أكثر من سياسي بارز وصف اتفاق نيفاشا عقب توقيعه بأنه "أغبى اتفاق في تاريخ السودان". اتفاق جوبا ينهل من روح نيفاشا. بل يذهب على نسقه حداً يكاد يلامس التطابق إن لم يقع عليه. ربما ليس من المنطق وصمه بما وصم أولئك اتفاق نيفاشا. لكنما ليس مجافياً للمنطق وصفه بأنه ظالم. أكثر ما في ظلمه أنه مرتبك مربك على نحو يستعصي على التنفيذ. الإتفاق حمل الدولة المركزية من الأثقال ما لا طاقة لها به. في الواقع جور الإتفاق يتجاوز الدولة المركزية إلى الأقاليم المثقلة بالفجوة التنموية ذاتها؛ جذر الأزمة في القضايا محاور الإتفاق.
*** *** *** أبرز خطوط جور الإتفاق أنه يهدد بتغيير الجغرافيا السياسية للدولة السودانية. هو يؤسس لبناء فيدراليات مفتوحة على كونفيدراليات تغري رياح الإستقلال بزلزلة استقرار الوطن. فهو لا يعزز بنى وحدة التراب والشعب والسلم الإجتماعي بقدر ما يوسع جدلية الإنقسام والتجزئة على امتداد رقعة الوطن. خلاصات نصوص الإتفاق الجوهرية تثير إغراء أو غيرة أقاليم عديدة بالمحاكاة أو التحريض على التمرد على الدولة المركزية.
*** *** *** اتفاق جوبا لم يوازن بين قوة الدولة المركزية وثقل الحركات المسلحة. التوغل في نصوص الإتفاق يرسخ انطباعاً لدى القارئ في رؤية وثيقة تعكس الفارق الشاهق بين كبرياء الإنتصار وانكسار الهزيمة والإستسلام. كأنما أمراء حرب منتصرون قصدوا إذلال حكومة مهزومة. كل النصوص تفضح إملاءات من طرف الفصائل المسلحة على الدولة المركزية. أنت لا تجد البتة في الوثيقة أي ملمح لـ "معادلة الأرباح المتكافئة" بين الطرفين الموقعين. ذلك حال التسويات السلمية بين الأنداد الأنداء على الأقل. بينما سلة الجبهة الثورية ملأى بالمكاسب فإن الطرف الآخر على المفاوض الموازي خرج صفر اليدين. عوضاً عن الأرباح عادت الحكومة الإنتقالية من جوبا مثقلة بالتزامات سياسية، مالية واجتماعية تفوق قدراتها. بل تزيد حجم على الأعباء والألغام على دروبها.
*** *** *** هكذا أخرجت الفصائل المسلحة الدولة المركزية تحت اتفاق جوبا مرهقة واهنة غير واثقة. فالدولة تستمد قوتها من قدرتها على بسط نفوذها على ترابها وهيبتها على شعبها. ربما يتشعب بنا الجدل في شأن قوة الدولة وهيبتها. لكنما لن يطول الخلاف حول مدى فعالية مؤسسات الدولة. هذه الفعالية تتجلى في الحفاظ على السيادة، حماية المصالح القومية الوحدة وتأمين الرفاه الإقتصادي. تلك مهام تندرج في سياقها توفير الحريات، حماية المجتمع ضد الفاقة، القمع، المجاعات والأوبئة. أكثر أخطاء الأنظمة الشمولية فداحة تقديمها رفع حماية الدولة على حساب حماية المجتمع.
*** *** *** البناء الفيدرالي أو حتى الكونفيدرالي لا يشكل خطراً في حد ذاته يستوجب الرفض. لكن مصدر الخطر في حرق المراحل عنوة من أجل بلوغ ذلك المستوى من آليات الحكم في وطن لا تزال لحمة الوحدة والهوية وترسيخ الحس الوطني العالي تستدعي بذل جهود مكثفة. كما لا تزال القيادات الحكيمة المسلحة بالوعي ونكران الذات على نحو جاذب من طراز القدوة أو الإصغاء إليه تشكل ندرة.
*** *** *** كل جهد يطفئ نيران الحرب في جنبات الوطن ينتزع الإطراء والمساندة. لكن إتفاقات جوبا ذهبت أبعد مما ينبغي على درب إخماد الحرائق في المناطق المعنية من حيث الإمساك بجذور الأزمة أو منهج المعالجة. الإتفاقات عنت باسترضاء المفاوضين أكثر من مداواة أوجاع وجراحات أهل تلك المناطق. كذلك في ذلك حد إلقاء جور مزدوج على الدولة المركزية ورعاياها. النخبة المحاورة جنحت إلى تغمص دور المساوم الناجح إذ يبدو أنه حقق أرباحاً مهولة دون دفع حد أدنى من الأتعاب أو التنازلات. في المقابل فإن المفاوض على الجانب الموازي لم يخسر شيئاً إذ ألقى بكل الأعباء على الدولة المركزية دون مراعاة حجم الأضرار المترتبة عليها جراء الإتفاق. هكذا ينطوي الإتفاق على مخاطر تعرضه للإنتكاس من داخله. من اليسير تبرير تلك الأحمال الملقاة على كاهل الدولة المركزية بردم هوة تخلف تلك المناطق وركام معاناتها. كما أنها تشكل ضمانة لإنهاء مصادر الإحتراب. غير أن عجز الدولة عن الوفاء بتلك الإستحقاقات يمثل أبرز مخاطر الرجوع إلى مربع الأزمة. فالمفاوضون ليسو هم أخر المناضلين، المدافعين عن الحقوق الضائعة أو المغامرين في تلك الأنحاء. القسمة الضيزى الغالبة على جبهات السلطة والثروة تدمغ الدولة المركزية باتهامات خطيرة ليس أدناها ممارسة الفصل الجهوي والتمييز العنصري. ذلك اتهام فاضح تفصح عنه النسب المنصوص عليها في تسكين أبناء المناطق المعنية في الوظائف القيادية في الدولة المركزية. فهل كانت السلطة المركزية تفعل ذلك عمداً أم توجد أسباب واقعية ليست خافية جعلت المشهد على ماهو عليه؟
*** *** *** كذلك يذهب الإتفاق في الجور على الدولة المركزية واتهامها بالعنصرية حينما يصر على معالجة مغالطات واضحة من زاوية ما أسماه الإتفاق بـ"التمييز الإيجابي". تحت هذه المحاججة المفخخة بالأخطاء لا يجور الإتفاق على الدولة وحدها بل يطال الظلم جميع رعاياها على امتداد رقعة الوطن. هو ينصب معايير ليست عادلة للتنافس على وظائف الدولة. هو يجرد بنات وأبناء الأقاليم الأخرى من حقوق شرعية مكتسبة وفق قواعد الجدارة والتأهيل بمنطق ما أسماه الإتفاق "التمييز الإيجابي". ذلك عند كل أهل السودان تمميز سلبي إذ يمنح من لا يستحق ما لا يستحق على حساب من يستحق. هذا ظلم يضرب الدولة في فعاليتها. ليس فقط بوصمها بالجور بل لأنه في الوقت نفسه يحرمها من أسس أختيار ذوي الكفاءات القادرين على تطوير ماكينازماتها الداخلية. ماذا لو لم توفر المناطق المعنية معدل النسب المفروزة لهم في الإتفاق؟ هل نهبط بمعايير الكفاءة أم نتغاضى عنها! كيف نحدد معايير الإنتماء؟ وفقا للإنتماء الجغرافي أم العرقي!
*** *** ***** ذلك الحكم الجائر مبني على حيثيات مختلقة في حق الأقاليم الأخرى. فهي نفسها عانت من تبعات سياسات الدولة المركزية الخاطئة. هي دولة لم تكن خالصة صنيعة أبناء تلك الأقاليم. بل ربما كانت اسهامات المناطق المعنية باتفاق جوبا في تلك الحكومات أعلى من عدد من الأقاليم المستهدفة من قبل نصوص اتفاق جوبا، إذ ظلت روافد تقليدية أكثر من غيرها لنخب سياسية مسؤولة عن بعض إن لم يكن كثير من مراكمة معاناة أقاليم الغرب. في عهد الإنقاذ تسيد أبناء المناطق المعنية مستويات الحكم المتباينة.
*** *** *** الفرضيات الخاطئة تسوق إلى خلاصات خاطئة. النسب المضمنة في الإتفاق لا تستند إلى إحصائيات. التعداد السكاني وهو هيكل النسب الواردة في الإتفاق غير موجود. لا أحد بين يديه عدد سكان دارفور، كردفان أو النيل ألأزرق. فعلى أي فرضيات جرى وضع السب المنصوص عليها في الإتفاق. كم عدد العاملين في مؤسسات الدولة والوظائف القيادية فيها؟ من أين لخزانة خاوية الوفاء بمئة مليون دولار شهري؟ على أي تقديرات تمت بلورة هذا المبلغ؟ ماهي أوجه الصرف؟ الأسئلة نفسها تلاحق الجعل السنوي المفروض على الخزانة المركزية الوفاء به؛ 750 مليون دولار! من الواضح بناء تلك النسب على منهج عشوائي مرتبك يصعب، بل يستحيل تنفيذه. هكذا يظلم الإتفاق الجميع بما في ذلك أطرافه.
*** *** *** الإتفاق مشبع بشبق السلطة. إعادة تدوير روزنامة المرحلة الإنتقالية مثل تبرئة شاغلي المناصب من شروط النأي بأنفسهم عن الإنتخابات المفترضة. استرضاء المكون العسكري. ما من أحد يرفض التسويات السلمية بغية إحلال السلام. لكن على رأي متلقي المصحف هدية من الحاج العائد من المملكة ؛" لقد خبرنا ما فيكم ".