.. فأما نيوتن فقد "استطاع أن يصل بالكمال بحساب التفاضل والتكامل، وأن يقدم قانونه الرياضي الهام عن العلاقة بين الكواكب، وقوانين الجاذبية، وهي إنجازات بدت لمعاصريه كافية لتفسير ظواهر الطبيعة، أو أن توضح، على الأقل، كيف يمكن فهم كل هذه الظواهر، *بما في ذلك السلوك الإنساني*.. وأخرج لوك مناهج الاستدلال البسيط من متاهات الميتافيزيقيا، حيث أرساها ديكارت، وجعل منها، فيما بدا له، امتداداً للحس السليم، وخُيٌّل إليه أنه دلَّ الناس على السبل التي تمكنهم من تطبيق نجاحات نيوتن الجليلة، على دراسة شؤون الإنسان.. وهكذا استطاع نيوتن ولوك معاً، أن يغرسا ويؤكدا هاتين الفكرتين الهامتين: *الطبيعة والعقل*.. وكان موقعهما بالنسبة لعصر التنوير، مثل موقع النعمة الإلهية، أو فكرة الخلاص، أو التدبير الإلهي، عند المسيحية التقليدية".

*الطبيعة والعقل هما كلمتا السر، في فكر عصر التنوير، وفي جميع الفكر الغربي، وإلى اليوم*.. وكما سبق أن ذكرنا فإن الطبيعة عندهم، منظمة بصورة تتناسب مع إدراك العقل.. *والعقل عندهم يملك من القدرة ما يكفيه لفهم قوانين الطبيعة، وبالتالي، يفهم كل الكون، الذي ليس فيه شيء يخرج عن قوانين الطبيعة*، وطالما أنه لا يوجد شيء خارج قوانين الطبيعة، فالعقل يستطيع أن يفهم كل شيء في الوجود، ودون أي حاجة لغيره!! والإنسان جزء من الطبيعة، وليس فيه، ولا في سلوكه، شيء، خارج عن الطبيعة وقوانينها، وكل ما يتعلق به، هو من الطبيعة.. فطبيعة الإنسان، هي نفس طبيعة (الطبيعة).. ولذلك، نفس المنهاج الذي نفهم به الطبيعة، نستطيع أن نفهم به الإنسان، وسلوكه، وكل ما يتعلق به، وعلى ذلك، يمكن سد جميع احتياجات الإنسان، وحل جميع مشكلاته، عن طريق العقل، وعن طريق المنهاج الذي به تتم معرفة الطبيعة.. والذي أصبح يُعرف باسم (المنهاج العلمي).. فما لا يتم فهمه اليوم، يتم فهمه غداً.. المسألة مسألة وقت وحسب.. *كان الأمر كله، في عصر التنوير، بهذا التحديد، وهذه الثقة الحتمية، وهذه البساطة*.. وما هو طبيعي في نظر التنويريين *هو الأمر السوي، والخيِّر، وخلافه، أمر غير سوي، وغير خيِّر وغير طبيعي!!* يقول برينتون عن هذا الأمر: "أصبحت الطبيعة في نظر إنسان عصر التنوير هي العالم الخارجي الذي يعيش فيه، عالم موجود حقاً وفعلاً، وكل ما يدور فيه أو يقع من أحداث (طبيعي) بالضرورة.. بل واقع الأمر أن كل ما يقع من أحداث، وكل ما هو قائم الآن، وتقريباً كل شيء في العالم الخارجي الراهن للطبيعة – أو على أية حال في عالم الطبيعة البشرية كما هي منظمة في مجتمع – كل هذا بدا في نظر الداعية المتحمس للتنوير في القرن الثامن عشر أمراً طبيعياً، وما يخالفه غير طبيعي.. ومظاهر التمايز الطبقي، وآداب السلوك الاجتماعي، وامتيازات رجال الدين والنبلاء، والتباين الصارخ بين أكواخ الفقراء وقصور الأثرياء – كل هذا كان موجوداً بالفعل، لكنها *أمور غير طبيعية*.. لقد كان ذلك الداعية ينظر إلى ما هو طبيعي بمعنى الخيِّر أو السوي، وإلى غير الطبيعي بمعنى السيء أو الشاذ.. والشيء المهم أن (طبيعة) نيوتن تسربت إلى أذهان المتعلمين وأنصاف المتعلمين، بمعنى أن عمل الكون، المفهوم جيداً بانتظام وسلاسة وبساطة عذبة.. وإذا فهمنا هذه الطبيعة في شئون الإنسان، فلن يبقى لنا إلا أن ننظم أفعالنا وفقاً لهذا الفهم، وحينئذ تنتفي كل مظاهر السلوك الغير طبيعي".

وهكذا، بالنسبة لإنسان عصر التنوير يمكن فهم الطبيعة في شمولها وكليتها عن طريق العقل.. فالعقل هو سبيلنا الوحيد إلى إدراك الحقيقة الكامنة خلف الظواهر.. على ذلك ينبغي استخدام العقل في كل شيء، فهو وحده أداتنا للاهتداء إلى المؤسسات البشرية، والعلاقات الإنسانية (الطبيعية)، وعندما نهتدي لهذه المؤسسات والعلاقات نستطيع حل جميع مشاكلنا، ونحقيق السعادة.. ولا بد للعقل، عند التنويريين، من كشف الأمور التي تتنافى معه، مثل "الخرافات والخوارق، وغير ذلك من أمور تتنافى معه وتراكمت عبر القرون على ظهر الأرض، واعتبرها العقلانيون الشياطين الحقيقية".

هذه الصورة لم تبدأ مكتملة، وإنما اكتملت بالتدريج.. ولقد كان نيوتن نفسه ليس حداثياً بالمعنى الذي ساد في عصر التنوير.. فالجيل الذي قرأ نيوتن ولوك هو الذي قام بالقفزة من الطبيعة وقوانينها، إلى الإنسان وطبيعته ومجتمعه، وتصور أن *القوانين التي تحكم السلوك الإنساني هي نفس قوانين الطبيعة!!*

لقد كان الجيل الأول من مفكري التنوير، يعتبر معتدلاً، بالنسبة لمن تبعوه.. وكان هؤلاء في معظمهم من الفرنسيين.. ويعتبر فولتير أعظمهم، وأهمهم، ومعه مونتسكيو وبوب، والربوبيون الإنجليز.. ويعتبر كتاب (روح القوانين) لمونتسكيو 1748م نقطة تحول.. وهو يعتبر دراسة علمية عظيمة، معبرة عن روح الجيل المعتدل.. وقد عاش فولتير حتى عام 1778م، وكان في سنوات حياته الأخيرة، يعتبر أهم الشخصيات، في جيل المفكرين في تلك الفترة.

أما المفكرين الذي أتوا بعد عام 1750، فقد كانوا *في معظمهم راديكاليين*.. وأصحاب الاهتمام منهم، بالدين، انتقلوا من النزعة الربوبية المعتدلة، إلى *نزعة مادية وإلحادية خالصة*، تعتقد يقيناً أن الكون آلة كبرى.. فقد ذهب هلفتوس، وهولباخ، ولامتري، إلى ما عبر عنه لامتري بقوله (الإنسان الآلة).

أما الاقتصاديون، فقد ذهبوا مع (الفيزيوقراطيين) – أصحاب مذهب اقتصادي ينادي بحرية التجارة – إلى شعار *(دعه يعمل، دعه يمر)*.. وشعار (خير الحكومات أقلها تحكماً وأقلها إنفاقاً).. وقد ظهر من مفكري هذه الفترة من الإقتصاديين، آدم سميث –الأسكتلندي– وهو يعتبر أبو الاقتصاد الرأسمالي، على الرغم من أنه كان معتدلاً، وليس متزمتاً في اعتقاده في المنافسة الإقتصادية الحرة.. ودعاة الحرية المطلقة للسوق، رغم أنهم يعتبرون من أتباعه، إلا أنهم من أتباعه الأكثر تطرفاً منه.

ثم ظهر كارل ماركس كداعية للإشتراكية، ولكن ظهوره كان في القرن التاسع عشر، وليس في الحقبة التي نتحدث عنها هنا.

كانت الفترة الأخيرة من عصر التنوير، قد شهدت ظهور العنصر الكلاسيكي العقلاني، وظهور العنصر الرومانسي.. والمفكرون الذين ينتمون إلى هذين العنصرين، هم الذين مهدوا للثورة الفرنسية، وقاموا بنزع الثقة من النظام القديم بصورة نهائية.. ويلاحظ أن هنالك تداخل بين الرومانسية والعقلانية، رغم الإختلاف، ورغم أن النزعة الرومانسية كانت تعتبر تمرداً على العقلانية، إلا أن كل من الرومانسيين والعقلانيين "رفض عقيدة الخطيئة الأولى، وكلاهما آمن بأن حياة الإنسان على الأرض يمكن تطويرها إلى ما لا نهاية، بمعنى أن الإنسان يمكن أن يحيا حياة طيبة، إذا ما أدخل تغييرات معينة على البيئة".

لقد استمع جيل جديد من العقلانيين والرومانسيين، لأسلافهم، وأخذوا عنهم، الأمر الذي أدى إلى قيام أهم ثورتين في التاريخ الحديث: *الثورة الأمريكية، والثورة الفرنسية*، بالإضافة إلى بناء بريطانيا من غير ثورة.. وقد ظهر في فرنسا، وحتى أمريكا، شخصيات تعتبر امتداداً للتنوير، وبلورة للفكر الأوروبي بصورة عامة، رغم صعوبة الحصول على ما هو مشترك بينهم، وهؤلاء مثل: توماس جيفرسون، وجون آدمز، وسام آدمز، وتوم بين، ولافاييت، ودانتون، وفرنسيس بلاس.

قطعاً نحن لسنا بصدد رصد المفكرين، ولا إحصاء الأفكار، وإنما يهمنا، التيار الفكري الرئيسي، الذي يمثل الفكر الغربي ويقوم على مرجعيته بالذات.. فالقرن الثامن عشر، الذي تحدثنا عنه بإيجاز، هو من عدة نواحي يمثل (العصر الحديث)، وما يقوم عليه من فكر.

ولا بد أن نذكر بعض الأمور منها: أن ظهور الطباعة، وانتشار التعليم، بحيث شمل أعداداً كبيرةً من أبناء الغرب، وأدى في معظم الدول الغربية، إلى نشوء طبقة وسطى متعلمة قوية، وصلت أعدادها إلى الملايين.. وقد تبنت هذه الطبقة فكر التنوير، وعملت بفعالية على نشره.. وقد نشأت فرق وجماعات، تحت أسماء مختلفة، وأغراض مختلفة، في أوروبا والولايات المتحدة، جميعهم من الطبقة المتوسطة، وقد أدوا بصور مختلفة، إلى ترسيخ مباديء وقيم التنوير.

*عقيدة التقدم:*

*تعتبر عقيدة التقدم من أفكار عصر التنوير الأساسية*، وهي بصورة من الصور مستمرة حتى اليوم، وإن تكن ليست بالقوة التي كانت عليها.. لقد لاحظنا أن التنوير *كان يحلم بجنة هنا، على الأرض*.. وهذا بخلاف المسيحية التي لا ترى أية جنة إلا في السماء.. وكان فولتير من الذين يؤمنون بتقدم كبير في عصر التنوير.. وفي نهاية القرن الثامن عشر، قدم كوندورسيه كتابه (تقدم العقل البشري).. وفيه، يعرض عشر مراحل من التقدم مرت بها البشرية، ابتداءً من المرحلة البربرية البدائية، إلى بداية مرحلة الكمال على الأرض.. ولم يكن هنالك تفسيرا واضحا في البداية لأسباب التقدم، وكيفية حدوثه.

كانت بداية إعطاء التقدم تفسيراً، قد تمت في القرن التالي.. وقد انبنى التفسير على *نظرية التطور الداروينية*.. فهذه النظرية، بصورة عامة، *هي التي أعطت عقيدة التقدم فلسفتها*.. أما عن التقدم في القرن الثامن عشر، فيقول برينتون: "وكان التفسير المفضل عند المثقفين، في القرن الثامن عشر، هو أن التقدم *مرجعه إلى انتشار العقل، وذيوع التنوير* بإطراد مما يسر للبشر التحكم في بيئتهم على نحو أفضل.. ويبدو هنا واضحاً أثر الربط التاريخي، بين التقدم العلمي والتكنولوجي، وبين فكرة التقدم بالمعنى الأخلاقي والثقافي".. فالتقدم في عصر التنوير، *ارتبط بالعقلانية*، وهذا أمر لم يستمر، *إذ حدث تحول كبير جداً، ضد العقل، وضد العقلانية، بل ضد التنوير نفسه، خصوصاً في النصف الثاني من القرن العشرين*!! ولكن ارتباط مفهوم التقدم، بالتقدم العلمي والتكنولوجي، لا يزال قائماً حتى اليوم.

وحسب فكرة التقدم في القرن الثامن عشر، *كان من المحتم عندهم أن التقدم سيقود الناس إلى الحياة السعيدة، في وقت وجيز، لا يتجاوز الجيل أو الجيلين*!!
ويرى برينتون أن فكرة التقدم في القرن الثامن عشر، كانت عقيدة *(أخروية)*!! فهو يقول: "أن مبدأ التقدم لا يزيد عن كونه صورة حديثة لعقيدة الإيمان بالأخرويات". ويقول: "وسوف يقودنا التقدم – وفي الأصل كما تقتضي فكرة القرن الثامن عشر عن التقدم، فإن التقدم سيقود الناس سريعاً خلال جيل او جيلين – إلى حالة *تعم فيها السعادة وتغمر البشر، وينتفي الشر*.. وهذه السعادة، ليست بحال من الأحوال، نوعاً من الراحة البدنية فحسب.. ولن نجانب الدقة حين نقول إن غالبية من تحدثوا خلال القرن الثامن عشر عن تقدم الإنسان، وإمكانية بلوغه الكمال، إنما كانوا يفكرون *بلغة قريبة جداً من لغة الأخلاق المسيحية* والأغريقية والعبرانية، *والتبشير بالسلام على الأرض* للناس الذين صلحت نواياهم، *وزوال كل الرذائل التقليدية، ورسوخ الفضائل التقليدية*".

*لقد أصبحت عقيدة التقدم دين، يدين به الناس في الغرب*، في القرن الثامن عشر.. وهو دين له فردوسه الموعود، الذي يوشك أن يتحقق على الأرض.. ونبي هذا الدين، وربما إلهه، هو العقل!! يقول برينتون، عن هذا العقل: "وثمة الكثير مما يقال عن القاعدة العريضة لعقيدة التقدم على الأرض، هذا التقدم الذي حققه انتشار المنطق والعقل.. *والعقل في نظر الإنسان العادي الذي نحاول أن نتتبعه هنا في عصر التنوير، هو كلمة السر العظمى* التي تكشف له الكون الجديد الذي يعيش فيه.. فالعقل هو الذي سيهدي الناس إلى فهم الطبيعة *(وهذه هي كلمة السر الثانية)*، المرء بهذا الفهم لصوغ سلوكه وفقاً للطبيعة، ومن ثم يتحاشى كل المحاولات العقيمة التي قام بها في ظل الأفكار الخاطئة للمسيحية التقليدية وحلفائها الأخلاقيين والسياسيين من السير ضد الطبيعة"..

*العقل والطبيعة، وجنة الأرض، والسلام، هذه هي القضايا الأساسية للتنوير*، فعلينا أن نصطحبها معنا، *خصوصاً السلام على الأرض*!! فهو الصخرة التي *تحطم عليها صنم التنوير*، في النصف الثاني من القرن العشرين.. وأهم من ذلك، تحقيق السلام على الأرض هو التحدي الأساسي الذي يواجه الحضارة البشرية اليوم.

حسب تصور التنويريين، في ذلك التاريخ "العقل قادر على أن يهدي الناس إلى السبيل الذي يمكنهم من السيطرة على بيئتهم وأنفسهم".. أما عن نظرة إنسان التنوير للإنسان، وعلاقاته الاجتماعية، يقول برينتون عن المسيحيين: "إلا أنهم على الرغم من هذا وضعوا نظاماً من القوانين والمؤسسات، قاصراً على أحسن الفروض، أو فاسداً في أسوأ الأحوال، ولم يبلغوا بحال من الأحوال ما بلغه نيوتن.. وأن نيوتن العلوم الاجتماعية هذا هو الرجل الذي يجمع ويلخص معارفنا المستنيرة، ويصوغها في نسق العلوم الاجتماعية، وليس على الناس إلا الاقتداء بها ضماناً لبلوغ العصر الذهبي الحقيقي، *جنة عدن الحقة تلك التي نراها أمامنا لا خلفنا*..".

إن الصورة الأساسية (التيار الرئيس للفكر الغربي) قد اكتملت كإطار.. فمبدأ الاعتماد الكلي على العقل وحده (العقلانية) ظل دائماً، وإلى اليوم هو المبدأ الأساسي.. *لقد حدثت ثورة عنيفة ضد العقل والعقلانية*، خصوصاً في النصف الثاني من القرن العشرين.. *ومع ذلك، لم يتغير شيء في الاعتماد الكلي على العقل*.. تم تحول تام عن عقل التنوير، وإدانة له، وهجوم شديد على العقل، *دون توفير أي بديل*.. أما الموقف من الطبيعة من حيث المبدأ، فقد ازداد توكيداً.. فلا تزال النظرة السائدة في الفكر الغربي، تقف عند النظرة المادية للطبيعة ولا تتعداها، هذا *على الرغم من أن العلم دحض هذه النظرة بصورة مبدئية، ونهائية!! ولا يزال ما وراء الطبيعة لا يجد أي اعتبار*.

العقيدة في العلم ما زالت مستمرة، بصورة من الصور، *ولكن حلم تحقيق جنة الأرض قد تبخر تماماً، ومعه تبخرت النظرة المتفائلة للمستقبل.. وتحول الانتظام الذي كان عند التنويرين إلى فوضى، على يد علم الجزيئيات، وعند تيار ما بعد الحداثة*.

أقول إن الإطار الفكري الذي تأسس في القرن الثامن عشر، ظل كما هو.. وداخل هذا الإطار حدثت اختلافات كثيرة عبرت عنها العديد من الفلسفات.. ولم تكن بين جميع الفلسفات، التي ظهرت، فلسفة جماهيرية، سوى الماركسية.. والماركسية أيضاً هي الفلسفة التي وجدت لها تطبيق عملي.. على الرغم من أن الماركسية من فلسفات القرن التاسع عشر، إلا أنها طُبقت في القرن العشرين، في الفترة من 1917 – 1990م.. وقد استطاعت الماركسية أن تقسم العالم إلى معسكرين بينهما عداوة شديدة.. *ولكن من الناحية الفكرية، لم تخرج الماركسية من إطار الفكر الغربي الذي ذكرناه*.. على العكس، الماركسية من أكثر الفلسفات التي وكدت المادية، ورفضت الغيب، واعتمدت اعتماداً كلياً على العقل، وعلى العلم.. والاختلاف بين الماركسية وبقية الفكر الغربي، هو ليس أكثر من اختلاف بين مذهبين في الدين الواحد.

لم تظهر أي فلسفة، هزت مسلمات الغرب الفكرية، بصورة جماهيرية.. ولكن هنالك الكثير من الفلسفات التي وكدت مسلمات الغرب الفكرية.

يتبع...

خالد الحاج عبد المحمود
رفاعة في 26/3/2023م

//////////////////////////////

 

 

 

آراء