عرض كتاب: سياسة التمييز الإثني في السودان، وتداعياتها على انفصال جنوب السودان

 


 

 


للدكتور ضيو مطوك

(1)

د. قاسم نسيم

بتاريخ الاثنين 15 يناير المنصرم، نظمت دار النخبة للطباعة والنشر والتوزيع، والمنتدى الثقافي المصري ندوةً لمناقشة وتوقيع كتاب سياسة التمييز الإثني في السودان وتداعياتها على انفصال جنوب السودان، للدكتور ضيو مطوك ديينق وول وزير الاستثمار بجمهورية جنوب السودان، وهو ما نحن بصدده هنا، وصاحبه كتابٌ ثانٍ للمؤلف بعنزان "الرعي...الحدود والنزاعات، السلطة وإدارة النزاعات في ال 14 ميل".

كان التدشين حدثًا يليق بعظم المولود، ولا أدلَّ على ذلك مشاركة قامات علمية لا بالحضور تشريفًا، بل بالتقديم والعرض والنقاش، على رأسهم البروفسور سيد فليفل عميد معهد الدراسات الإفريقية بالقاهرة السابق، وأبرز الخبراء في الشأن الإفريقي، والسفير صلاح حليمة مساعد وزير الخارجية المصري السابق، والدكتور مختار غباشي نائب رئيس المركز العربي للدراسات السياسية والاستراتيجية، والدكتور حامد البشير، حاكم ولاية جنوب كردفان السابق،  وآخرين، وأدارت النقاش الأستاذة أسماء الحسيني، مديرة تحرير صحيفة الأهرام، وامتلأت القاعة بالحضور المميز، وهذا الاحتشاد إنما يدل على عظم الكتاب وجدته وطرافته، ولم يقف الأمر على هذا، فقد شهد جناح النخبة بمعرض القاهرة الدولي حسب الإفادة المسجلة لمسؤول الجناح اقبالًا لافتًا بحثاً عن كتاب سياسة التمييز الإثني حتى أن الدار صارت تزود الجناح به يوميا، لتغطي الطلب عليه منذ اليوم الأول، وقد أكد مسؤول الجناح بالمعرض إن الكتاب دخل قائمة الكتب الأكثر مبيعًا.

هذا البروز الذي جرى لأحد مفكري جنوب السودان، مرَّ هنا في بلده دون أيِّ تنويه، وهذا شأن السودانيين بعامة، دأبٌ هم فيه شِرْكة، لا يحفلون بنتاجهم ولا منتجيهم، وسابثًا، لم يأبه أحد بعبقري الرواية الطيب صالح إلا بعد أن نُوِّه به خارجيًا، عليه جاء هذا المقال، ألقي فيه الضوء على الكتاب، وأعرِّف الناس به، خاصة وأني قرأته عدة مرات، ذلك أني قمت بمراجعته بعد ترجمته من اللغة الإنجليزية، تلك الترجمة التي قام بها الأستاذ دينقديت أيوك.

يقع الكتاب في (332) صفحة من الحجم الكبير، بغلاف أسود، ولعل الكاتب وفِّق في اختيار هذا اللون، إذ أنَّه يدلُّ على الجدية التي هي صفته الأساس، فالكتاب في أصله رسالة علمية- سنأتي عليها- ومن دلالات اللون الأسود إيحاءاته بالتمرد والتحدي، ولعلها صفة لازمت علاقة الجنوب بالشمال منذ أوجاع الاستقلال ومخاضاته، ولون خط العنوان الأبيض، وهو لون يترافق عادةً مع السلام والخير والنماء، كذلك يدل اللون الأبيض على بدايةٍ جديدة، وهذا هو شأن الجنوب، بعد أن انفصل عن الشمال، واشترع بداية جديدة لدولته التي اختارها.

وفي غلافه الخلفي وضعت كلمتان خفيفتان تحيط متصفح الكتاب بمحتواه، وتحفز الغافل عنه إلى التنبه، والمتعجل فيه على التريث، أولاهما للمفكر الجنوب سوداني البروفسور فرانسيس دينق، والثانية لي، فأما التي لي فقلت فيها:

"تضمنت هذه الدراسة ثلاث نبوءات، صدقت كلها، وبتفاصيلها، هذا ما نجده عزيزًا في أكثر دراساتنا الحالية، وإنما أقْدَرَ كاتبنا على ذلك أصالةُ بحثه وصرامةُ منهجيته،وحدَّةُ استبصاره، فلم يفزع الكاتب فيها إلى أرواح أجداده، استكناهًا، إنما هي منهجية اتبعها، وبصيرة تملكها... هذه دراسة نحتاجها نحن أبناء إفريقيا، والعرب للتملي فيها قراءةً لواقعنا، ولتمثل نتائجها، وتطبيق توصياتها، إذ أنها تعالج إشكالاتنا، متمثلة في أكثر البلدان شخوصًا فيها، وتأذيًا منها حتى شطرتها شطرين، ولا تهدأ ثائرتها بعد توقد فيها الحروب، إنه السودان الذي جمع البعدين الإفريقي والعربي، وهذا الجمع أعقد أكثر من مشكلاته"

الكتاب يتكون من ثمانية فصول، ومقدمات، وخواتيم شملت استنتاجات وتوصيات وجداول. وهو في أصله كما قدمت أطروحة دكتوراه، نال بها الباحث درجة الدكتوراه من مركز دراسات السلام والتنمية بجامعة جوبا. وطبع الطبعة الأولى سنة 2011 قبل الاستفتاء، وصدر باللغة  الإنجليزية، وهذه هي الطبعة الثانية للكتاب، ولكنها الأولى مترجمة، وقد قمت بمراجعة النسخة المترجمة، مما مكنني من قراءته قراءةً متأنية، عدة مرات.

قدم للكتاب المفكر الجنوبي بروفسور فرانسيس دينق، في كلمةٍ مكتنزة بلغت إحدى وعشرين صفحة، زادت من قيمة الكتاب قيمةً، ومن ثرائه ثراءً، فلم يخفِ فرانسيس إعجابه البالغ بالكتاب، فنعته بالفراده، لما يحمل مؤلفه من مؤهلات، في مقدمتها هذا المؤهل العلمي الذي محضنا كتابه هذا، وكون المؤلف ينطلق من منصة زاوجت بين المراقبة والمشاركة في الأحداث، وما يملكه من قوة استبصار أضاءت له السبيل، وكونه من دينكا ملوال، بل بيت زعامة فيهم، فضلًا عن أنه رجل دولة وسياسة، وأثنى فرانسيس على ما حفَّ الكتاب من عمق، ونوَّه على أن تناولات المؤلف للعلاقات بين دينكا ملوال والرزيقات لا يكتفي فيها المؤلف بمجرد التناول، إنما يسعى فيها المؤلف دائما لربطها بالمستوى الوطني للسياسة بين الشمال والجنوب، والسياسة الطائفة المجتمعية لجنوب السودان.

ويلقى فرانسيس بأضواءٍ على قبائل الدينكا بحكم دراساته العميقة فيهم،  فنعتهم بفخرهم الشديد، والسمو، وسعيهم للخلود من خلال استمرار الذرية ، وتأثير الأموات منهم على الأحياء في ثقافتهم، وذكر أن الأب عندهم يمثل دور العقل، والأم تمثل دور القلب في مجتمعهم، وقد أقرَّ فرانسيس بأن الدينكا كانوا أكثر مقاومة للتثاقف مع العرب، وحتى في حالات التصاهر القليلة اقتصر زواجهم على رجالهم دون نسائهم، وأكد على أن أدنى تداخل عرقي بين الشمال والجنوب مثلته قبائل الدينكا. وأشار فرانسيس أن المقاومة الثقافية التي كانت جاثمة أيام الحرب بين الشمال والجنوب قد قلَّ أوارها بعد الافتراق، ويضرب لذلك مثالًا بطقوس الزواج في الجنوب إذ إنها على الطريقة الشمالية، ويذكر أنه وفي محاضراته العديدة التي يلقيها في جامعات الجنوب ظنَّ أن عليه أن يتحدث فيها بالإنجليزية، كلغة يعرفها الناس، وتعتمدها الدولة كلغة رسمية، إلا أنه فوجئ باستقباله لمذكرات من طلاب تطالبه بالتحدث بالعربيةـ، غير أنه يستدرك ويقول إن ثمة تحيزات ضد العربية تظل باقية، وحتى هذه التحيزات التي يزعمها فرانسيس إذا تأملنا أمثلتها فإننا نجدها جرت في الماضي قبل السلام، وفي ظروف احتراب وقتل. وفي ختام كلمته طرح سؤالًا يقول: إلى أين يذهب جنوب السودان: أجاب أن رؤية السودان الجديد بمساواة كاملة دون تمييز لا تزال تعمل، لكنه ألحق إجابته بقوله: إن الهوية مصطلح نسبي ولا يمكن أن يرتكز فقط على المقابلة بين الشمال العربي الإسلامي والجنوب الإفريقي العلماني، كما كان قي السودان القديم، فيمكن أن تنزل فوارق الهوية حتى على مستوى العشيرة والعائلة، لذا فإن جماعات الهوية الجنوبية المتصارعة الآن، تحتاج إلى عكس مسار تعريفها الذاتي السلبي على أنهم "غير عرب وغير مسلمين" ويستطرد بقوله نحتاج إلى تطوير نظرة إيجابية حول هويتنا الوطنية والقيم الثقافية ذات الصلة، نحتاج إلى فهم القيم الثقافية لكل من جماعاتنا العرقية والإثنية الكثيرة، على المستوى الفردي والجماعي، ويختم بقوله: نحن بحاجة إلى بناء إطار للهوية الوطنية الموحدة استنادًا على إمكانيات ومصادر التعدد، حين يمكن لجميع السودانيين الجنوبيين أن يشتركوا في الشعور المشترك بالانتماء بكل فخر وكرامة، يتبع


gasim1969@gmail.com

 

آراء