على شرف الاحتفال باليوبيل الذهبي لرواية الأديب الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشّمال
1967 - 2017
* وأنا طالب في أوائل المرحلة الثانوية في مدينة أمدرمان، أواخر عام 1966، كنت أداوم على زيارة مكتبة أم درمان المركزية، حين وقع بصري على مجلة "حوار" على رف المجلات. كان عدد سبتمبر في عام 1966 يحتوي على قصة طويلة لأديب سوداني إسمه الطيب صالح.
* قرأت أكثر صفحات القصة، وكان عنوانها "موسم الهجرة إلى الشمال" ، وقد شغلت الصفحات من5 من المجلة وإلى صفحة 87. كنت ألتهم سطور القصة لغرابتها ولاختلافها عن أكثر الروايات التي كنت أطالعها ذلك الزمان.
*حين جئت سفيراً إلى بيروت أمثل بلادي فيها، من حسن حظي أن التقيت بشقيق توفيق صايغ رئيس تحرير تلك المجلة ، فحدثني عن ضياع معظم نسخ مجلة "حوار"، ولكن لحسن الحظ بقيت نسخة من عدد سبتمبر الذي نشرت فيه رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" . . لم أصدق حين زارني في مكتبي بالسفارة، وسلمني صورة من الصفحات التي تضمنت كامل الرواية. هاهي معي إلى الآن.
* وأنا أجلس معكم للاحتفاء باليوبيل الذهبي لرواية الطيب صالح، وأحسبه تقليد مبتكر بدأتموه هنا ، وليت ذلك التقليد يشيعّ، فنحتفي بـ"يوبيلات" كل الكتب التي تركت أثرها علينا .
* وأنا هنا أود أن أساهم برسالة افتراضية، كتبها الراوي في قصة الطيب لناقد افتراضي ، أتمنى أن تنصتوا بإمعان لما وددتُ أن أقول عبره لكم. .
مَا قال لي الرّاوي عن مُصْطفَى سَـعيْد..
رسالة إلى أديـبٍ ناقـد
أيّها الكاتب الناقد. .
أزجي إليك مِن التحايا، ممّا يثقل على السّحابِ الرّاحل حِملُه ، إليكَ حيث أنت . .
أطلعني على رسالتك إليه، صديقنا المشترك "مصطفى سعيد"، ولك أن لا تعجب فكوني عندك ذلك "الرّاوي" المُستتر الخفيّ في حكاية "موسم الهجرة إلى الشمال"، فإنّي أعذر تجاهلك وتخطّيك لي في حديثك إلى "مصطفى"، وأنتَ تربك حياته البرزخية، بذكرك رحيل مؤلف قصته إلى البرزخ هو الآخر. تعزيتك لنا مقبولة، على أيّة حالٍ أنتَ عليها في دُنياك، ونحن عليها في برزخنا.
إنّي وَ"مصطفى سعيد" على نقائض واختلافات، وإنْ رأيتني أماثله في عدّة مظاهر وتجلّيات. أرجوك أن لا تغتمّ لعتابي لك، فأنا مِن خَلقِ الرّاحل المؤلف "الطيب صالح"، مثلي مثل "مصطفى سعيد" أيضاً. تحرّى الراحل عن سيرتي، واستمع إلى ما حكيتُ أنا له عن مغامراتي المتواضعة في لندن، بين بردها القارس وحرارة صيفها اللاهبة. جعلني "الطيب" صفيّه، وسمع منّي أكثر ممّا أسمعني هو، عن أسرار حياته اللندنية، وأنا أعرف أنّهُ جاءها صبياً، ثم تفتحت ملكاته الكبرى، خلال العقد الأوّل الذي أعقب الحرب الكونية الثانية، فيما أنا قدِمتُ إلى لندن بعد استقلال البلاد في عام 1956. قصدتُ أن أنبّهك إلى أنّي جئتُ لندن بلا ضغائن . جئتها بلا غضبات . لست مجنوناً عبقرياً، مثل صديقي "مصطفى"، وقد آثر كاتبنا الرّاحل، وبعينه الراصدة وهو مُستخفٍ في هيئة الإذاعة البريطانية في "بوش هاوس"، أن يُبقيني على مسافةٍ من الوقائع التي رواها في روايته "موسم الهجرة"، ولك أن تعلم أن بيني وصاحبنا "مصطفى سعيد"، مسافات زمنية متطاولة، إذ انّي لستُ من مجايليه، كما قد تعلم . لا ولستُ مِمّن عاصروا سنواته في ضباب لندن، على أيام الحرب الكونية الثانية. لندنه التي عرف، غير لندني التي عرفتُ، بعد أن وضعت الحرب أوزارها بسنوات عديدة. برغم هذا البون الزّمني، تجدني و"مصطفى"، صنوين نحيا في ساحات الخيال الذي استنشأنا فيه الراحل "الطيب صالح"، ونعمنا بصحبتكم زماناً، لا سقف له ولا قاع. كثيرون هُم الذين حملوا ملامحي وقتَ أن كان "الطيب" موظِّفاً صوتَهُ ومقدراته الدرامية في "البي بي سي ". أعترف لك أنّ الرجل استنشأني من مجمل ممّن كانوا حوله في لندن، وخبر خفاياهم. أتذكّر أنا "مَنْسِي"، هو رجل لكل المواسم وبلا نظير. نعم. وأتذكّر "على أبوسن" ، جاء لندن بسِمتِ شيوخ عرب "البطانة" في شرق السودان، فعجمَتْ عودَهُ لندن، وصيّرته فارس صولات فارهة، جيئة وذهاباً، بينَ شارع "أوكسفورد" وشارع "بيكاديللي" ، ومن "حي هامبستيد" إلى أطراف "سـوهو". .
*****
يا صديقنا القابع في الضّفةِ الأخرى . .
دعني أصدقك القول: إنّ صديقنا المشترك ، "مصطفى سعيد"، قد ارتبك أوّل وهلة مِمّا ورد في رسالتك إليه، إذْ لمْ يبلغه نبأ رحيلِ من أنشأنا جميعاً في قصته، فهوَ في برزخهِ السّديمي لا تصله من أخباركم أنتم، يا مَن أقمتم في الضّفة الأخرى، غيرُ أخبارِ النُقّاد والمُحلّلين، مروّجي حكايات الزمان. ولك أن تعلم أنّهُ قد أبْهَتهم مَن أنشأنا أول مرّة، فطفقوا يغوصُون غوْصاً عميقاً في الذي عناه كاتبنا، حينَ فصّل لكُم حكاياتنا –"مصطفى" وأنا و"حسنة" وجدتي "بت مجذوب" ، وبقية من عاشوا معنا تلك الحكاية الغريبة - ووجدتم في وقائعها، بين مدن الصقيع ومدائن اللهب، ما لفتَ انتباهكم.
وَلقد حدّثني "مصطفى سعيد"، بعدَ أنْ جمعتنا خلوتُنا البرزخية ، إذ نحنُ سوياً خارج أزمانكم الدنيوية، فمَا عهدته قلقاً كمِثل قلقهِ ، حين اطّلع على بعضِ كتابات مَن كَتبَ عن الرواية، وأسهب في التحليل، وأوغل في التأويل. ولقد جهدتُ أن أقنعه بقولٍ قديم سمعتُهُ مِن أحدِهم: كذبَ النُّقاد وإنْ صدقوا. . ! لقد أزعجه أن يضايق الناسُ من انشأنا، فزعم بعضهم أنّ حيواتنا هيَ من بعض حياته ، وأنّ تجاريبه في دنياكم قبل الفراق، هي مِن مِثل تجاريبنا، بل سمعنا ونحن في غيَابة خيالاتنا، سادرين في برازخنا، أنّ ثمّة من ادّعى أن "الطيب" نفسه هو "مصطفى سعيد"! وكيف يكون هذا - ويا للعجب- "مصطفى" هو نفسهُ الرّجل الذي أنشأه، أي هو "الطيب صالح" بشحمهِ الدنيوي ولحمهِ، حين كان بينكم، كائناً يتجوّل في روايته منذ خروجه صَبيّاً ، وحتى بلوغه آفاق الشهرة الأكاديمية، وقد مازجها بفحولة بدائية، محقونة بتاريخٍ من القهرِ المُستشري. وإني لأذكّرك أن ذلك القهر هو ما ابتدعته أوروبا ابتداعاً للسيطرة على الموارد والثروات الطبيعية في الأصقاع البعيدة. سياسة "التدافع نحو أفريقيا" والهيمنة الكولونيالية تلك، هيَ التي ألهبتْ نار "مصطفى سعيد"، فأردته قتيلاً / حيّاً ، في قريته القَصيّة في شمال السودان. لعنةُ الله عليك يا "ود الريس" ، فقد حمّلتني ما لا طاقة لي به، حتى وأنتَ مُضرّجٌ بدمائك، ونصلُ "حسنة" بين قلبك وخاصرتك . . !
*****
أيّها الناقد الصّديق . .
على قِلّةِ مَعرفتي بالرّجل، فقد أسرني أسْراً عميقاً ، وطافَ خيالي مَعهُ حينَ بهرني في غنائه المخمور مِـن قصائد سنوات الحرب المُهلكة، في تلك الليلة الفريدة، ونحن نقتسم كؤوساً حملته إلى عمقِ تكوينه الحقيقي . هو "مصطفى سعيد" في ليلة سقوط الأقنعة . أحببتُ الرّجل واعتمدته صديقاً ، ورآني هو أيضاً صديقاً يُوثق به. لا أعرف لمَ طافتْ هواجسك حولي، تريد أن تستجلي أمري وإسمي وخلفيتي ، فكأنكَ تحسبني مُدلّساً أو مُزوّراً ، أو في أفضل ظنونك أنّي شبحٌ يتجوّل في القِصّة، بغير هُدى وبلا فعلٍ فيها ، إلّا حينَ يُريد لي "الطيب صالح"، أنْ أتفاعل ، أو انْ اخرج من حيادي البهيّ، دون أن تفضح حقيقة مشاعري تلك الوقائع، وهي تجري من حولي .
لمْ ألحّ على مَن أنشأنا ، أنا و"مصطفى سعيد"، أن يكشف حقيقتي ، فلستُ من صنّاع القصة، ولا من حابكي وقائعها. لا . بالله عليك- ورأفة بي وبدوري المتواضع - لا تتهمني زوْراً بمَا ليس فيَّ ، ولا تلحق بي " شبحية" لا أدّعيها، أو اسطورة لا يشرّفني أن أكونها ، بل إنّي مَحضُ صديقٍ للرّجل الذي أنشأه "الطيب صالح"، قبل أن يلتقي بي ويُنشيء منّي بطلاً ، لا دورَ له في كتاب "الهجرة إلى الشمال"، وقد نشره أوّل مرّة في مجلة "حوار" ولم يخبرني وقتها ، وهي المجلة التي أنشأها بدوره ذلك اللبناني الجسور توفيق صايغ، وأعرف أنّ للطيب صديقاً سودانياً وأديباً ، عمل مستشاراً لمجلس المجلة، إسمه جمال محمد أحمد، لابدّ أن كان له دور في نشر قصتنا عند اللبناني توفيق صايغ. أوّاه . . هذا ما تسمّونه أنتم "وقائع التاريخ"، وما عندنا شيء مثله في البرزخ .
*****
أيها الناقد الصّديق. .
إنّي أحمل إسماً مثل كلّ بني البشر، وقد استولدني في خياله صاحب "الموسم" في كتابه، وظنّي أنّه يعرف إسمي ، غير أنّهُ آثر إخفاءه لحاجة التبستْ عليّ، ثمّ عمّدني بعدها، راوٍ أراقب معه سيلَ الوقائع، قديمها الذي سمعتُ عنهُ، وحاضرها الذي شهدتهُ بعينيّ، وتفاعلتْ معه حواسي جميعها. أرجوك يا صديق، أن لا تُحدّث عنّي بلسان الشكّ والريبة، بل خذني إلى جانبك ، مثلما أخذني "مصطفى سعيد" وفتح قلبه لي ، وإنْ وقع ذلك بعد نحو كأسٍ أو كأسين من خمرٍ حافزة. ما همّك وما ضرّك لو أخفى اسمي صاحبنا الذي كتب عنا في قصته ورحل، فجميعنا في ساحة البرزخ نسعى هذه الساعة، مثل فراشات النور ، وقد نلتقي بك وبملتكَ من النّقاد والمُحللين، فنحظى بسمرٍ فردوسي سيحسدنا عليه ممّن معنا من الملائك . لن تجد بيننا إلّا الإنس السابقين ، أما الجنّ فقد آبوا إلى مخآبئهم بعيداً عن برازخنا. .
أكتب إليكَ وأنا أعرف أنّ صاحبنا الذي أنشأني راوياً في قصته، يسمع همْسي إليكَ الآن، ويكاد يضحك ملء شدقيه ، على أنّي لا أملك أن أصف لك كيف يكون الضحك في البرزخ ، فالسرور وراحة البال، ليسا بمثلما عهدناهما، حينَ كنا في حياتنا الدنيوية معكم . لا. الحال هنا غير حالكم هناك. تعالوا إلينا ، أيّها الصّديق ، وخذوا مِن كتابةِ مَن أنشأنا، جُرعات استدامةٍ وتمائم خلود. .
الخرطوم أكتوبر- 2017
jamalim1@hotmail.com