عرض كتاب: سياسة التمييز الإثني في السودان، وتداعياتها على انفصال جنوب السودان للدكتور ضيو مطوك

 


 

 



(3)

د. قاسم نسيم


نبدأ اليوم مما انتهينا إليه في الحلقة الماضية ونستأنف من الفصل الثاني: الذي حمل عنوان "نشوء وتطور العلاقات القبلية بين دينكا ملوال والرزيقات". أرجع المؤلف علاقة دينكا ملوال والرزيقات إلى فترة مملكة دارفور الأولى، حيث شهدت العلاقات استقرارًا، رغم أنها لم تقم على قاعدة منهجية، لكن كان ثمة ارتباط نظري لبحر الغزال بمملكة دارفور، ولم تكن مجتمعات الدينكا منظمة في شكل إدارات ، إلا أنهم كانوا ينتظمون تحت قيادة الزعماء الأرواحيين في مواجهة أي خطر، وهذا كان شأن كل القبائل الإفريقة السودانية.

يقول المؤلف في سياق حديثه عن بحر الغزال إبان التركية ثم المهدية: حُكم إقليم بحر الغزال كجزء من دارفور أثناء الحكم التركي أولًا، ولم تلحق بحر الغزال تحت إدارة الجنوب إلا في سنة 1874. كان اهتمام المهدية بالجنوب قليلًا، فقد كانت أشواقها نحو الشرق الأوسط أكثر، وقد ذكر المؤلف أن المهدية ساندت القبائل ذات الأيدلوجيا العربية الإسلامية في بحر الغزال وأعالي النيل، ويذكر المؤلف أنه لاعتماد المهدية على الرزيقات ولضعف الإسلام في دينكا ملوال لم تتيسر مساندة الدينكا للمهدية، وقد واجهت دينكا ملوال الكتائب التي أرسلها المهدي للتجنيد في غرب بحر الغزال، أما في شرقه فلقيت قبولًا، واشترك بعضًا من دينكا ملوال مع القوات التي ذهبت لقدير، وقد ذكر المؤلف أن بعضهم أسلم، لكن تخلى عن الإسلام بعد عودته إلى منطقته، واستمر بعضٌ منهم آحر في اعتناق الاسلام، ويذكر أن فترة المهدية شهدت تدهورًا في العلاقات بين دينكا ملوال والرزيقات، نتيجة للغارات المستمرة، واتخذت الحرب أبعادًا جديدة بدخول ثقافة خطف الأطفال والنساء، بقصد الاستيعاب ثقافيًا، وهنا يوضح المؤلف أن الاختطاف ليس رقًا بالمعنى المفهوم، بل استيعابًا ثقافيًا، ويذكر أن الدينكا المختطفين عند العرب يصبحون عربًا بعد فترة، والعرب المختطفين عند الدينكا يصبحون دينكا بعد فترة، وقال إن ثمة سيدات من قبيلة الرزيقات متزوجات من الدينكا، وكن من قبل أسيرات  عند الدينكا، فقام من أسرهن ورعاهن بتزوجهن لرجال آخرين، كما أنه لم يُقتل الرجال الذين تم أسرهم في المعارك بل تم استيعابهم، ومن جانب الرزيقات فقد عملت القبيلة أيضا على تذويب المختطفين من أبناء الديكا والذين أسروا في المعارك في مجتمع الرزيقات، ويحرم عندهم الإشارة إلى أي فرد أصوله من الدينكا، يحرم ذكر ذلك، وذكر المؤلف أن قسم (أم أحمد) من الماهرية الذين يقطنون في أبو مطارق بعض عائلاتهم تعود أصولها إلى الدينكا. وذكر المؤلف أن جدته الكبرى قد تم خطفها مع بنتين توأم، حيث أخذت إلى موطن الرزيقات، في مطلع القرن التاسع عشر، ولا يدرون عنها شيئًا من حينها. ولي أن أقول إن الاستيعاب الثقافي أخطر من الرق، حين أنَّ المسترق يتحين فرصة للهرب والعودة إلى دياره وأهله، أما المستوعب فيكون ملكيًا أكثر من الملك كما قال ضيو بعبارات أخرى أنه ربما  صار من المقاتلين ضد أهله، وبعامة أجد قبائل الدينكا من أكثر القبائل تمنعًا على الاستيعاب في الأحوال الطبيعية، ومن أكثرها محافظة على لغتها وثقافتها، مقارنةً بكثير من القبائل الإفريقة السودانية الأخرى، فإننا نجد قبائلًا بحالها قد تمحلت نسبًا عربيًا، وقتلت لغتها خنقًا، وكانت إلى  وقت قريب تنسب إلى النسبة الإفريقية وتفصح بلسانها الإفريقي، وهي ظاهرةٌ جديرة بالتناول والدراسة.

وعن فترة الحكم الثنائي يقول المؤلف إن المستعمر استبدل الحكام العسكريين بمدنيين في الأقاليم الشمالية، وهذا ما لم يفعله في الأقاليم الجنوبية، وأعطيت السلطات الأهلية للعائلات التي تولت السلطة تحت الحكم التركي المصري، ومنح السلاطين سلطات قضائية وإدارية محدودة، وقد تميز العهد الإنجليزي المصري باتصالات منتظمة واجتماعات مستمرة سنويًا بين القبيلتين

وتحدث المؤلف عن اتفاقية (سافيل بارغس واتسون  1918)، وزعم أن الإنجليز وضعوا هذه الاتفاقية للسماح للرزيقات برعي ماشيتهم لمسافة 40 ميل جنوب نهر كير/ بحر العرب، وهذه المسافة تقع داخل أراضي دينكا ملوال كما يقول المؤلف، وقال إن  قيادات دينكا ملوال رفضت الاتفاقية، وثار الزعيم الروحي أرياطديت عليها سنة 1921. وفي سنة 1924 عدلت الاتفاقية باتفاقية (مونرو وايتلي)، لكن المؤلف لم يضع لنا تلك التعديلات، إلا أنه ذكر أن اجتماعًا انعقد في سفاهة بتاريخ 24 مارس 1933 حضره حاكم إقليم دارفور، وحاكم إقليم بحر الغزال، ذكر فيه أن هذا الاجتماع كان بسبب عدم رضا دينكا ملوال عن اتفاقية (مونرو وايلتي) ، وقد وضح في الاجتماع أن زعماء دينكا ملوال لم يستوعبوا أحكام اتفاقية (مونرو وايلتي) القاضية بامتداد حدود الرزيقات جنوب النهر بأربعة عشر ميلًا، فقد ظنوا أن حدودهم كانت شمال النهر لا جنوبه. وعقدت جلسة في 29 مارس سنة 1935 شُرح فيها للمرة الأولى لسلاطين الدينكا بنود الاتفاقية التي فرضت عليهم منذ سنة 1924 وقد عبر السلاطين حينها عن عدم قبولهم بها. اعقب ذلك سلسلة من الاجتماعات التي تتبعها المؤلف لحل المشكلات التي كانت تنشأ بين القبيلتين

ذكر المؤلف أن الجانب الإيجابي الذي ميز الصراع هو أن مسألة الدين لم يتم اعتبارها جزءً من الصراع، فلم تكن الصراعات الدينية موجودة بين القبيلتين أثناء الحكم الثنائي، أي أن الدين لم يكن خلف تلك الصراعات أو محفزًا لها، ويذكر المؤلف أن الصراع الديني بين القبيلتين بدأ بعد استقلال السودان، وهذه إشارة مهمة تنبئُنا أننا في حالة الاستعمار كنا أكثر تسامحًا واستيعابًا للدين وقضايا الوطن، وأن الحكومات الوطنية لم تكن من المسؤولية بحال، وأشار المؤلف إلى طروء بعض حالات التثاقف التي ظهرت بين المجتمعين كظاهرة ختان الأولاد. يتبع


gasim1969@gmail.com

 

آراء