كيف لا
تسلل اليأس إلى نفس شاب كان طريح مستشفى الخرطوم لمدة أربعة أشهر يتلقى فيها العلاج من أورام ، طمأنه الأطباء بأنها حميدة ، فوضع حداً لحياته بشنق نفسه في نفس المشفى الأسبوع الماضي . لا ندري إن كان دافع الشاب للإنتحار هو اليأس من الحياة عموماً أم اليأس من العلاج ، ولكن فكرة الانتحار في مكان من المفترض أنه يقدّم الشفاء من العلل والأسقام في حد ذاتها فكرة غارقة في تراجيديتها.والإحساس بأن هذا الشاب كان يعاني ألماً معنوياً فاق كل الآلام العضوية التي ألمت به لدرجة يأسه من الحياة كلها لهو شيء يمزّق نياط القلب، ويوقع اللوم على كل مقصّر لم يمد له يد العون ولم يساهم في أن تكون هناك بارقة أمل تعينه على رؤية هذه الحياة بشكل أفضل.
حينما وضع الشاب حداً لحياته كان لا يزال في عمر الثمانية عشر ، فأي بؤس ألم به وأي مرض عضال اقتلعه من صفه الدراسي إن كان ممن يدرسون. وأي شقاء هذا الذي استدرجه إلى المنية إن كان ممن يعملون ليعيلوا أسرهم وأنفسهم .ليس من جدوى عن السؤال كيف وصلت فكرة الموت إلى الشاب وغيره ممن يأسوا في مثل عمره فالموت كحتمية قدرية هو أقرب من إيجاد رد على هذا السؤال . أما كظرف مكاني يتمثل في أن بلادنا العزيزة التي ينهش جسد ناسها العوز والفقر هي أقرب من غيرها لتحقيق هذه الفكرة. ولكن تبقى هذه الأسباب نسبية بين ضحاياها ، كل حسب استعداده لمواجهة أصعب الأزمات وحسب طريقة تقبله لسوداوية الدنيا من حوله ، بأن يستسلم لها أو يحوّلها بصبره وجلده إلى نظرة وردية ترى الحياة في إيجابياتها ولا تتخذ موقفاً سلبياً منها.
"لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس" . إن أردنا تحقيق مقولة الزعيم مصطفى كامل فيجدر بنا السؤال أولاً هل ما يعيشه السواد الأعظم من الناس في السودان مما يمكن أن نسميه حياة بمعناها الحقيقي ، أم مجازاً لشبه أحياء هائمون على وجوههم. فلننظر بكثير من الواقعية إلى حياة العزلة الوجدانية والاجتماعية التي وجد أغلب الناس في السودان أنفسهم فيها مع تراكم السنوات العشرين الأخيرة . وهذه العزلة للبعض الضعيف فقط ، الذين لا يقوون على مجاراة غيرهم ممن يحدّث مظهرهم قبل لسانهم عن نعمة حديثة . فعلى المستوى الاجتماعي دعك من الشخصي لا يستطيع السواد الأعظم استئناف أنشطتهم الأسرية ، حتى أنهم يلوذون بالمشاغل التي لا تنتهي ليعتزلوا الناس . ومن أسباب هذه العزلة إما الخوف الاجتماعي من الظهور بمظهر اجتماعي أقل من الآخرين ، وما يقتضيه هذا الظهور من تكاليف كثيرة ومتجددة تبتديء من الواجب إلى المجاملات وتعاون الناس بين بعضهم البعض . وإما بسبب حقيقي هو اللهاث وراء تحقيق دخل بسيط يعمل على سد الإحتياجات الأساسية للحياة المعيشية ولا يزيد عليها .
إن تأثير قصة انتحار هذا الشاب في نفس القارئ أشد وطأة مما عداها من قصص الانتحار .فبعد ارتفاع نسبة الإنتحار في العالم بدأت التساؤلات تُطرح بغير إجابة شافية سوى ضغوط الحياة التي تؤدي إلى الإكتئاب ومن ثم إلى تحمّل فكرة الموت ليس بإنتظاره وإنما بتعجيل خطواته التي يرى الضحية في إنجازها حلاً مريحاً لمشاكله ومعاناته من ألمه المعنوي .
بشكل عام فقد قدّرت منظمة الصحة العالمية بأن عدد المنتحرين يفوق المليون شخص سنوياً وهو ضمن الأسباب الرئيسية للموت والتي تقع في الفئة الأولى حسب تصنيف المنظمة العالمية .ولنا في السودان بالطبع تقديراتنا الخاصة لتصنيف الأسباب الرئيسية للموت فبالإضافة لحالات الانتحار ، هناك قرابين النيل السنوية ، وحوادث المرور في الطرقات قديمها وحديثها وأخيراً إنضمت وسيلة أخرى تحقق موتاً جماعياً وتنهي حياة ما يقارب المائة شخص جملة واحدة ، هي مادة الإسبرت.
عن صحيفة "الأحداث"
moaney [moaney15@yahoo.com]