عندما يكيل الجمال الماعون حتى يتدفق

 


 

البدوي يوسف
16 January, 2021

 

 

تنعش ذاكرتي ، رميات ورباعيات من الدوبيت ، تصلني من حين لآخر ، من صديق محب ومهتم بالأدب الشعبي ، فأبادله مما تيسر لي ، صيده وقيده ، أثناء سباحتي المتقطعة في بحر الدوبيت الواسع والعميق في آن .

نفحني مؤخرا صديقي - الذي يعرف كيف يقطف من كل بستان زهرة - ب "بيتين من الدوبيت " من تلك الرمية الشهيرة التي تشنف آذاننا بصوت الفنان محمد الأمين وهو يبحر مع الشاعر الراحل فضل الله محمد في "زورق الألحان ":

ست البنات يا أغلى من عينيّ
ممشوقة القوام يا الخاتية من الليّـة
عينيك أمات بريقاً لي
كم سلبن عقلى وجهرن كمان عيني
شعرك دفة الليل الما بتبلّو تريـّا
وثغرك فجّة البرق اللي السحابة ام ديّة

تسعفك ذاكرتك برباعية لود الدكيم يشبه فيها جبين ملهمته الوضاء بالبدر ، وشعرها الفاحم بالليل ، وعيونها البراقة بالنجف ، قبل أن يتساءل .. كيف لمجنونها أن يتداوى من ألمه ويسترد عافيته وهي بكل هذا الجمال الآسر :

دمك صافى تحوير المعردب لونك
بدر الكون جبينك والضلمة قرونك
ما دام إنتي زي نجف الخواجة عيونك
كيف يداوى من ألمه ويطيب مجنونك

تستعين بدفاترك .. تستحضر مجاراة ود شوراني للرباعية السابقة بقصيدة كاملة لا تقل عنها روعة ، علق بذهنك الشطر الأخير من أولى رباعياتها العشر وبقي حاضرا متى كان الحديث عن الجمال الوافر :

يا ياقوتة الحضري الحضارمي زبونك
عازة وغالية طلعن في التريا تمونك
عالية أرداف ضامرة هاف وقارن نونك
انكال بالجمال لامن دفق ماعونك

لم يبق ما يقال عن الجمال ..لم يترك الشاعر زيادة لمستزيد .. تبهرك صورة الجمال الذي يكيل الماعون ( القوام) حتي يتدفق ويسيل .. تماما كما أسال الشاعر الغنائي الرقيق أبو آمنة حامد الشعر ذهبا :
سال من شعرها الذهب
فتدلى وما أنسكب ..
وأسال المشاعر جداولا :
جانا الخبر شايلو النسيم
في الليل يوشوش في الخمايل
هش الزهر
بكت الورود
وسالت مشاعر الناس جداول

يبز بشرى الفاضل أبو آمنة ، فيسيل الفرح حتي يملأ "الكبابي" في رائعته التي تغنى
بها الراحل مصطفى سيد أحمد:

حلوة عينيك زي صحابي
عنيدة كيف تشبه شريحتين من شبابي
زي عنب طول معتق في الخوابئ
وسمحة زي ما تقول
ضيوفا دقوا بابي
فرحي بيهم سال
ملا حتى الكبابي

تسلمك سيولة الفرح ، إلى انسياب الحياء والخفر من صوت حبيبة الشاعر الراحل الحسين الحسن ، التى تفشى خبرها وذاع بحنجرة كابلي الذهبية في القرى والحضر متجاوزا الحصون التي أقامها الشاعر ليشبع فضول البشر :
ذكرت حديثك ذاك الخجول
وصوتك ينساب منه الخفر
•••••
تقصد البطانة مرة أخرى .. لترى الجمال بموازين شاعر الدوبيت الصاعد بيتاي ود الضو الذي يستعين بقاموس ود شوراني وينسج على منواله ، ويرسل أشواقه لديار المحبوب مع النسيم كما عتيق " بالشوق يا نسيم أبقالي رسول " ويبقي على حبال الود موصولة وإن لم "يعطف ثانية" :

أرجوك يا نسيم شوقي المواتر ودو
‏برجاك فوق لهيب وأعرف طريقة ردو
‏قول لي المالي ماعون الجمال ﻻ حدو
‏برضو بريدو رغمن عن جفاهو وصدو

يقودك الحديث عن الجمال الوافر والتعلق بالمحبوب وإن جفا ، إلى مجلس الراحل علاء الدين أحمد علي " ود البيه" بحلفاية الملوك فيطربك بتفضيله وتقبله خصام ممشوق القوام الذي لم يجد له مثيلا على وصال ومحنة غيره ، بل ومجاهرته بأن يظل وفيا له في كل الأوقات ويكيل الثناء له رغم جفوته البائنة، لعله يظفر بوصل في نهاية المطاف:

ممشوق القوام الما وجدت نظيرو
خصامو معاي أخير لي من محنة غيرو
جافاني العزيز الكت ديمة نصيرو
هو يسوي الغلط وأنا أسوي كتر خيرو

تزيد صديقك من الشعر الحديث أبياتا ..
تستدعي مناجاة شاعر "الندامى" محمد عثمان عبدالرحيم لحبيب القلب الرافل في ثوب من الحسن دواما ..

ماست الأغصان
لما عشقت منك القواما
تتحدى البان ميلا
واعتدالا وانقساما
وتفوق البدر حسنا
وضياء وابتساما

يذكرك تمايل البان عند شاعر رفاعة حاضرة البطانة ب "تمايح " قصبة أمير شعراء الدوبيت الحاردلو في وديان "أم هبج " ، وإن اختلفت المفردة باختلاف البيئة ، ذلك أن الشاعر - أو قل النص - ابن بيئته ينتقي مفرداته من المحيط الذي يعيش فيه ويعيدها إليه في قالب إبداعي:

ﺍﻟﺒﺎﺭﺡ ﻛﻼﻡ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﺪﻭﺭ ﻳﻔﺮﻗﻨﺎ
ﻛﻠﻮ ﻃﻠﻊ ﻛﻀﺐ ﻋﻘﺒﺎﻥ ﺣﻠﻴﻨﺎ ﻭﺭﻗﻨﺎ
ﺍﻟﺪﻋﺠﺎ ﺃﻡ ﺷﻠﻮﺧﺎ ستة ﻣﺎﻟﻜﺔ ﻋﺸﻘﻨﺎ
ﺗﺘﻤﺎﻳﺢ ﻣﺘﻞ ﻗﺼﺒﺔ ﻣﺪﺍﻟﻖ ﺍﻟﺤﻘﻨﺔ

يعيدك الحديث عن انعكاس البيئة على النصوص الشعرية والمنتج الإبداعي ، إلى العصر العباسي والشاعر علي بن الجهم القادم من البادية إلى بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية يومها ، والذي "تمدنت" مفردته ولانت بعد خشونة إثر إقامته بدار على شاطئ دجلة ، حتى خشي عليه الخليفة المتوكل - والعهدة على الرواة - أن يذوب رقة ولطافة عندما أنشده قصيدته الشهيرة :

عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

تتصيد عيون المها في ضفاف النيل بعد شاطئ دجلة .. تتزاحم القصائد الجياد لعدد من شعرائنا المجيدين الذين أثروا ديوان الشعر السوداني بأجمل الأشعار عن العيون .. تنتقي "قصة من أم درمان" .. أجمل ما جادت به قريحة الشاعر الراحل صلاح أحمد ابراهيم :

عيناك إذ تتألقان
عيناك من عسل المفاتن جرتان
عيناك من سور المحاسن
آيتان
عيناك مثل صبيتين
عيناك أروع ماستين
( هذا قليل )
عيناك أصدق كلمتين
عيناك أسعد لحظتين
( هذا أقل )
عيناك أنضر روضتين
عيناك أجمل واحتين
( ما قلت شيء)

تدلف إلى واحة عبقري سوداني آخر .. إدريس جماع الذي برع في التصوير وأتى بما لم تستطعه الأوائل في الوصف ، وعلى وجه التحديد ذلك البيت الذي طبقت شهرته الآفاق ( نقل عنه بالرواية الشفوية ولم يرد في ديوان لحظات باقية على حد تعبير مرجع في الشعر السوداني ) وتوقف عنده النقاد كثيرا واعتبروه أبلغ ما قيل عن العيون :

السيف في الغمد لا تخشى بواتره
وسيف عينيك في الحالين بتار

تخشى من أن توجه لفاتنة جماع تهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد ، قبل أن يأتيك صوت الفنان الراحل حسن خليفة العطبراوي مذكرا بفتوى صادرة عن الشاعر الأندلسي الحصري القيرواني منذ القرن العاشر الميلادي ، تقضي ببراءة من قتلت عيناه ولم تقتل يده :
ينضو من مقلته سيفا
وكأن نعاسا يغمده
فيريق دم العشاق به
والويل لمن يتقلده
كلا لا ذنب لمن قتلت
عيناه ولم تقتل يده

abahmed2001@hotmail.com
///////////////////////

 

آراء