عصر التوثيق: سياحة في عقل وفكر المسرحي عثمان جعفر النصيري

 


 

 


السواح : بدرالدين حسن علي    
أظن أنه عصر التوثيق ، كما يقول صديقي الرائع عبدالوهاب همت ،  وهو يحتاج إلى قدر عال من الحيدة والموضوعية -  يختلف الأمر تماما عن تلك الشبابية والحماسة والإنتقاد اللاذع ، قد يكون مشروعا وربما  غير مشروع ،  ومن هنا تأتي أهمية ما أقول
وسأدخل في الموضوع بدون فذلكة تاريخية رغم أهميتها ، في يوم من تلك الأيام الجميلة وتحديدا في أوائل السبعينات من القرن الماضي وبعد مناقشة ساخنة مع الراحل المقيم الفكي عبدالرحمن وكان يومها مدير المسرح القومي بأم درمان ،  أعربت له عن رغبتي في الإنضمام إلى أسرة المسرح ، أبدى موافقته الكاملة على ذلك ، وفي اليوم التالي أنهى إجراءات تعييني موظفا في المسرح القومي بأم درمان . والذي تم في نفس يوم تعيين صديقيّ اللدودين صلاح الفاضل ومحمد شريف علي ، الأول وصل إلى "  رتبة " مدير إذاعة أم درمان والثاني وصل إلى " رتبة " مدير المسرح القومي .
كنت في تلك الفترة أقرأ أكثر من كتاب في اليوم الواحد عن المسرح ، لدرجة أن والدتي -  الله برحمها  -  كانت عندما تخاطبني تقول لي : أسمع يا مسرحنجي إنت !!!!
ويبدو أنني كنت محظوظا ، فمنذ الأيام الأولى لي في "الحوش" - الإذاعة والتلفزيون والمسرح -  تعرفت على شخصيات  هامة ولكن سأحدثكم عن الشخصيات التي تعرفت عليها في المسرح مثل : عثمان جعفر النصيري ، مكي سنادة ، هاشم صديق ، المرحوم عوض صديق ،  صلاح تركاب ، تحية زروق ، فتحية محمد احمد ، أنور محمد عثمان
الريح عبدالقادر ، محمد شريف علي ، عبدالرحيم الشبلي ، بدرالدين هاشم ،  المرحوم علي عبدالقيوم ، المرحوم عوض محمد عوض ، اسماعيل طه ، المرحوم الفاضل سعيد ، عثمان قمر الأنبياء - ومجموعة التمر المسوس  - عثمان أحمد حمد " أبودليبة " ، حسن عبدالمجيد ، عزالدين هلالي ، الطيب المهدي ،  صلاح قولة ، عمر براق ، ،  وأيضا سأحدثكم عن د. يوسف عايدابي ،د.  خالد المبارك ، السر قدور ، المرحوم أبوالعباس محمد طاهر ، محمد رضا حسين ، علي مهدي ، الهادي الصديق ،  فتح الرحمن عبدالعزيز ، ناصر الشيخ ، منى عبدالرحيم ، فايزة عمسيب ، نادية بابكر، سمية عبداللطيف   وآخرين .

عثمان جعفر النصيري
عثمان جعفر النصيري أو أبوعازة  كما يحلو لي أن أناديه ، أكثر ما لفت إنتباهي فيه أنفه الكبيرة التي تشبه أنف الكاتب و الشاعر الفرنسي الشهير إدمون روستان ها ها ها Iam joking 
بالمناسبة أنا قرأت روايته المعروفة سيرانو دي برجراك التي ترجمها الرائع مصطفى لطفي المنفلوطي ، وما زلت أذكر روكسان ابنة عم سيرانو ذات الجمال والذكاء والثروة
انا لا أكتب سيرة ذاتية لعثمان جعفر النصيري وإلا لكتبت عن الجبهة الديموقراطية بجامعة الخرطوم والمسرح الجامعي وأباداماك ، وإنما أكتب عن أهمية النصيري للمسرح السوداني ، فالنصيري كاتب مسرحي ومخرج  جيد ،  ومحاور  ومنظر بارع جدا ، لماح ، قلب كبير ونادرا ما تجده غاضبا ، تقرأ في عينيه الكبيرتين خريطة الوطن كلها ، بمعنى آخر إنسان مفيد جدا ،  وكان يمكن أن يكون مفيدا للمسرح لو استقر به المقام في السودان بعد التحصيل الدراسي ، وقد عايشت عن قرب تجربته للتوثيق للمسرح السوداني من خلال كتابه صغير الحجم كثير الفائدة " المسرح في السودان 1905- 1915 " وكتابات ومقالات أخرى .

ومن الصعب أن يذكر النصيري من دون ذكر سلمى بابكر الريح ، تماما مثل الشاعر الكبير الراحل علي عبدالقيوم وسلمى ، أو محجوب شريف وأميرة الجزولي ، أو مامون زروق ونفيسة ، أو عمر الدوش وأسماء ، أو كمال الجزولي وفايزة ، أو د. عاصم عبدالله خليفة وعاتقه ، أو مامون الباقر ونعمات ، أو محمد رضا حسين وسونيا ،  أو محمد عبدالماجد وحسونة ، أو عمر الخير وسليمة ، أو كمال شيبون وعلوية ،  أو بدرالدين حسن علي وحورية ،  وقائمة طويلة من أعز الأسماء والأصدقاء  يصعب ذكرها كلها ،  وجميع هؤلاء الرجال الذين ذكرتهم يحترمون المرأة جدا ويقدرونها ويعترفون بدورها الفاعل في الحياة والمجتمع .
عثمان جعفر النصيري ذكي جدا و "نضام " ومثقف جدا وموهوب جدا ، وقد شاهدت له عددا من المسرحيات التي أخرجها على أيام المسرح الجامعي بجامعة الخرطوم أذكر منها على سبيل المثال " العجكو " ،  مارا صاد للكاتب الألماني السويدي بيتر فايس والتي قدمها في ذات يوم من الأيام من على خشبة المسرح القومي بأم درمان ، كما تشرفت للعمل معه كمساعد مخرج في بعض المسرحيات أذكر منها مسرحية " مجلس تأديب " من تأليفه وإخراجه ، ومسرحية " مأساة الحلاج " للشاعر المصري الكبير صلاح عبدالصبور .
كان الفكي عبدالرحمن دائم الحديث عن النصيري ، وعندما نجلس سوية لتناول طعام الغذاء يكون موضوع " الونسة " النصيري ، وعندما عرف أنني أحبه قال لي " إنت في السليم " ،  ولكن النصيري وسلمى تركا السودان إلى لندن - وهو موضوع طويل ليس هذا مكانه – المهم تخرج النصيري في كلية East 15 للمسرح وحاول أيضا أن يلحقني بنفس الكلية ولكن ظروفي الأسرية لم تسمح بذلك .
عثمان جعفر النصيري حصل على الدكتوراة عن جدارة وأصبحت كريمته عازة قامة سودانية يشار إليها بالبنان في عموم بريطانيا ، وله أفضال كثيرة على المسرح السوداني منذ كتابه التوثيقي الأول " المسرح في السودان 1905 -1915 " وحركته الدؤوبة في بريطانيا ومن بينها إخراجه لمسرحية " محمود " عن شهيد القرن الماضي محمود محمد طه ، وقد أرسل لي " مشكورا " شريط فيديو يحتوي على المسرحية ، واستمتعت بمشاهدتها ومشاهدة أصدقائي الممثلين . 
إن أكبر مصيبة حلت بالمسرح السوداني -  رغم أنه كان طفلا يحبو -   التدخل المريع لأجهزة الأمن في نشاطه ، وتفسيراتهم " الهبلة " لمضامين مسرحيات تلك الفترة ، وحملة الفصل والتشريد ، والإتهامات الإعتباطية والتصنيف السياسي البليد ،وخطابات ما يسمى بالصالح العام وهي خطابات في غاية الرعونة والسخف ،   إذ لم تمر إلا سنوات قليلة مثلا على نشاط المسرح القومي بأم درمان عام 1967  وبدأت حملة فصل هوجاء وقبيحة كان ضحيتها كاتب هذه السطور وعدد لا يستهان به من المبدعين المسرحيين والذي أدى لاحقا إلى هجرة الكثيرين إلى دول الخليج العربية ،  فقط للنجاة من سطوة الأجهزة الأمنية ، وفقد المسرح قامات كان يمكن أن تضيء طريق المسرح بمصابيح لا تنطفيء مطلقا ، أسماء مثل عثمان جعفر النصيري ، يوسف خليل ، هاشم صديق ، يحي الحاج ، صلاح تركاب ، يوسف عايدابي ،عمر براق " نحن نفعل هذا ...أتعرفون لماذا ؟ "  ومحاصرته سياسيا ثم هجرته ،  محجوب عباس " السود "  ، عبدالرحيم الشبلي " أحلام جبرة "  ،  علي عبدالقيوم ، " حفل سمر لأجل 5 حزيران "  شوقي عزالدين ، ابراهيم شداد " وأول مسرحية تم منعها وهي في مرحلة البروفات – المشي على الرموش -  ، محمد رضا حسين  ، عزالدين هلالي ، عثمان قمر الأنبياء ، وحتى أجانب مثل المخرج الفرنسي باتريس ماري الذي تزوج الفنانة والممثلة الرائعة تحية زروق وأنجب منها أبنتها الوحيدة شيراز المقيمة حاليا في أمريكا بينما باتريس يتنقل بين فرنسا وكندا وأمريكا ،   وقائمة تطول وتطول من أبرز الفنانين المسرحيين ، والسينمائيين  والشعراء والأدباء والكتاب والتشكيليين – حسن موسى وبولا -  والموسيقيين المرموقين . 
مسرحية " ماساة الحلاج " على الرغم من أنها ليست مسرحية سودانية إلا أنها علامة بارزة وهامة في تاريخ المسرح السوداني ، بل أنا أعتبرها ضمير المواسم المسرحية التي إنتظمت في السودان منذ عام 1967 ، والمسرح أصلا لا يعترف بالجنسية ، ولولا ذلك لما قدمت مسرحيات شكسبير – هاملت ، عطيل ، ماكبث ، الملك لير إلخ في جميع مسارح العالم ،  ولأني عملت فيها كمساعد مخرج كما قلت فقد حفظتها عن ظهر قلب أي من الألف إلى الياء ، أو كما يقولون بالإنكليزية From A to Z  ، وكنت جاهزا لتمثيل أي دور فيها إذا غاب الممثل خاصة وقد كنت أعرف كل حركة الممثلين ، وهي تشبه إلى حد ما مسرحية " الحسين شهيدا – الحسين ثائرا " أو " ثأر الله "  ، للكاتب الرائع عبدالرحمن الشرقاوي والتي حظيت بمشاهدتها في مصر عندما أخرجها الفنان الراحل المقيم كرم مطاوع قبل منعها من العرض ، ويثير مسلسها اليوم في مصر جدلا واسعا لن ينتهي عن دور   الفن في عملية التغيير الإجتماعي .
أعود إلى الفنان المسرحي عثمان جعفر النصيري ومسرحه :  مجلس تأديب – مأساة الحلاج وماراصاد .
" ماساة الحلاج " أو قصة الحسين بن منصور " أبو المغيث " ، والذي كما قال عماد البايلي : نبي من الطراز الأول ، رسول وداعية من رتبة السوبر التي افتقدناها منذ زمن طويل ، وتمثل قصته صفحة عار في تاريخ التخلف العربي الأسود ، وكيف استطاعت جموع الماغوغية تحطيم نجم الفكر الأصيل بكل سفالة ووقاحة ، لا تختلف مأساة الحلاج عن مأساة المسيح كثيرا ، فالأثنين يشبه أحدهم الآخر بدرجة كبيرة ، وكان الإختلاف الوحيد فيما بينهما هو الزمان والمكان وتفاصيل درامية أخرى متواضعة تدفعنا للقول بأن الحلاج هو المسيح الثاني !!!
إنني لن أنسى ما حييت مشهد صلب الحلاج بعد محاكمته العبثية في نهاية المسرحية ، عندما سالت دموع الجمهور السوداني كما كانت تسيل دموعي في كل يوم عرض للمسرحية حزنا على ذلك الصوفي المحب العاشق الصادق القوي الذي قتلته مجموعة من الأفاكين المحتالين ، وما زلت أحفظ عن ظهر قلب ما كنا نردده ككورس :


صَفُّونا.. صفاً.. صفاً،الأجهرُ صوتاً والأطول، وضعوه فى الصَّفِّ الأول، ذو الصوت الخافت والمتوانى، وضعوه فى الصف الثانى، أعطوا كُلاً منا ديناراً من ذهب قانى، برَّاقا لم تلمسه كفٌ من قبل، قالوا: صيحوا.. زنديقٌ كافر، صحنا: زنديقٌ.. كافر، قالوا: صيحوا، فليُقتل إنَّا نحمل دمه فى رقبتنا، فليُقتل إنا نحمل دمه فى رقبتنا، قالوا: امضو فمضينا، الأجهرُ صوتاً والأطول، يمضى فى الصَّفِّ الأول، ذو الصوت الخافت والمتوانى، يمضى فى الصَّفِّ الثانى .
كأنما كان النصيري يتنبأ بإعدام كوكبة من أروع السودانيين : عبدالخالق محجوب ، الشفيع أحمد الشيخ ، بابكر النور ، هاشم العطا وجوزيف قرنق وآخرين ، وأيضا كان يتنبأ بإعدام محمود محمد طه وهو في عامه السبعين !!!!!
تلك كانت رسالة النصيري من خلال مسرحية مأساة الحلاج ، المسرح داخل المسرح – برتولد بريخت – أو المسرح الملحمي او كسر الحائط الرابع ، أو مسرح الوعي والفهم والإدراك ،  وكرر نفس الشيء في مسرحية ماراصاد ومحمود فيما بعد .
النصيري قالها عام 1969 أن قصة الحلاج لن تموت ، وما دام هناك من يدعي أنه يحتكر حب الله والحديث بإسم الله سيصلب ألف حلاج
وانا مثل النصيري أحب الحلاج ومارا ومحمود والحسين أيضا !!!!

ماراصاد
شاهدت مسرحية ماراصاد أيام المسرح الجامعي ، وشاهدتها عندما قدمها النصيري من على خشبة المسرح القومي بأم درمان عام 1970 ، وشاهدتها في القاهرة عندما أخرجها الفنان الكبير نور الشريف ، وتعرفت على مترجمها ومعدها الفنان الكبير يسري خميس عندما عملت في العراق ودار حوار طويل بيني وبينه حول مسرحية ماراصاد ، وكان سعيدا جدا عندما عرف أننا قدمناها في السودان ، وحدثته عن النصيري ، المسرحية باختصار تتناول الصراع بين الحرية الفردية والحرية الإجتماعية ومدى التعارض بينهما من خلال شخصية مارا الذي يسعى لتوفير الحرية الإجتماعية وشخصية صاد الذي يشجع الحرية الفردية التي تضر بالآخرين ، وكم كان النصيري رائعا في إخراجه لتلك المسرحية .
ذلكم هو  المسرحي د. عثمان جعفر النصيري .
وبعد أليس من حقي أن أقول أن المسرح السوداني قد إفتقده ؟؟
badreldin ali [badreldinali@hotmail.com]

 

آراء