تعجيل بحث مسألة عمر المرحلة الإنتقالية أفضل من تأجيله. على قدر المدى الزمني للمرحلة تأتي حمولة السلطة التنفيذية إذ لا ينبغي إلقاء أثقال على كاهلها لا يتيح لها الزمن الوفاء بانجازها. لئن بدا أمر أوان المرحلة الإنتقالية بين يدي الفصائل حاضنة السلطة التنفيذية فإن حسم المسألة في الواقع بأيدي الجماهير صانعة الثورة.نعم هناك فارق بين جماهير الثورة وحاضنة الحكومة. على قدر قناعة الجماهير بأداء السلطة تحصل الحكومة على تفويض "مانديشن" باستئناف مشوارها بغض النظر عن العمر الإفتراضي للمرحلة الإنتقالية أو رغبة الفصائل تجاه الإلتزام بروزنامة المواعيد . تلك صرامة لم تف بها الفصائل السياسية كلها لدى أيٍ من المواعيد في المنحنيات السابقة. *** *** ***
رغم عبور المشهد السياسي السوداني مرحلتي إنتقال إلا أن سمات مغايرة تطبع الراهنة على نحو مغاير عن سابقتيها. في إنتقالية أكتوبر خسرت "القوى الحديثة " معركة التقدم أمام القوى المناهضة للثورة تحت استجلاب " عنف البادية" حسب توصيف البليغ عبد الخالق محجوب. في إنتقالية إبريل أخفقت قوى التغيير في الذهاب بالثورة إلى أهدافها تحت ضغط العسكر الملتبس بالإنضباط الأخلاقي. وراء إنتقالية ديسمبر قوى شبابية مصممة على إنجاز مهام المرحلة الإنتقالية مهما كلفها ذلك من تضحيات. *** *** ***
المشهد السياسي الراهن ليس كما في الماضي. جميع الإحزاب مأزومة بالوهن والتفتت. منظمات المجتمع المدني لم تستعد بعد عنفوانها. قوى الشارع مثقلة بالإحباط. المرء يحار كيف تأتى للحزب الشيوعي اختيار مغادرة حلبة الصراع ودائرة الفعل طوعاً إلى مكانة أقرب إلى شرفات الفرجة أو مقاعد الرصيف؟ موقف مرتبك لحزب أفلح في تسويق شعار مؤتمره الأخير" حرية ،سلام وعدالة " إلى كل جماهير الثورة على تباين أعمار ومواقع أفرادها على جغرافية المجتمع والوطن. كل الأحزاب فقدت قامات من القيادات ذات الكاريزما المغناطيسية. كلها لم تعوض عن ذلك الفقد الفادح. الفصائل الجهوية والقبلية المسلحة ترغب في إعادة تشكيل الخارطة السياسية. لكنها تود إنجاز ذلك بأسلحتها ليس بأدمغتها. لذلك تكابد معاناة الإخفاق في كل خطوة لا محالة . هي تناطح صخرة جماهير مسلحة بمبادئ الثورة وشعاراتها. محاولة تجييش مظهر العاصمة ليست سوى نسخة مستحدثة لـ"عنف البادية". ليس بالعتاد العسكري وحده تُحسم المعارك ، خاصة عندما لا تكون موازين القوى رهينة فقط بثقل الأسلحة . *** *** ***
إذا سلمنا بوضع أوان سلطة الفترة الإنتقالية بين أيدي جماهير الثورة فإن الجماهير تحتكم إلى إنجاز السلطة القابضة ،ليس فقط أداء الحكومة، في حسم المدى الزمني للمرحلة الإنتقالية. رغم أهمية أداء الحكومة إلا أنه ليس معيار رضا قوى الثورة في شأن البت في أوان المرحلة الإنتقالية. الأهم من أداء السلطة التنفيذية مدى نهم القوى السياسية على إنجاز مهام المرحلة. على قدر الجدية في هذا التوجه يتبلور الرضاء العام تجاه السلطة وحاضنتها. *** *** ***
بغض النظر عن شعارات الجماهير وأهازيجهم الثورية مختزلة مطالب المرحلة فإن "التحول الديمقراطي" يبقى المعيار الأساسي لقياس مدى التقدم على درب الثورة. ذلك جهد تتضافر عليه القوى السياسية والسلطة التنفيذية معاً. وفق هذا المعيار يُقاس النجاح في محو مظاهر الممارسات الشمولية. علي إيقاعه يأتي الزهو بالإقتراب من غايات الثورة بما في ذلك حفر مسارات العمل الديمقراطي الآمنة. هناك أعباءٌ ملقاةٌ على عاتق القوى السياسية وأخرى على كاهل السلطة التنفيذية. فتشكيل برلمان الثورة " المجلس التشريعي" مسؤولية تتحملها القوى السياسية ،لا علاقة للحكومة بالتلكؤ الراهن في شأنها. ذلك إخفاق فاضح لا يعين على اليقين تجاه ما بعد المرحلة الإنتقالية. *** *** ***
في ظل " التحول الديمقراطي" تتم عمليات حتمية بغية الوصول إلى نهايات المرحلة الإنتقالية. من ذلك تفكيك قلاع النظام الشمولي وتصفية جيوبه، إعادة بناء الأجهزة الأمنية بما في ذلك إدماج مقاتلي الحركات المسلحة في جيش واحد ذي عقيدة وطنية. لإعادة بناء جهاز الخدمة المدنية أولوية قصوى إذ لا يمكن النهوض بأعباء الدولة الجديدة بالإعتماد على جهاز رثٍ متهالك تركته الإنقاذ. الدولة العميقة ظل لوهم. الإنقاذ حوّلت الخدمة المدنية إلى بئر معطلّلة إذ اختلقت جهازا موازياً وصولاً إلى مآربها فأمست الخدمة المدنية شبحا يلوّح به النظام لخدمته ،ليس في خدمة الشعب أو الدولة. *** *** ***
على درج " التحول الديمقراطي" يرقى الشعب نحو مدارات الإنتعاش الإقتصادي، السلم الإجتماعي ، استقلالية القضاء، تكريس الحريات وحقوق الإنسان، تمتين البنى التحتية للخدمات الأساسية بما في ذلك تأمين مؤسسات التعليم ، شبكات خدمات التطبيب، الصحة و البيئة. هذه أعمدة الحياة الديمقراطية المرتجاة. دون إرساء هذه المداميك يصبح طي المرحلة الإنتقالية قفزة إلى الوراء. تلك مغامرة شوهاء تنفتح عليها شهوة مدمني السلطة إذ يحرّضون على الإنزلاق العجول على موزاييك الديمقراطية المبهر إلى مرحلة يكتنفها التباغض، التدابر التناحر حول المصالح الحزبية الضيقة بعيداً عن الغايات الوطنية العايا. *** *** ***
تحت مظلة " التحول الديمقراطي" ينبغي للأحزاب إعادة رص صفوفها المبعثرة، بناء هياكلها التنظيمية ،رسم برامجها وانتقاء كفاءات قادرة على إثراء الممارسة الديمقراطية. من أبرز شروط تلك الكفاءات الإستقامة الوطنية ،نكران الذات بالإضافة إلى المؤهلات اللازمة للمواقع الحزبية والوطنية المرتجاة. ما من حزب يشغل ذاته بمثل هذه القضايا حاليا. كأنما تؤمن كلها بحتمية بذل جهد المقل كدأبها في ربع الساعة الأخيرة السابقة لفتح مراكز الإقتراع. الوقع المعيش يؤكد دونما عناء كم هي كل الأحزاب فقيرة للحد الأدنى من عتاد ولوج أي سباق ديمقراطي. ذلك شرط محوري يندرج بالضرورة ضمن بنود تحديد أوان المرحلة الإنتقالية. *** *** ***
التحول الديمقراطي هوجماع مقومات مطالب جماهير الثورة. الإخفاق في إنجازه إبان المرحلة الإنتقالية يفضح عجز القوى السياسية عن التبشير بتجربة ديمقراطية متقدمة وراسخة. الذهاب إلى تلك التجربة بهذه الروح يعني عودة القوى السياسية إلى ما أسماه " أستاذنا" الراحل منصور خالد" العمه القديم".الطريق إلى التجربة الراسخة يمر عبر إنشغال القوى السياسية بسيادة القانون، التخطيط لتأمين أمن المواطن، سلامته صحته، معاشه ومستقبله. حتى تثبت القوى السياسية جديتها على هذا الدرب فإنها مطالبة بإعادة تجديد قواها الفكرية والتنظيمية. الفصائل المسلحة مطالبة ليس فقط بإلقاء اسلحتها بل كذلك بتغيير عقلياتها من أجل الإندغام في القوى السياسية عبر تحالفات أو تشكيل أحزاب أو كتل سياسية .الثلة الجنرالات مطالبة كذلك بالعودة إلى الثكنات أو التحلل من البزات والرتب العسكرية. المشهد السياسي يعج بفصائل سياسية أكثر مما تحتمل أي تجربة ديمقراطية ناضجة. *** *** ***
هكذا يتضح أن المدى الزمني للمرحلة الإنتقالية يُحسب وفق إنجازات القوى السياسية ليس بناءً على رغباتها . أو هكذا ينبغي. في النهاية الثورة تصبح ثورة بما تراكم من تطورات وليس بتفجيرها.