عبد الخالق محجوب: لم يفارقنا صلاح أحمد إبراهيم كشاعر بل كمواطن أداته السياسة في خدمة وطنه

 


 

 

كنت وصفت ما وقع بيني والحزب الشيوعي بصدد تقييم "غضبة الهبباي" لصلاح أحمد إبراهيم في ١٩٦٥. فقد صادروا نقدي له في جريدة "الميدان" لأنه ما أتفق معهم في رأيهم السلبي الشديد في صلاح. فذهبت لأستاذنا عبد الخالق أشكو له ظلم الرفاق. فاجتمع بالقيادة في السكرتارية المركزية وأعادوا نشر مقالاتي بالجريدة. وقدموا لذلك بكلمة ننشرها أدناه حول منهج الحزب الشيوعي حيال الأدب وحريته.

كلما قرأت هذه المذكرة الغنية تذكرت الأنثروبولوجي مالنوفيسكي. ذكر مرة قرية نشر عنها دراسة ما. فقال: لم تكن موجودة حتى صنعتها. وهكذا لم تكن هذه المذكرة برحابتها موجودة كنهج نترسمه لولاي. وتجد كلمة عبد الخالق في "الميدان" أدناه وبها هنة طباعية عن فساد في الأصل نعتذر عنها:

(الميدان الجمعة ٥ نوفمبر ١٩٦٥)

هذه الصفحة من الميدان خُصصت للأدب بفروعه المختلفة. والبعض يظن أنها مثل الصفحات الأخرى تعبر عن رأي الحزب الشيوعي بطريقة غير مباشرة. ومثل هذا الاعتقاد يجانب الحق إذ أن ميدان الأدب لا يُسَخر في السياسة بطريقة مباشرة. بل هو يؤثر عليها ويتفاعل معها بطرق غير مباشرة. والخَلق الأدبي الذي يدخل ميدان السياسة المباشرة يتخلى عن طبيعته كأداة للتعبير عن الإنسان ويستحيل إلى طبيعة أخرى. إننا نرحب بكل خلق أدبي يمت إلى الحقيقة بصلة، ويغني تجارب الإنسان وهو يعانق حقائق العالم ويضيء جوانبه بقيم الجمال التي ترفعه أبداً إلى ولوج أبواب المعرفة، ويؤدي في النهاية إلى حرية الإنسان الذي يعلو على الحاجة ولا تعلو عليه، ويتحرر من الخوف الناتج عن قصور إدراكه لنفسه ولما حوله من مظاهر الحياة الاجتماعية والطبيعية.

وطالما كان هذا ديدننا فإننا في هذه الصفحة نرحب بجدية الأديب في خلقه وابتداعه لأنه لا مكان للخلق والإبداع دون تلك الحرية التي تقرب الإنسان من الحقيقة، وتفتح أعينه في دهشة لقيم الجمال. ولهذا فإن المقارنة بين رأي الحزب الشيوعي في السياسة ورأيه في الأدب مقارنة خاطئة لا مكان لها وضارة بنمو الأدب التقدمي في بلادنا.

لقد فهم بعض المواطنين أن المقالات التي تنشر في هذه الصفحة، قدحاً أو مدحاً، في ديوان الأستاذ صلاح أحمد إبراهيم "غضبة الهبباي" تعبر عن رأي الحزب الشيوعي. وهذا خطأ ومجافاة للحقيقة. لقد آثرنا دائماً، وفي حدود ملامسة الحقيقة، أن نترك فرصة واسعة لحرية كتابنا في ميدانيّ المضمون والشكل. كما فضلنا دائماً أن تدور مناقشاتنا حرة وعفيفة في هذه الصفحة حتى تستطيع أن تبرز، في وسط الزحام المليء بالأقزام، الملتحفين ثوب الأدب، الشخصيات الأمينة على هذه القضية الإنسانية الكبرى، والملتزمة أمانة الكلمة التي تنوء تحت أعبائها الجبال. وليس كحرية الأدب وسيلة للوصول إلى هذه النتيجة العظيمة.

إن الحياة الأدبية تواجه في بلادنا تيارات عاتية من التقليد والنقل الأعمى للتعبيرات المريضة التي تصيب الإنسان المريض في عالم اليوم، وهو جاهل بكنه القوانين الاجتماعية التي تثير الفزع، وتسحق الفرد، وتعمي بصيرته حتى يسير كالأعشى في متاهات الضياع. والأديب السوداني الذي يرغب في خدمة الحقيقة ما زال في أول الطريق لأنه لم يكتشف مقومات الإنسان ومصادر معرفته عبر التاريخ. ولهذا فنحن نُسخر هذه الصفحة في محاولة متواضعة لتخدم الغرضين. تصد أولاً الآثار الواردة من الخارج، والتي تعبر عن صرخات اليأس في مجتمع أصيب بالمرض، وأصبح (؟) اليوم أو الغد حتى لا يفسد علينا حياتنا الروحية: تصدها بالنقد والدراسة ولا تقفل الأبواب دونها بالأمر. وتساهم ثانياً في اكتشاف الإنسان السوداني حتى تنفجر منابع معرفته فتشمل الإنتاج الأدبي بدفئها فيستحيل صادقاً ونافعاً. ولكل الغرضين فإن صفحتنا تؤثر الحرية التي لا تقيدها غير الحقيقة.

إن ديوان الأستاذ صلاح أحمد إبراهيم ليس عملاً سياسياً في جملته، بل هو عملاً فنياً. وحتى لو كان عملاً سياسياً فهو لم يتخذ أبغض وسيلة له. فإن الافتراق الذي وقع بين الحزب الشيوعي والأستاذ صلاح عام ١٩٥٨ لم يكن لاختلاف سياسي بل لأسباب أخرى تتعلق بنظمه وشروط عضويته. لقد فارق الأستاذ صلاح الحزب ليس بوصفه أديباً ولا بسبب إنتاجه الأدبي. ولكن فارقه بصفته مواطناً أداته في خدمة الجماعة النشاط السياسي المباشر. وشتان بين هذا وذاك. فلنقصر الحديث فلا داع لنبش الماضي.

ولهذا فإن هذه الصفحة تقيم ديوان هذا الشاعر باعتباره عملاً فنياً في نهاية الأمر. تنظر أولاً في صلاحيته كعمل فني بجودة الأداة وفي شكله. وعندما يدخل من هذا الباب العريض، الذي لا يدخله إلا الخلق الأدبي الجيد، ننظر ثانياً في مقدار إثرائه لحركة التقدم ولنمو الحياة. هذا هو طريقنا وإذا فهم غيره فلا لوم علينا.

IbrahimA@missouri.edu
////////////////////////

 

 

آراء