عبيد السودان السابقين: دراسة عن “عرس الزين” للطيب صالح . ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
عبيد السودان السابقين: دراسة عن "عرس الزين" للطيب صالح
بقلم: هيزر جي شاركي
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: نشر هذا المقال للدكتورة الأمريكية هيزر شاركي المتخصصة في تاريخ ولغات وحضارات الشرق الأدنى في مجلة دراسات السودان (العدد 11 – يناير 1992). للدكتورة المؤرخة شاركي عدة كتب ومقالات عن منطقة الشرق الأدنى منها كتاب "العيش مع الاستعمار: الوطنية والثقافة في السودان الإنجليزي المصري"، وكتاب "الإنجيليون الأمريكيون في مصر" و"الهوية والمجتمع في الشرق الأوسط المعاصر". كنت قد عرضت قبل أعوام قليلة لكتاب "العيش مع الاستعمار: الوطنية والثقافة في السودان الإنجليزي المصري" في مقال نشر في "الأحداث" وبعض المواقع الإسفيرية.
على المستوى الشخصي أعادت إلى سيرة "عبيد السودان السابقين" ذكرى بعض من رأيتهم من تلك الفئة وهم في خريف العمر، وأنا طفل صغير. أخص بالذكر هنا منهم "فرجو قريب"...أنزل الله شآبيب رحمته على تلك المرأة البشوش الحنون.
تدور رواية الطيب صالح القصيرة الساحرة "عرس الزين" (والصادرة في 1966م) حول قروي أخرق اسمه "الزين". ترد في الرواية كثير من سلوكيات "الزين" المميزة... السخيفة منها والمضحكة والرعناء أيضا. كان يمتاز جسديا بجسد غريب، بل مشوه، وضحكة مجلجلة تحاكي نهيق الحمير تظهر سنين مصفرين يبرزان كشوكتين من خلال لثته، واحدة في فكه الأعلى، والأخرى في فكه الأسفل. كل هذا جعله موضع تندر وسخرية (ودودة) من أهل قريته.
كانت سخافات "الزين" تتراجع أحيانا لتفسح المجال لأهل قريته لرؤية جانب آخر في شخصيته كانت مثار إعجابهم ودهشتهم وتأثرهم. كان "الزين" يواد الذين يعيشون في أطراف القرية، والمرضى والمعدمين والمعزولين، ويبدي لهم نبيل العطف وشديد الكرم. من أصدقائه "الحنين" ذلك الصوفي المتجول، و"موسى" الأعرج، و"عشمانة" الطرشاء، و"بخيت" الذي ولد بدون شفة يسرى (في الأصل شفة عليا. المترجم) وبشق أيسر مشلول. وكما تنبأ له ذلك الصوفي المتجول "الحنين"، فقد انهالت البركات على "الزين"، وتزوج بأجمل فتيات القرية، بينما نعم أهل القرية برخاء غير مسبوق.
تكمن تحت بنية السرد البديعة في الرواية، إشارات ورسائل وتعليقات اجتماعية بالغة الأهمية. فمن جانب نجدها تعكس قيم وعادات مجتمع "الزين" وثقافة القرية المحلية في مقابل خلفية تغيير اجتماعي يحدث في وقت كان فيه المجتمع السوداني بأسره يحاول التأقلم مع الاستقلال الذي أتى لتوه. ولكن ربما كانت أكثر الرسائل والتعليقات والإشارات الاجتماعية وضوحا وحدة في الرواية تدور حول العبيد السابقين في قرية الزين. كان من بينهم "موسى" الأعرج، والعاهرات اللواتي يسكن في "الواحة" على حافة الصحراء، إذ أنه يمكن القول بأن تلك الشخصيات هي التي كانت أسوأ حظا من غيرها في مناخ ذلك الزمن الذي تميز بتغيرات اجتماعية هائلة. كان من العسير عليهم إعالة أنفسهم مع أجور اقتصاد العمل الوليد، والحصول على "القبول الاجتماعي".
سيحاول هذا المقال، استخدام شخصيات العبيد السابقين في رواية "عرس الزين" (وهي شخصيات خيالية بيد أنها دقيقة تاريخيا) كأمثلة (نماذج)، ويناقش الصعوبات التي واجهها هؤلاء العبيد في نحت مكان لهم في عالم ما بعد تحريم الرق وفترة ما بعد الاستقلال في تاريخ السودان.
تم إلغاء الرق رسميا في السودان في عام 1898م، بيد أن عقودا طويلة مرت من بعد ذلك التاريخ قبل أن ينجح الإداريون في اقتلاع كل بقايا تلك الممارسة. كتب البريطاني ب. مايخلوخلن في مجلة "أفريقيا" العدد 32 الصادر في أكتوبر 1962م مقالا عن "التنمية الاقتصادية وتراث العبودية في جمهورية السودان" لقد استمرت الغارات (الصغيرة ربما) التي كانت تشن لجلب الرقيق حتى نهاية الثلاثينات، وظلت بعض أشكال الاسترقاق المنزلي موجودة حتى عام 1962م". لن نبعد النجعة إن افترضنا أن رواية "عرس الزين" التي كتبت في 1966م قد تكون قد عكست التجربة المعاصرة لهؤلاء العبيد السابقين، والذين ظلت العبودية بالنسبة لهم ذكرى حية، في وقت كان فيه عوامل الاقتصاد والثقافة في السودان تحاول التأقلم على الإلغاء الرسمي للرق. (ليس صحيحا أن رواية "عرس الزين" قد كتبت في عام 1966م، فالراجح من أقوال النقاد أنها كتبت في عام 1962م. المترجم).
نال كثير من السودانيين من العبيد السابقين حريتهم، ومضوا يكافحون من أجل كسب عيشهم ضمن سياق الاقتصاد النامي في البلاد، حيث عملوا في المشاريع الحكومية الجديدة التي وفرت فرصا للعمل لهم ولغيرهم مثل خزان مكوار (سنار)، ومشروع الجزيرة، وخط السكة حديد للبحر الأحمر وعلى النيل، ومشاريع ري القاش وطوكر الزراعية، وأرصفة ميناء بورتسودان. عملت أعداد كبير من هؤلاء العبيد السابقين في الخدمة العسكرية، وعمل آخرون منهم بعد أن تم تسريحهم من الجيش بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في مجال الزراعة في مشاريع صغيرة أقامها الجيش عرفت ب "جناين الأرط (جمع أورطة)" و"مشاريع التوطين" وفرت لهم الاكتفاء الذاتي.
برغم أن كثيرا من العبيد السابقين صادفوا نجاحا كبيرا في حياتهم (الحرة) الجديدة، إلا أن بعضهم كان أقل حظا. لقد وجد بعضهم حياة الحرية وتجربة إلغاء الرق أمرا صادما لا يمكن تقبله بسهوله. كان "موسى" الأعرج صاحب "الزين" في تلك الرواية هو أحد أولئك العبيد السابقين. كتب المؤلف عنه أنه:" رجل طاعن في السن، حين تراه مقبلا يتفطر قلبك من كثرة ما يعاني في مشيه، الحياة بالنسبة له طريق متعب شاق. كان عبدا رقيقا لرجل موسر في البلد، ولما منحت الحكومة الرقيق حريتهم، آثر موسى أن يبقى مع مولاه (بدوي). كان مولاه شغوفا به ويحبه ويبره ويعامله معاملة الابن، ولما توفي آلت الثروة إلى ابن سفيه له (سيف الدين)، فبددها وطرد موسى، وأدركته الشيخوخة وهو معدم لا أهل له، ولا احد يعنيه أمره، فعاش على حافة الحياة في البلدة، كما تعيش بعض الكلاب العجوزة الضالة، التي تأوي إلى الخرابات في الليل وتبحث عن القوت نهارا في فجوات الحي يتحرش بها الصبيان". كان "الزين" هو من تولي المهمة الاجتماعية لرعاية "موسى"، فبني له بيتا بسيطا من جريد النخل. كان "يأتيه في الصباح ويسأله كيف بات ليله، ويأتيه بعد غروب الشمس مالئا جيوبه بالتمر، وثوبه منتفخ بالطعام فيلقيه إليه".
لا بد أن حالة "موسى" كانت حالة استثنائية، رغم أنها لم تكن فريدة تماما. نادرة هي العائلات التي ليس لها من وازع أو مسئولية اجتماعية تجعلها تهجر خادما عجوزا مخلصا. فهنالك قواعد الشرع الإسلامي الذي يفترض أن ينظم – نظريا- أحوال الرقيق في السودان. فرغم أن القوانين والفقه الإسلامي أباحا الرق، إلا أنهما وضعا من الشروط والأحكام ما يخفف ويحسن من أحوال العبد ويضمن له معاملة لائقة. فسيد العبد ملزم قانونيا بأن يوفر له المأكل والمشرب والملبس والمسكن والعلاج، وكذلك الرعاية عند الكبر. بيد أنه مع إلغاء الرق، صار أمر الرقيق ومعاملتهم خارج اختصاص محاكم السلطات القضائية (الشرعية). من المشكوك في أمره أن يكون لعبد سابق مثل "موسى" أن يقاضي سيده السابق أمام أي محكمة بتهمة الإهمال.
وإضافة إلى القوانين الإسلامية، فإن هنالك أيضا الأخلاق الاجتماعية السودانية العامة المتعلقة بمعاملة العبيد المخلصين، وهنالك نظام للمقابلة أو التبادل الاجتماعي (social reciprocity) بين العبيد ومالكيهم، وأيضا بين العبيد المحررين ومالكيهم القدامى. كان كل أفراد المجتمع يعاون بعضهم بعضا، إذ أن ذلك كان من القوانين والعهود المرعية غير المكتوبة. كان من الواجب أن يضمن الالتزام الأخلاقي (إن لم يكن القانوني) أن لا يحدث لمملوك خدم بإخلاص ما حدث لموسى. كل ذلك يعني أن بإمكان "سيف الدين"، ذلك الولد السفيه، ابن الصائغ "بدوي"، أن يتنصل (وبحصانة كاملة) من كامل مسئوليته القانونية (وليست الأخلاقية) تجاه ذلك العبد العجوز المخلص الضعيف. نعم، لقد نال "موسى" حريته، بيد أن ذلك لم يعطه إلا القليل جدا من السلوى والعزاء والراحة!
يعد "موسى" في نظر الإداريين البريطانيين مثالا (نموذجا) للعبد السابق والخادم المنزلي المخلص السابق، فقد كان هناك من الإداريين مثل "سلاطين باشا" من ينادون (بألسنتهم فقط) بإلغاء الرق وتحرير العبيد، بينما كانوا يمارسونه فعليا باتخاذهم عددا من "رقيق/خدم المنزل". أرسل "سلاطين باشا" في عام 1897م رسالة لصديق له هو بيجي (بحسب وثيقة محفوظة في أرشيف السودان بجامعة دارام البريطانية تحت رقم 438/653/3) يقول فيها: "إن السود هم خنازير بائسة لا يستحقون أن يعاملوا كرجال أحرار مستقلين... ينبغي الحفاظ على السود كعبيد تحت حماية مالكيهم / سادتهم السابقين، والذين يجب إجبارهم علي حسن معاملتهم..."
ظل الإداريون بعد ذلك في حيرة من أمرهم وهم يحاولون التعامل مع ذات المشكلة. لقد ألغي الرق، وتم الإعلان عن تحرير العبيد، بيد أن أولئك الإداريين لم يكن يريدون فعلا أن يشعر العبيد السابقون بأنهم "أحرار" حقيقة، وأن يتركوا سادتهم وينتقلوا لأماكن أخرى... ربما بسبب الخوف من الآثار الضارة التي قد تحدثها هجرة أعداد كبيرة من العمال الزراعيين على الإنتاج الزراعي بالبلاد. بل إن الحكومة سنت عددا من المراسيم التي تجرم التشرد، وأخرى تنظم تسجيل العمال، والغرض من وراء كل ذلك هو إجبار العبيد السابقين على البقاء في أماكنهم. من المفارقات العجيبة أن "موسى" (في رواية "عرس الزين") كان ببقائه مع "سيده" كان يمتثل تماما لما كانت تشجع عليه الحكومة!
ولكن إن كان "موسى" يمثل نموذجا model للعبد السابق، فإن النساء اللواتي كن يقمن في حافة الصحراء قد مثلن للحكم الانجليزي المصري أسوأ كابوس يمكن تخيله. لقد أصدرت حكومة السودان منشورا سريا في عام 1919م يوضح سياسة الدولة تجاه ما أسمتهم تلطفا بالخدم السودانيين. جاء في ذلك المنشور السري أنه يجب على المسئولين بذل كل ما في وسعهم (ربما بكل الوسائل عدا القوة) لإقناع "الخدم السودانيين والسودانيات" بالبقاء مع سادتهم/مالكيهم القدامى حتى وإن كان الرق قد منع قانونا (تماما كما فعل "موسى" الأعرج)، وإن لم يحدث ذلك فقد تجبر أعداد كبيرة من أفراد تلك الفئة على البغاء أو السرقة أو أي نوع آخر من الآثام والجرائم. وبالفعل لاحظ كثير من المسئولين تزايد مشكلة ما سمي ب"النساء العمومياتPublic women " في مديريات السودان المختلفة. ثبت أن تخوف المسئولين كان له ما يبرره، إذ أن سجل أن نحو 80% من الجرائم في كسلا في عام 1903م كانت قد ارتكبت بواسطة العبيد السابقين، وأن هؤلاء أدينوا في نحو 76% من كل الإدانات التي صدرت تحت قانون العقوبات السودانية بين عامي 1923- 1925م، ومن بين هؤلاء كانت نسبة الرجال هي 16%، بينما بلغت نسبة النساء بينهن 60% (أغلبهن من البغايا).
كان ذلك الشاب الفاسد "سيف الدين" يبدد ساعات يومه في صحبة "النساء العموميات" (اللواتي يسميهن أصحاب القرية الخدم) قرب حافة الصحراء. كتب الطيب صالح أن هؤلاء النسوة: " كن رقيقا أعطي حريتهن، بعضهن هاجرن من البلد، وتزوجن بعيدا عن موطن رقهن. وبعضهن تزوجن الرقيق المعتقين من البلد وعشن حياة كريمة، بينهن وبين سادتهن السابقين ود وتواصل، وبعضهن لم تستهويهن حياة الاستقرار، فبقين على حافة الحياة في البلدة، محطا لطالبي الهوى واللذة".
لقد نالت هؤلاء النسوة في تلك "الواحة" حريتهن، بيد أن تلك الحرية بلا ريب لم تعطهن كثيرا من الخيارات الاجتماعية أو الاقتصادية. كيف للحرية أن تغير من حياتهن إن كان استمرارهن كخدم في منازل أسيادهن السابقين، ونيل مكافآت مالية ضئيلة نظير عملهن، هو الخيار الآخر الوحيد المتاح لهن؟ إن الفرص – على وجه العموم- للنساء قليلة جدا، إذ لم تقم الحكومة بإنشاء برامج تعليمية أو تأهيلية لهن، أو تعمل على إقامة مستوطنات لهن مثلما فعلت للجنود المسرحين من الخدمة، ولم تكن للنساء نفس الخيارات المتاحة للرجال للهجرة إلى المدن للحصول على أعمال (شريفة) يتحصلن منها على أجور. في مجتمع شديد "الأبوية" كالمجتمع السوداني، لم يكن أمام هؤلاء النسوة من الرقيق السابقات اللواتي لم يعد لديهن ملاك /أسياد، ولم يتخذن لهن بعولا يعولوهن، إلا بيع أجسادهن من أجل كسب لقمة العيش. بالفعل كان البغاء أو صنع الخمور (أو الاثنين معا) في غالب الأحوال هو الخيار الوحيد القابل للتطبيق لدي المحررات من النسوة اللواتي لم يكن يرغبن في البقاء تحت ملكية أسيادهن. لذا آثرت العاهرات في "عرس الزين" العيش في "رواكيب" من القش على حافة الصحراء، يبعن الخمور و/أو يبعن أجسادهن، وأصوات ضحكاتهن المخمورة النشوى تسري في ظلام الليل. كتب الطيب صالح عن مساكنهن ما نصه: "...ضاق بها أهل البلد فأحرقوها، ولكنها عادت مثل نبات الحلفا، لا يموت، وطردوا سكانها وعذبوهم بشتى السبل، ولكنهم لم يلبثوا أن تجمعوا من جديد، كالذباب الذي يحط على بقرة من جديد".
أحدث نيل بعض العبيد السابقين للحرية تحولات تشابه الإعجاز في حياتهم، إذ استمر بعضهم (مثل "موسى" الأعرج) في خدمة أسيادهم القدامى بذات الإخلاص القديم، وظفر المحظوظون منهم بالعون والرعاية التي دعا لها الشرع الإسلامي، بينما لم يجد غير المحظوظين إلا العوز والفاقة، مما أضطر النساء منهم لرفض العودة لحياة العبودية (كما نصحت الحكومة)، وآثرن العمل في صناعة الخمور والبغاء.
بعرضها للمحن التي تعرض لها العبيد السابقون مثل "موسى" الأعرج والعاهرات المحليات، تكشف لنا رواية "عرس الزين" كثيرا من الرؤى عن المجتمع السوداني وهو في خضم حالة من التحول والغليان. كانت قرية الزين تمثل نموذجا لمكان صارع فيه العبيد السابقون ليجدوا لهم موطئ قدم في مجتمع تتغير فيه مشاهد الحياة الاقتصادية والاجتماعية في سودان ما بعد الاستقلال. لم تتطور القوانين المدنية التي تفرض معاملة لائقة ل"خدم المنازل" المخلصين بحيث تواكب الإزالة السريعة نسبيا للرق في السودان. لم يكن للنسوة اللواتي تحررن من العبودية على وجه الخصوص من بد في مجابهة خيارات اقتصادية واجتماعية محددة جدا في وقت لم تكن فرص العمل متوفرة لغير الذكور. لذا فمن المتوقع أن يكون عدد من العبيد السابقين (مثل "موسى" الأعرج والعاهرات في طرف القرية) قد سقطوا – إن جاز التعبير- من خلال شقوق التركيبة الاجتماعية المتغيرة، وقضوا ما بقي لهم من أيام في هذه الحياة على هامش المجتمع السوداني وحافته.
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]