عرض مختصر لكتاب “بكرة إن شاء الله: بعض عادات أهل السودان” .. بدر الدين حامد الهاشمي
عرض مختصر لكتاب "بكرة إن شاء الله: بعض عادات أهل السودان"
بقلم: الين اسماعيل
عرض : بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا عرض مختصر لكتاب السيدة الألمانية / السودانية الفاضلة الين اسماعيل "بكرة إن شاء الله: نظرة لثقافة أهل السودان"، والصادر في طبعته الثانية في عام 1986م عن دار نشر ألمانية هي Hundt Druck في مدينة كولون. وكنت قد سمعت عن الكتاب في عام صدوره ولم تتيسر لي فرصة الحصول عليه، إلا أن شهدت الشهر الماضي زوج المؤلفة البروفيسور الماحي إسماعيل (الخبير الموسيقي المشهور ومؤسس معهد الموسيقى والمسرح) يذكره في لقاء تلفزيوني فسعيت للحصول عليه وعرض بعضا مما ورد فيه تعميما للفائدة وسعيا لتتبع ما كتب عن "السودان بعيون غربية".
يلاحظ أن كثيرا من العادات في السلوك وتفاصيل الحياة اليومية السودانية التي ذكرتها الكاتبة في بداية ثمانينات القرن الماضي قد تغيرت جدا في سودان اليوم، مما يجعل كثيرا مما ورد في هذا الكتيب يتطلب المراجعة والتحديث، ولكنه يوفر أيضا موضوعا لدراسة ومقارنة التغيرات الاجتماعية المتسارعة التي حدثت في البلاد في العقود الأخيرة.
المؤلفة حاصلة على الدكتوراه في علم الأنثربولجيا (علم الانسان) من جامعة كولون، وقد عملت لفترات مختلفة بالتدريس في جامعة الخرطوم وبالصحافة.
كاتب المقال
************** ************
هذا كتيب صغير مكون من 90 صفحة (مع 10 صفحات للصور الأبيض وأسود) من القطع الصغير بقلم الكاتبة الألمانية الين اسماعيل، خصصته كما جاء في مقدمتها "لمساعدة الأجنبي الزائر للسودان لفهم أهل البلاد وثقافتهم" ووصفت فيه بعضا من أنماط سلوكهم وتركيبتهم وعاداتهم الاجتماعية ومعاييرهم وقيمهم، وتعرضت لما أعترى المجتمع السوداني من تغيرات وهو "يترنح على حافة التقليد والحداثة" كما جاء في تعبير لصحفي من صحيفة الأسكوتسمان معلقا على رواية "حارة المغنى" لليلى أبو العلا. فالمؤلفة تؤمن – كما قالت- بأن التفاهم بين الشعوب المختلفة لن يتأتى إلا بفهم (وتقدير) ثقافة كل شعب للآخر، ومعرفة واحترام ثقافته وعاداته. ولعل دافع الكاتبة لكتابة ونشر هذا الكتيب كان هو ما سمعته ولمسته لما يعترى الأجنبي الزائر للسودان من حيرة حيال بعض ما يراه ممارسا ومألوفا عند سكان البلاد. بيد أن الكاتبة – وبحكمة وتواضع وذكاء- تتحسب من الادعاء بأنها قد أحاطت علما بكل العادات السودانية رغم طول احتكاكها المباشر بالسودانيين في بلادهم، فسجلت محذرة الزائر الأجنبي أنها لا تضمن أن يتصرف كل سوداني ذات التصرف الذي ذكرته في كتيبها إذ أنه لا صحة للنظرية التي تقول بأن لكل حافز أو منبه في الحياة الواقعية استجابة محددة، وأضافت معتذرة عن التبسيط (المخل؟) بأنه من المستحيل الاحاطة في كتيب صغير كمؤلفها هذا بكل عادات "المجتمع السوداني" وهو مكون من خليط (غير متجانس) من مئات القبائل والمجموعات السكانية يتحدثون بأكثر من 500 لغة مختلفة.
اختارت المؤلف لكتيبها عن عمد عنوانا غامضا للقارئ الأجنبي هو "بكرة إن شاء الله"، يلخص في نظرها كثيرا من أنماط سلوك الإنسان السوداني، ولا مشاحة عندي في أن المقصود هي خصل السوف والمطل والتأني (تقرأ البطء القاتل. كاتب المقال) حتى غدت "إن شاء الله" عند البعض لا تحمل إلا معنى عدم احتمال الحدوث! ويجدر بنا كسودانيين الاقرار بهذه الصفات والعمل على التخلص منها عوضا عن الانكار والغضب على من يتجرأ على ذكرها. تقول المؤلفة في آخر كتيبها أن قصدها من ذلك العنوان الغريب هو "خذ الأمور ببساطة Take it easy " ليس أكثر!
كان الكتيب ثمرة ملاحظات الكاتبة الشخصية بعد أن عاشت لعقود طويلة مع زوجها السوداني في بلاده، واحتكاكها المباشر مع السودانيين والأجانب فيه، وكذلك كان مبنيا على المعلومات التي استقتها من استبيانات ومقابلات شخصية مع بعضا من عامة السودانيين وصفوتهم ومع بعض المسئولين بالدولة كذلك. من أهم ما تناولته الكاتبة أيضا أوضاع بنات جنسها السودانيات في ظل مجتمع تتنازعه بواعث التجديد والمعاصرة من ناحية، وتشده التزامات بقيم وتقاليد محافظة من جهة أخرى.
في صفحات الكتيب الأولى قدمت المؤلفة نبذة تاريخية وجغرافية عن السودان (وأشارت فيه لبدء حركة تمرد جنوبية جديدة اسمها "أنانيا 2"، مدللة على الفترة التي كتبت فيها هذا الكتاب في عام 1983م أو نحوه). عند الحديث عن تاريخ البلاد لم تنس أن تذكر "تجارة الرقيق" وكيف أن شمال السودان بدأ يستقبل فيضا متواليا من "العبيد" من جنوب السودان، وكيف أن كلمة "عبد" لا تزال تستعمل أحيانا في دارج لغة الشماليين العربية للإشارة للسودانيين الجنوبيين. أشارت المؤلفة إشارة مقتضبة لأن بعض المسترقين من جنوب السودان قد وجدوا طريقهم للبيع في مصر وأجزاء أخرى من الإمبراطورية العثمانية، بيد أنه كان من الواجب في نظري أن تتوسع الكاتبة في أمر الرق قليلا، إذ أنه أمر يحرج ويؤرق الآن بال الكثيرين ممن ولغوا في مستنقعه من عرب وأفارقة وأوربيين، أو أن تشير إلى مصدر موثوق في ثبت مراجعها عن تلك التجارة البغيضة. كذلك لم أفهم ما كتبته المؤلفة عند الحديث عن المهدية من أن الخليفة عبد الله وبعد أن تمكن من هزيمة أعدائه "قام باستعدادات لإضعاف مجموعات قبيلة بعيدة عن المركز ….he made preparations to weaken the centrifugal tribal groups " فربما كان العكس هو الصحيح! حفل كذلك ما كتبته المؤلفة عن تاريخ الأحزاب السياسية في السودان قبل وبعد الاستقلال ببعض الأخطاء، وما كان أغناها عن الخوض في كل ذلك في كتيب يهدف لإعطاء الزائر الأجنبي فكرة مبسطة وسريعة عن بعض أنماط سلوك وعادات رجال ونساء شمال السودان. فعلى سبيل المثال ذكرت المؤلفة وفي يسر وجزافية بأن نميري قد حل بعد انقلابه في 25 مايو 1969م جميع الأحزاب السياسية عدا الحزب الشيوعي السوداني، والذي لم يحل بزعمها إلا بعد فشل انقلاب 19 يوليو 1971م! كذلك وصفت ما حدث في 6 أبريل عام 1985م بأنه "انقلاب أبيض بعد أسابيع من المظاهرات"!
من غريب ما ذكرته المؤلفة وهي تصف السودانيين، هكذا جملة واحدة وقولا واحدا، وبتفسير أغرب بأن لديهم "كرامة طبيعية وثقة بالنفس natural dignity and self-confidence " بيد أنها تضيف بأنهم من ناحية أخرى وعند النظر إليهم كشعب، فإن لديهم أحيانا نوع من أنواع عقدة النقص inferiority complex بسبب الاحتكاكات الكبيرة بين الشمال والجنوب!
لعل حدس المؤلفة قد صدق حينما ذكرت بأن سكان جنوب السودان وعلى الرغم من عدم وجود سمات ثقافية مشتركة وبنية اجتماعية واحدة عندهم، فإنهم متفقون على أمر واحد ألا وهو ضرورة قيام دولة موحدة تضمهم جميعا.
اختارت المؤلفة عند الحديث عن المجموعات العرقية في السودان أربعة عناصر تمثل كل واحدة قبائل الغرب والشرق والجنوب والشمال ووصفت ببعض التفصيل عاداتهم وتقاليدهم ولغتهم وما إلى ذلك من الخواص. اختارت الكبابيش (كمثال لقبيلة من الغرب) وأسهبت في سرد بعض عاداتهم في الزواج والطلاق وغير ذلك. ومن طريف ما ذكرته أن العريس عندهم يحرص على أن تكون علاقته جيدة بوالد زوجته، ولكنه يتحاشى ما وسعته الحيلة والدتها (وهو أمر قالت المؤلفة أنه شائع عند سائر القبائل الأفريقية). لخصت المؤلفة أمر الشايقية (كمثال لقبائل الشمال) في صفحتين، ومن ما أثار انتباهي في مقالها هو ما ذكرته من أن الوضع الاجتماعي والعرق أهم بالنسبة للشايقية من الغنى، وضربت لذلك مثلا بالقول بأنهم يعتبرون أن المنحدرين من نسل المسترقين السابقين أقل شأنا منهم رغم أن هؤلاء مسلمين وظلوا يقيمون معهم لأجيال خلت! كذلك أشارت لشيوع الختان الفرعوني في أوساط بناتهم رغم أنه ممنوع قانونيا منذ عام 1946م (وكان مصدرها هو كتاب الدكتورة أسماء الضرير الصادر في عام 1982م). أما القبيلة التي اختارتها المؤلفة كممثلة لجنوب السودان فقد كانت قبيلة الدينكا. قالت بأن الدينكا قبيلة مكونة من نحو 25 مجموعة عرقية مستقلة، يعرفون أنفسهم جميعا بأنهم جينغ jieng (ومفردها جانق jang) ويسمون كل ما سواهم جوور Juur ، وهو لفظ – بحسب ما قالته- لا يخلو من احتقار. ذكرت المؤلفة أن الأبقار تستخدم عوضا عن النقد كمهر للعرس، والذي يتراوح بين 40 – 200 ثورا، ويرتفع المهر إن كانت العروس متعلمة. ذكرت كذلك أن عمر العريس غالبا ما يكون فوق الثلاثين عاما بسبب طول أمد فترة المفاوضات بين أهل العروس والعرس ودخول كثير من أهل الطرفين كوسطاء. أشارت المؤلفة مستعينة بكتاب دكتور فرانسيس دينق عن قومه أن الدينكا لهم رب واحد يسمونه Nhialik، وهم أناس تقليديون يفضلون أن "يتركهم الآخرون في حالهم" ويكرهون تدخل أو دخول الآخرين في أوساطهم خشية ضياع ذاتيتهم التقليدية المميزة. كتبت المؤلفة عن الأنقسنا كممثلة للقبائل في شرق السودان فقالت أن ليس للأنقسنا اسم واحد في لغتهم، وأن اسم "الأنقسنا" هم اسم أعطاه لهم العرب أيام مملكة الفونج. لهذه القبيلة لهجات مختلفة ليست لها علاقة بلغات المجموعات العرقية التي تساكنهم أو تجاورهم. تزعم المؤلفة أن الإسلام والمسيحية لم يصلا بعد لتلال الأنقسنا (كتب هذا القول في بدايات ثمانينات القرن الماضي. كاتب المقال) وتقول معتمدة على كتاب دبليو جيمس عن الفونج والصادر في عام 1969م بأن الأنقسنا لهم ديانتهم الخاصة، فعندهم أن "تل Tel" يمثل الشمس التي يعدونها هي خالق الكون، وأقدس معابد الأنقسنا يوجد في بوننغ قرب وسكا، وعند سكان كل جبل من جبالهم قائد ديني يظفر بالاحترام والتقديس وله دور سياسي أيضا.
عند الحديث عن التعليم في السودان أوردت المؤلفة جدولا عن عدد طلاب المدارس الثانوية من الجنسين في 15 ولاية / محافظة عن كتاب الإحصاء السنوي للسودان لعام 1977م يذكر المرء بما جاء في "الكتاب الأسود" مجهول المؤلف. فذكرت مثلا أن عدد طلاب المدارس الثانوية الذكور والإناث في الخرطوم مثلا بلغ 3508 و2146 على التوالي، بينما بلغ في الجزيرة 6037 و2151، وفي جنوب كردفان 1300 و271 على التوالي وكأنها تلمح لعدم تساوي الفرص في التعليم بين مناطق السودان المختلفة، بيد أنها أغفلت ذكر عدد السكان الكلي في المناطق التي ذكرتها. ذكرت الكاتبة أيضا أنه في عام 1984م وجد أن 80% من خريجي الجامعات السودانية قد تقدموا للعمل في دول الخليج العربي الغنية بالنفط.
أفردت المؤلفة فصلا كاملا من 10 صفحات عن الدين في السودان، أفردت فيه أقساما للحديث عن الإسلام التقليدي والإسلام الشعبوي، والشريعة، وأركان وقواعد الإسلام والعبادات مثل صوم رمضان (والذي تطرقت فيه لبعض أنواع المأكولات والمشروبات التقليدية فيه مثل الحلومر والأبري واللقمة وغير ذلك) والحج والطقوس التي تصاحب العودة من الحج وما يزين به بيت الحاج عند قدومه من الأراضي المقدسة. كتبت أيضا عن المسيحية وعن أن اللورد كتشنر (والذي حكم السودان بين عامي 1898 – 1898م) لم يشجع على التبشير المسيحي في شمال السودان خشية استفزاز المسلمين، بيد أن الحكومة وتحت ضغوط من الرأي العام البريطاني حينها سمحت بالتبشير المسيحي لأول مرة في جنوب السودان عام 1901م. وفي العام الذي يليه قامت الإرسالية الأميركية بفتح أول بعثة تبشيرية لها وسط قبيلة الشلك. والآن (حوالي عام 1984م) يقدر عدد المسيحيين في السودان بمليونيين غالبهم من متعلمي الجنوب. كذلك توجد بالبلاد كثير من الديانات التقليدية المختلفة، والقاسم المشترك الأعظم بين معتنقي هذه الديانات والمسلمين والمسيحيين في السودان هو أن سلوك وتصرفات معتنقي هذه الديانات مرتبط أشد الارتباط بعقيدتهم، وتنصح المؤلفة الأجنبي بتوخي الحيطة والحذر عندما يشاهد تصرفا غير مألوف له من أصحاب تلك الديانات!
في فصل آخر ركزت المؤلفة على البنية الاجتماعية لكثير من السودانيين وعن اهتمامهم الشديد بالأنساب والأصل العرقي، وعن أن الإسلام يمثل "الإطار الهيكلي" لحياتهم، ويعلمهم القبول (السالب) بالقضاء والقدر. تصنف الكاتبة إسلام السودانيين بكل المقاييس على أنه "إسلام ليبرالي" مع استثناء الأصوليين (وذكرت أنها تقصد "الجبهة الإسلامية") والذين وصفتهم بأنهم أقلية متحمسة وذات دافعية عالية ويمثلون حركة فاعلة ونشطة سياسيا.
قدمت المؤلفة في فصل آخر عرضا مختصرا عن العائلة ودورها في السودان، وعن طقوس الزواج والختان (للجنسين) والطلاق فيه مما قد يجده الأجنبي أمورا غريبة غير مألوفة. كتبت أيضا عن التغيرات الثقافية التي اعترت المجتمع خاصة في المدن الكبيرة، والتي تصيب كبار السن من السودانيين بالامتعاض والترقب والخوف، خاصة تلك التي تعد من تأثير الحضارة الغربية. من ما ذكرته الكاتبة – وهي صادقة- ضعف إحساس السودانيين بالوقت وقيمته، وترى أن الأجنبي في السودان يجب أن يتحلى بالصبر كي يتمكن من قضاء أبسط الأمور، فلا سبب يدعو للعجلة، وأن من الحكمة أن لا يفقد المرء كرامته وهو يحاول استعجال أمر ما، فالأمور كلها تؤخذ بتريث وتطويل و"مهلة" حبلها يربط ويفضل كما يقولون. تعتقد الكاتبة إن كثيرا من المنازل ليست بها ساعات (حائطية) وإن وجدت فهي مجرد ديكور. يستخدم الكثيرون الشمس للمواقيت، فإن قال لك السوداني إنه سيزورك في ما بعد الظهيرة فسيزورك في وقت ما بين الساعة الخامسة إلى الثامنة مساء، أو حتى الساعة الحادية عشر ليلا! وفي بعض الحالات قد يزورك دون سبب وفي أي وقت فقط لأنه وجد نفسه بالقرب من الحي الذي تسكنه.
يجد السودانيون صعوبة شديدة في فهم أن هنالك أناسا في هذا العالم "يعيشوا ليعملوا" بينما الحال عند معظم السودانيين أن "يعملوا ليعيشوا"! فالطقس في السودان يعيق معدل سرعة العمل (مقارنة مع طقس البلدان الباردة والمعتدلة الجو). لاحظت الكاتبة أن كثيرا من السودانيين يعافون العمل الذي لم يطلب منهم تحديدا، بينما هو مما يعد متوقعا من العاملين من أمثالهم في المناطق الأخرى، فالموظف مثلا لا ينظف سيارة الدولة التي يستخدمها، والطباخ لن ينظف (من تلقاء نفسه) أرضية المطبخ الذي يعمل فيه، وهكذا. قد يرى البعض في مثل هذه الأقوال الصريحة بعض العنصرية والشعور بالفوقية أو الأبوية، ولكن يجب في الوقت ذاته الاعتراف بأن ما ذكرته المؤلفة في هذا الجانب صحيح ومشاهد ومعلوم لكل من أتيحت له فرصة الدراسة أو العمل في السودان وفي غيره من البلدان.
قدمت المؤلفة بضع نصائح للأجنبي في أمور يومية مثل التحية (بالعناق أو المصافحة أو هز الرأس). مما ذكرته الكاتبة أن الرجل يمكن أن يسأل عن صحة عائلة من يصافحه، ولكنه لا ينبغي أن يسأل تحديدا عن صحة زوجه إذ أنها جزء من "العائلة"! قد تستغرق عملية التحية وقتا طويلا تتعالى فيه الأصوات ويكون مصحوبا بلفتات وحركات معينة، وكل ذلك ينبغي أن يتم قبل الدخول في الغرض الذي أتى الشخص الزائر من أجله! تطرقت أيضا لأمر "الزيارة" وطقوسها ووصفت التزاور في البلاد بأنه من أهم الوسائل لتزجية الوقت وعدته "هواية وطنية / قومية"، وبأنه أمر لا عجلة فيه ولا سرعة، بل يجب أن يتم في تمهل وأناة وبكل الطقوس والشكليات الواجبة، مثل تقديم المشروبات الباردة أولا والتي يعقبها القهوة أو الشاي. تكون أغلب زيارات النساء (المتبادلة) لبعضهن في الصباح بين الساعة الحادي عشرة صباحا والواحدة ظهرا، بينما تكون أغلب زيارات الرجال بين الخامسة والسابعة ليلا، وقد يصر المضيف على تقديم العشاء لزائره إن تأخر الوقت عن ذلك! (صار كل ما ذكر "أثرا بعد عين" عند غالب سكان المدن الكبرى في العقدين الأخيرين لأسباب معلومة. كاتب المقال).
من أطرف ما ذكرته الكاتبة عن عادات السودانيين هو طريقتهم في قيادة السيارات، وهي طريقة أقل ما توصف به هو أنها مروعة (لعل المؤلفة لم تر سلوك السائقين في بعض الدول العربية. كاتب المقال). وتساهم المؤلفة في إنقاذ حياة الأجنبي الذي ينوي الدخول في مغامرة قيادة سيارة في المدينة بنصحه بحس فكاهي بالتالي:
1. لا تثق أبدا في الإشارات الضوئية (إن صادف أنها كانت تعمل!) فيجب أن تعيد النظر كرتين (أو أكثر) في الشارع والشارع المتقاطع معه حتى تتأكد من خلوه من المارة أو الحمير أو الكلاب أو غير ذلك من المخلوقات. ولأن تلك المخلوقات قد تظهر فجأة ودون سابق إنذار فينبغي التقليل من السرعة لأقصى حد عملي.
2. لا تنس أن تركز في التصرفات المحتملة للسائق خلفك والسائق أمامك، فالسيارات في الغالب ليست في أفضل حالاتها، وقد لا تعمل إشاراتها وكوابحها الخ
3. يجب فهم الإشارات الجسدية التي يقوم بها السائقون، فهنالك إشارة تعني "اصبر قليلا" وأخرى تعني "أعطني مساحة لأمر من أمامك" وأخرى تعني "دعني أدخل في مسار العربات أمامك"، ولا تنس أن ما يقوم به السائق أمامك أحيانا من حركات بيده إن هو إلا جزء من نقاش حام دخل فيه مع من يركب بجواره!
من أجمل فصول الكتيب هو تلك الصفحات الأخيرة التي عرضت فيها لصور قامت المؤلفة بالتقاطها في أماكن متفرقة من السودان، فهنالك مثلا صورة لكنيسة في القضارف، وقبة في الأبيض، وبيت متهدم في سواكن، وأخرى لبص كادقلي – الأبيض يقف في الطريق الصحراوي، وصورة لشارع في الجنينة بدارفور. بيد أن أجمل الصور وأكثرها تعبيرا في نظري هي للأطفال خاصة تلك التي كانت لأم تقوم في اجتهاد بائن بتسريح شعر إحدى بناتها وأخواتها ينتظرن دورهن وقد علت وجوههن البريئة بسمات مشرقات.
في الختام لا شك أن المؤلفة قد قامت بجهد مشكور في زمن تثاقل الناس فيه عن الكتابة الموثقة بعد أن انقضى عهد الكتاب الأوربيين الأوائل من ذوي الأغراض (الأكاديمية وغيرها)، ولا ريب أن لهذا الكتيب، على علاته (وأي كتاب يسلم من العلات!) فوائد جمة للزائر الأجنبي للسودان (هذا إذا وقع تحت يده، فالكتاب الآن من الكتب النادرة، ولعل نسخه القليلة التي كانت متوفرة في منافذ البيع الأسفيرية للكتب الجديدة والمستعملة مثل "أمازون" قد نفذت الآن)، ولكن مما قد يؤخذ على هذا الكتيب، كما قد أوردنا في أماكن متفرقة في هذا العرض، التبسيط (المخل أحيانا كثيرة) في شرح بعض الأمور السياسية والاجتماعية المعقدة، والتعميم المفرط في أمور تتباين كثيرا في أقاليم السودان المختلفة. أرى هذا أن الكتيب – وبعد التحديث والتصويب والتقيح والإضافة - يصلح كمقدمة مختصرة للقارئ الأجنبي الذي يرغب في الحصول على معلومات وانطباعات شخصية لسيدة أوربية عاشت في السودان سنين عددا (فهي كما ورد في كتيبها متزوجة من سوداني منذ عام 1957م)، وأتمنى أن تجد المؤلفة أو من تثق به الوقت لتقوم بإصدار طبعة محدثة ومصوبة لهذا الكتيب، تماما كما أتمنى أن نقرأ كذلك في المستقبل القريب للأستاذة جوهرة (جريزلدا) عبدالله الطيب كتابا يحكي عن تجربتها في العيش في السودان، وسيكون ذلك بلا ريب من أمتع الكتب وأغناها في مجاله.
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]