علي مشارف زوال عصر الوراقين !

 


 

 

عقد في واشنطون العاصمة الأمريكية في مارس2007 مؤتمر (القارئ الصغير )، وقد شهدت قاعات فندق هيلتون فعاليات ذلك المؤتمر الذي شاركت فيه 74 دولة مهتمة بتعزيز مهارات القراءة لدي الأطفال حتي عمر الخامسة عشر وتنمية مهارات التعبير الحر والاعتراف بحقوق هؤلاء الأطفال في التعبير والاستماع لهم.
وتعتبر الصحف اليومية الورقية هي الأداة الرئيسية الفاعلة لتعزيز أهداف ذلك البرنامج ،وذلك لتنوعها وسهولة الحصول عليها بصورة يومية وتعدد المواضيع التي تتناولها والتي قلما يجد الطفل القارئ نفسه خارج الاهتمامات الكلية لتلك الموضوعات .
وقد كان السودان حاضرا في ذلك المؤتمر بعد ان أرست صحيفة الأيام ذلك البرنامج بالتعاون مع اتحاد
الصحف العالمي (WAN) والذي عملت علي تاسيسه في العديد من مدارس العاصمة الخرطوم ومن ثم أفردت الصحيفة صفحة أسبوعية (القارئ الصغير ) تعني بملاحقة هموم وحقوق هؤلاء الأطفال في التعبير بحرية وأثراء ملكاتهم في إطار متكامل من حرية التعبير والنقد والبناء المعرفي المتدرج .
كان المؤتمر فرصة سانحة للتعرف علي آراء التربويين والمختصين وذلك القلق اللامتناهي ازاء مهددات
القراءة لدي الأطفال وقد كان (الإنترنت ) يشكل ذلك (الغول) الخرافي الذي يلتهم ملكات الاطفال وأوقاتهم بما يوفره من برامج ترفيهية وانفتاح فوضوي علي المعرفة التي لا تابه بعامل السن وهي بلا حدود فاصلة مما يتيح للأطفال تناول وجبات معلوماتيه قد لا تنسجم مع أعمارهم او القيم المعرفية
التي تشكل كل مجتمع علي حده ، وهي معارف عابرة يحملها ذلك الاسفير وحيث تبدو الرقابة الفاعلة في ذات الوقت عاملا من أدوات كبت الحريات وقد تقود الي فكرة الاستبداد التربوي ، وفي كل الحالات تظل القراءة حجر الزاوية في تشكيل هذه الأجيال مع كل تلك المخاطر التي يحملها عصر الإنترنت .
كان (القلق) تجاه مستقبل البشرية والذي تمثله القراءة والكتاب بصورة خاصة هو سيد الموقف الذي
سيطر علي كل الاطروحات والنقاشات التي دارت ،والكل كان يقرأ ذلك القلق من زاويته الخاصة والذي لفت نظري في ذلك المحفل المعرفي هو قلق شركات صناعات الورق والناشرين وملاك الصحف من تحديات المستقبل التي قد تقود الي اختفاءالكتاب الورقي او الصحيفة الورقية ولعل ذلك ماجعل هذا المؤتمر تحت رعاية اكبر مؤسسات صناعة الورق النرويجية والتي هي مهددة بالفعل بفقدان صناعتها
بفعل الفضاء الاسفيري ،وقديصبح (عصر الورق) مصطلحا تاريخيا كالعصر الحجري ،خاصة ان التاريخ
يعزز تلك الفرضية .لقد عبرت البشرية بعصور من تطور الكتابة من النقش علي الكهوف والأحجار ،وورق البردي في الممالك الفرعونية، وألواح الطين في بابل القديمة، وجلود الحيوانات في بعض المراحل التاريخية القديمة، وتنقلت الكتابة في وسائلها الي عصر الورق الذي نعيشه الان ،والذي ربما يصبح حالة تاريخية في ذلك التقدم الهائل الذي يشهده هذا العصر في وسائل تقديم المعرفة.
كنت أتأمل حالة الهلع او ذلك (الاستشعار عن بعد)لما يمكن ان تكون عليه الحال في ظل تراجع اعتماد الورق كوسيلة معرفية مرتبطة بالكتاب او الصحيفة او حتي كمصدر دخل للعديد من بلدان العالم ،وكيف ان آلاف العمال سيفقدون وظائفهم ،وستخلو دور المطابع ،وستصبح دور النشر الورقي أطلالاً تاريخية تشير الي عصر قد مضي .
لقد طرح ذلك المؤتمر أسئلة متقدمة اشبه بما يدور عن واقعنا الان عن أزمة (المناخ) ومهددات هذا الكوكب الذي هي قد تبدو مجرد همس في إذن البشرية المندفعة نحو المجول من لدن عقلاء قلقون
علي مصير البشرية .
علينا ان ندرك أن المستقبل القريب سيكون مدهشا ،ففي العام الماضي كان المعلمون يدخلون الي غرف آطفالنا كل صباح في تلك البرامج (التعليم عن بعد)الذي سرعت من خطاها أزمة كوفيد 19،
كانوا دون أوراق وكتب او عطر مميز او طبشور ، وربما دون رهبة او حميمية كتلك التي تتيحها فوضي اللقاءات في باحات المدارس . كانت المدرسة تقتحم دورنا (افتراضيا).
ولن يكون اختفاء الورق كوسيلة معرفية من حياتنا ببعيد ، فقد اختفت حتي أوراق النقد من المحافظ العتيقة وحلت محلها عملات رقمية تتشكل خلف الشاشات وتعزز نظرية (الوهم) النقدي .
يعز علينا كثيرا ان نفتقد الكتاب ورائحته وتأمل المكتبات القديمة والصحف الورقية، وتلك المخازن التي تضم الأرفف التاريخية ومستودعات الكتب .
فقط سيبقي صوت فيروز قادما من اجهزة البث خلف تلك الخزائن الممتلئة بكتب الغابرين
(بكتب اسمك يا حبيبي ع الحور العتيق
تكتب اسمي يا حبيبي ع رمل الطريق
بكرة بتشتي الدني
ع الأسف لمجرحة
يبقي اسمك يا حبيبي
وانا بتنسي )
فلا أخشاب غابات الحور ولا تلك الحروف المنقوشة علي الرمل او خطوط المسند والكوفي علي الورق
بقادرة علي الخلود ،غير انها ستظل إرثا في ذاكرة الانسانية وخطاها المتسارعة نحو المجهول .

musahak@hotmail.com

 

آراء