عُمدة لندن والإسلام السياسي والمواطنة

 


 

 


boulkea@gmail.com
مرَّت الحضارة الغربية بمخاضٍ طويلٍ إستمر لمئات السنين حتى إستطاعت أن تخرج من ظُلمات العصور الوسطى وتسلط الكنيسة ورجال الدين إلى عصور الأنوار والعلوم والنهضة التي لم تجن ثمارها لوحدها بل إمتدت منافعها لتشمل الإنسانية جمعاء وكان على رأس تلك المنافع مبادىء قيام الدولة الحديثة وأنظمة الحكم.
وكان من بين ثمار ذلك الإنتقال ظهور "مبدأ المواطنة" كأساس تنبني عليه الحقوق والواجبات في الدولة بعد أن كانت تلك الحقوق تقوم على علاقة نابعة من روابط الدين والعرق والطبقة الإجتماعية, وبالطبع فإنَّ ذلك المبدأ لم يجد سبيله إلى التطبيق بين عشيَّة وضحاها بل عبر تراكم طويل من التجارب والتحولات المُجتمعية.
ومن ناحية أخرى فإنَّ ذلك المبدأ المرتبط  بنظام "الحُكم الديموقراطي" بملامحه المعروفة والمشتملة على مبادىء التداول السلمي للسلطة والمنافسة الحرة وفصل السلطات وغيرها لم يعُد قاصراً على الدول الغربية بل أصبح توجهاً كونياً تنصُّ عليه العهود والمواثيق الدولية وتقبل به مُختلف الدول في جميع قارات العالم.
قد حُظى نبأ فوز البريطاني المسلم من أصل باكستاني "صادق خان" بمنصب عُمدة مدينة لندن الأسبوع الماضي بنقاشات طويلة في الصحف ووسائل الإعلام بسبب ما أثاره من تساؤلات حول مبدأ المواطنة الذي بات يشكل واحداً من المشاكل الكثيرة التي تعاني منها البلاد الإسلامية أو بالأحرى مدارس "الإسلام السياسي" المُختلفة.
فبينما ترفض تيارات الفكر السلفي الوهابي بمختلف توجهاتها القبول صراحة بمبدأ المواطنة بإعتبار أنهُ يُفسح المجال لغير المسلم لتولي شئون المسلمين إضافة لإيمانهم بأنّ العلاقة بين المسلمين وغيرهم تقوم على رابطة الدين ويحكمها "عقد الذمة" فإن تيار "الإخوان المسلمين" يتبنى مواقف ضبابية متناقضة حيال هذا المبدأ.
وكنتُ قد أشرت في مناسبات سابقة إلى أنَّ المرحوم الدكتور الترابي كان حتى وقت قريب لا يؤمن بسيادة مبدأ المواطنة وقال في مناظرته الشهيرة مع المرحوم فيليب غبوش داخل البرلمان أنه لا يحق لغير المسلم تولي منصب رئيس الجمهورية, ولكنهُ عاد في وقت متأخر وأقر بقبول مفهوم المواطنة ليس من باب الإيمان المبدئي ولكن بذريعة أنَّ المسلمين في السودان أغلبية ولا يمكن أن ينتخبوا شخصاً غير مسلم ليرأسهم.
وما يؤكدُ قولنا هذا هو "حالة الإنفصام" بين "الدستور" الذي هو القانون الأعلى في البلاد وبين  السياسات المُختلفة التي يتبناها نظام الإنقاذ وفي مقدمتها السياسة التربوية وما ينبني عليها من مناهج التعليم والتنشئة.
وحتى يتضح للقارىء الكريم مدى "التلفيق" الذي تنطوي عليه قضية التعامل مع  مبدأ المواطنة ويعكس حقيقة التناقض بين أقوال "الأخوان المسلمين" وأفعالهم فإنني أورد هذا المثال المأخوذ من المنهج التعليمي الثانوي.
جاء في صفحة (69) من كتاب "الدراسات الاسلامية" للصف الثاني الثانوي تحت عنوان "شروط تولي القضاء" ما يلي : ( لا يلي القضاء من يطلبهُ حرصاً عليه إلا من توافر فيه الشروط التالية : الاسلام : فلا يجوز أن يلي قضاء المسلمين والدولة المسلمة غير المُسلم ). إنتهى
كما جاء في نفس الكتاب صفحة (71) تحت عنوان "كيفية التعامل مع الدولة القائمة على المواطنة" ما يلي :
 ( ولغير المسلمين في الدولة بحكم المواطنة المشاركة في الأمور كلها التي لا تخص المسلمين فقط كالولاية العامة لأنها تفرض على المسلمين أن يلتزموا بأحكام الشرع في المسؤولية العامة, ولا شك أنه من مصلحة غير المسلمين أن يكون التعامل على عقد يقوم على الدين فإنَّ ذلك أدعى لإنصافه). إنتهى
هذه الأمثلة تُناقضُ نصوصاً أساسية وردت في الدستورين اللذين حُكمت بهما البلاد منذ مجىء الإنقاذ, فبينما يَحْرِمُ المنهج "غير المسلم" من حق الولاية العامة وولاية القضاء فإنَّ الدستور ينادي بعدم التمييز الديني في الوظائف والولاية العامة.
تنصُّ المادة (21) من دستور 1998 على أنَّ ( جميع الناس متساوون أمام القضاء ، والسودانيون متساوون في الحقوق والواجبات في وظائف الحياة العامة ، ولا يجوز التمييز فقط بسبب العنصر أو الجنس أو الملة الدينية ، وهم متساوون في الأهلية للوظيفة والولاية العامة ولا يتمايزون بالمال ). إنتهى
وكذلك ينصُّ دستور السودان لعام 2005 في مادته السابعة على أن ( تكون المواطنة أساس الحقوق المتساوية والواجبات لكل السودانيين ). إنتهى
لا يجدرُ بدولةٍ يُقرُّ دستورها بمبدأ المواطنة كأساس للحقوق والواجبات أن تُدرِّس أبناءها عكس ذلك وتزرعُ في عقول الأجيال القادمة فكرة الدولة التي تقوم الروابط فيها على أساس الدين بما يفرِّق عملياً بين المواطنين بحيث يتمتع بعضهم بمواطنة كاملة بينما بُصبح البعض الآخر مواطنون من الدرجة الثانية.  
ولكن يبدو أنّ القائمين على الأمر مازالوا يؤمنون بكلام المُرشد المؤسس الذي يقول في "رسالة التعاليم" ( ... والحكومة إسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام غير مجاهرين بعصيان وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه, ولا بأس بأن تستعين بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة، ولا عبرة بالشكل الذي تتخذه ولا بالنوع، ما دام موافقاً للقواعد العامة في نظام الحكم الإسلامي ). إنتهى
وهو الحديث الذي تردد صداهُ فيما بعد في كلمات المرشد الخامس وزعيم تيار القطبيين "مصطفى مشهور" الذي كان قد عبَّر في لحظة صدق نادرة عن قناعات الجماعة عندما قال أنه يجب ( على الأقباط أن يدفعوا الجزية بديلاً عن عدم التحاقهم بالجيش، بالنظر إلى أن جيش الدولة الإسلامية هو عماد الدولة، ولو حارب دولة مسيحية فيمكن أن ينحاز المسيحيون الذين في صفوفه إلى جيش الأعداء ).
نخلُص من ذلك إلى أنَّ  موقف الإخوان المسلمين من مواطنة غير المسلم هو موقف ذو طبيعة إشكالية، فهو من ناحية يتطابق مع الموقف السلفي الوهابي الحاسم باعتبارهم "أهل ذمة"، و من ناحية أخرى فهو  - تحت ظروف سياسية معينة – لا يُمانع في قبول مبدأ المواطنة من منطلق براغماتي وأن يُضمنه في الدستور.
غير أنَّ الأمر الذي يدعو للدهشة حقاً هو إحتفاء عدد كبير من المنتمين لتيار الإسلام السياسي بفروعه المُختلفة بفوز صادق خان وإعتباره إنتصاراً للإسلام بينما هُم يحملون الأفكار والمفاهيم التي ذكرناها والتي تتعارض جذرياً مع تلك التي إستطاع خان بموجبها الوصول لذلك المنصب الهام.
إنَّ النظرة الواقعية المُنصفة لإنتخابات بلدية لندن تقودنا إلى أنَّ فوز صادق خان كان في حقيقة الأمر إنتصاراً "للديموقراطية" وللمبادىء التي تستندُ عليها وفي مقدمتها مبدأ المواطنة حيث يعلم كل من تابع تلك الإنتخابات أنَّ المنافسة على منصب العمدة إنحصرت بين مُرشحيْن من أبناء "الأقليات" أحدهما يهودي والثاني مسلم  ولم ينافسهما جدياً واحدٌ من أبناء "الأغلبية" المسيحية ,بروتستانتياً كان أم كاثوليكياً, وهنا يكمن الدرس المهم.
لم يتردد حزب العمال في ترشيح صادق خان رغماً عن المشاكل الكثيرة التي تتعلق بالإسلام والمسلمين في بريطانيا, ولم يستثمر الحزب المُنافس في تخويف الناخبين من وصول شخص مسلم لذلك المنصب الهام, والأهم من ذلك أنَّ المنافسة الإنتخابية لم تكن بين "الإسلام واليهودية" بل كانت بين مرشحين لحزبين يطرح كل منهما برنامجاً سياسياً يتوسل به لأصوات الناخبين, وتلك هى لعمري المزية الأعظم لمبدأ المواطنة.
قد ذكرتُ في العديد من المناسبات أنَّ النظام الديموقراطي ليس نظاماً مثالياً خالياً من النواقص والسلبيات ولكنه النظام الأفضل من بين جميع النظم التي عرفتها البشرية حتى الآن, ومن أعظم نقاط القوة في ذلك النظام هى قدرته الكبيرة على تصحيح أخطائه وتجاوز أوجه القصور الكامنة فيه وهو الأمر الذي تثبته التجربة يوماً بعد يوم.
وهاهى تجربة إنتخابات عمدة مدينة لندن تُثبت قدرة النظام الديموقراطي الفائقة على تجاوز عوائق الأصول الدينية والإثنية وإدارة التعددية الثقافية في المُجتمعات, وعلى الرغم من أنَّ الدول الغربية مازالت تعاني من الكثير من المشاكل الإجتماعية والسياسية فيما يرتبط بالأقليات إلا أنها تمتلك نظاماً فاعلاً يُمكنها من علاج تلك المشاكل بتكلفة أقل من النظم الأخرى.
ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ مجتمعاتنا الإسلامية لن تستطيع النهوض واللحاق بركب العصر وتخطي حالة الجمود والتراجع الحضاري إلا بإحداث إختراق كبير في "العقل" الذي تم إغلاقه منذ عدة قرون, وبتجاوز مفاهيم العصور الوسطى البالية التي ظلت تسيطر على الفكر الإسلامي وتوجه مساره, وتلك مهمة تبدو مستحيلة في ظل سيطرة المدارس الإسلامية المنغلقة على المشهد الثقافي والفكري في بلادنا.

ولا حول ولا قوة إلا بالله  

 

آراء