غريغور مندل: البستاني الراهب الذي رسب بامتحانات البيولوجيا وأسس علم الوراثة الحديثة

 


 

 

ذات نهار ملتهب من صيف 2001، وأنا محشورة مع زميلاتي بأحد فصول الصف الثالث بمدرستي الثانوية.. كنا قد شارفنا على انقضاء آخر ساعة في ذلك اليوم الدراسي.. الكهرباء غائبة كعادتها، ولذلك كنا نتأهب بفارغ صبرنا لأن يطلق سراحنا لننفض عن فصولنا الضيقة إلى براح الدنيا الممتد.. ولأننا نعلم أن مدرستنا في ذلك الوقت لم يكن بها معلمة لمادة الأحياء (الحصة الأخيرة) بعد أن سافرت المعلمة السابقة وهي تحمل بيدها عقد عمل سخي سيحل كل مشاكلها السابقة واللاحقة كما صرحت هي بنفسها يوم حفل وداعها، لم يعد بيننا وبين لحظات فك الأسر سوى دخول مديرة مدرستنا أو أم الفصل كما يقال على أقل تقدير لتعلن أن الحصة ملغية وأن بإمكاننا مغادرة الزنزانة المدرسية إلى البيوت.. ولبؤسنا.. ما حدث كان عكس توقعاتنا تماما.. دخل علينا شاب متردد في خطوته، يحمل بيدٍ حقيبة موظفي البنوك الجلدية المستطيلة، ويربت بالأخرى على جيب قميصه الأبيض الذي ملأه بما يزيد عن حاجته من "الطبشورات" الملونة التي تكفلت بتلطيخ قميصه بالبقع قبل أن يبدأ الدرس.
وقد تسألني.. ما علاقة كل هذا بغريغور مندل.. أقول لك، أن تلك الحصة التعيسة من ذلك اليوم التعيس تحديدا كانت مدخلي الأول لعلم الوراثة. والحقيقة أنني كثيراً ما عدت بذاكرتي إلى ذلك اليوم خلال الأعوام العشرين الأخيرة.. فحصة الأحياء الأولى هذه كانت منفرة للحد الذي جعلني أقتنع للفور أنني سأسقط هذه المادة من جدولي الدراسي للأبد وأكتفي بالرياضيات الاضافية التي كنت أجيدها واعشقها، وأتوجه بمستقبلي بالكامل صوب عالم الهندسة والتكنولوجيا البديع.. ولكنني بعدها بعام واحد كنت أتجول في اندرلاب جامعة الخرطوم برلومة عنيدة بكلية الطب ألعن سرا وعلنا تسلط الأمهات على رغبات بناتهن.
ذلك المعلم الهزيل الذي لم أعد أذكر إسمه للأسف والذي بدا واضحاً عليه يومها أنه كان يفتتح في فصلنا أول خطوات مسيرته العملية - كان بائس الحظ حقاً.. كان معلمنا حديث التخرج يتحدث بصوت متلعثم لا نكاد نسمعه فظللنا نلاحقه بنظراتنا الحانقة طيلة الدرس.. ولا عجب أنه ولى هاربا عن المدرسة يومها ولم يعد قط.. تاركا لنا على سبورته النظيفة عنوان الدرس مكتوبا بخط مرتجف بالطباشير الاخضر "قوانين مندل - مبادئ علم الوراثة"
تعرفون بالتأكيد مما حدث أنه لا يمكن لأحدانا وقتها أن تعرف عما كان يتحدث الدرس، ولا اخفيكم سراً، فكل من درس مادة الأحياء للشهادة السودانية حتى عام 2003 يعرف تماما مدى تعاسة مقرر مادة الأحياء ورداءة كتابها المدرسي المكتوب الذي تنقصه الحيوية والإبداع ووضوح اللغة والخط. وتحديداً الصفحات العشر التي كتب بها باب الوراثة - مكتوبة بلغة متعبة وأمثلة متعسمة وخط ممسوح في أغلب النسخ، مما جعل لوقع إسم الوراثة لممتحني الشهادة السودانية وقتها تهّيب كبير أمام أسئلتها الغريبة ومسائلها التي يعجز أغلب الممتحنون عن فك شفراتها، ورغبة دائمة لهش سيرة ذبابة الفاكهة (الدروسفيلا) وطنينها المُتَخيل عن آذانهم. (عاش هذا الألم ممتحني شهادة الأحياء ما بين عام 1977-2003 ولا علم لي إذا كانت كتب المقررات الموضوعة بعد ذلك العام قد حسنت من محتوى وصياغة مقرر هذه المادة). وللأمانة لطالما أحسست أنه يتوجب عليّ يوماً ما أن أقدم اعتذاراً تضامنياً لمن تعرضوا لهذه التجربة البغيضة، فقد يكون هذا الاعتذار بمثابة إعادة تقديم ورّدْ اعتبار لعلم الوراثة بهيئتها الجذابة، الرشيقة والحميمة التي هي عليها بالأصل. فقد صرت أعي أنني مدينة لها حقا بعد أن قضيت عدداً لا بأس به من السنوات كدارسة وباحثة تناولت فيها عن قرب دراسة واكتشاف الامراض الجينية النادرة وتشخيصها لا سيما المتلازمات المُسَبَّبة لما نسميه بالاضطرابات المندلية Mendelian disorders المنسوبة لأب الوراثة غريغور مندل نفسه لا غير.
وحين أفكر بالسخرية التي جعلت من ماضي تجربتي الأولى مع علم الوراثة تحمل كل هذا السوء بينما يحمل مستقبل دربي معها كما أطمح صوراً أكثر إشراقا وحتما مزدهرة، أظن أنني على الأرجح - وربما أنتم ايضا- قد "تَمَنْدَلْتُم" واعني بهذا الفعل المشتق من اسم "مندل" اننا ربما قد وقع علينا من الحظ ما وقع على غريغور مندل نفسه.. فهذا البستاني الراهب الذي كان يطمح أن يصير معلما لمادة العلوم بأبرشية صغيرة بمدينة برنو المغمورة بدولة التشيك، عاش مغمورا كما مدينته هذه جاهدا لأن يوصل مستخلصات اكتشافاته البسيطة من تهجين نبات البازلاء بحديقة الدير الذي يقطن فيه إلى مجتمع العلماء الذي كان وقتها يضج باكتشافات معاصريه من علماء الأحياء أمثال تشارلز داروين بلندن العريقة ولويس باستير بباريس المتوهجة.. قد لا تعرفون أن مندل قد قدم طوال حياته لعلم الأحياء ورقة بحثية واحدة فقط لا غير عمل فيها بمثابرة وصبر لمدة 8 سنوات ثم نشرها ولكنها لم تجد من الاهتمام من المجتمع العلمي وقتها ما يُخرج اكتشافاته العظيمة تلك من أدراج المكتبات المغبرة والدوريات العلمية المهملة، فمن سيهتم بنبات البازلاء الممل في نفس العقد الذي صدر فيه كتاب داروين "أصل الأنواع" الذي باع كل نسخه المطبوعة في يوم صدوره الأول.. وكُتِبت عنه مراجعات علمية وفلسفية ودينية كثيرة وما زالت تكتب حتى الآن.. وبرغم أن داروين نفسه وقتها قد عجز عن تقديم أدلة علمية تفسر النظام الوراثي الذي أقترحه بنظرياته الانتخاب الطبيعي وشمولية التكوين، قدمت ورقة مندل إجابات بسيطة وواضحة للسؤال الذي ظل يشغل البشرية لقرون طويلة: كيف يحمل أبناؤنا صفاتنا أو كيف ننقل صفاتنا المظهرية لأجيالنا الممتدة.. وفي هذا الصدد لم يستطع حتى داروين تقديم حل أفضل لهذه المعضلة من مزج اطروحتين قديمتين قدمهما أرسطو وفيثاغورث وظلت تخضعان لنزال علمي وفلسفي لأكثر من ألفي عام.. ومن السخرية حقا أنه لو كان داروين قد قرأ ورقة مندل التي صدرت بذات الفترة الزمنية لأسهم اكتشاف مندل في تطوير نظريته ولتبلور فهمه بصورة أكبر وأعمق لما صرنا نعرفه اليوم في مجال البيولوجيا الحديثة.

لأضع لكم بصورة أوضح ماذا تعني لنا اكتشافات مندل في إطارها العلمي الصحيح ربما عليَّ أن أقدم شرحاً مبسطاً عما كان يفهمه العالم قبل مندل وما صار يفهمه بعده.. باختصار مخل حقيقة.. ولأضع لكم مثالا تقريبياً فإن أطروحة فيثاغورس في القرن الخامس قبل الميلاد تتوقع أنه لو تزاوج أرنب أسود مع أرنبة بيضاء فإن أبنائها الأرانب سيحملون بالكامل اللون الأسود ذلك أنه يرى أن نقل الصفات الوراثية يكون بالكامل مسؤولية الأب دونا عن الأم، بينما توقع أرسطو وفق أطروحته في القرن الثالث قبل الميلاد أن أبناء الأرنبين الأبيض والأسود سيحملون اللّون الرمادي لأن صفات الأبناء تكون مزيجاً متساوياً من صفات أبويهم. وقد ظل علماء الطبيعة يتأرجحون بين هاتين الأطروحتين ما بين مؤيدين ومعارضين لأزمنة بعيدة، وبرغم أن تهجين النباتات قد عرفه البشر منذ عهود الفراعنة فنحن نعلم أنهم كانوا يهجنون الشعير والحنطة والقمح وقد عرف الإنسان في عصور متعاقبة تهجين حيوانات الحظائر والكلاب وحيوانات الصيد والسباق لتحسين نسلها ومدها بصفات جديدة تنافسية، ولكن الملاحظ أن هذه العملية كانت تقوم على قدر معقول من العشوائية فلم يكن من السهل جداً توقع الصفات للحيوانات والنباتات الهجينة إلا بعد ولادتها ومراقبة أدائها، وبرغم أن الأرانب لم تكن تُنجَب دوماً رمادية كما توقع أرسطو أو سوداء كما توقع فيثاغورس، اقترح داروين في منتصف القرن التاسع عشر أن الصفات الجديدة للكائنات غالبا ستنتج صفات عشوائية قد تُشابِهُ أجيالها السابقة ولكن تأثير الطبيعة يملي على أجسامها كيف تطوع الصفات التي ستنقلها للأجيال الجديدة وفق احتياجها لتوائم تغيرات البيئة المحيطة. ووفق أطروحته فإنه يرى أن أبناء الارنبين أعلاه سيحملون صفات جديدة وفق ما تعرض له الأبوان من ظروف بيئية مغايرة وهذه الصفات الجديدة ستحدد قدرته التنافسية على العيش وفق المستجدات المحيطة فتسود الصفات لأجيال متعاقبة إذا كانت تحسن من قدرته في العيش و ستؤول هذه الصفات للزوال بموت حامليها إن كانت تأتي بعبء أو عائق على قدرته التنافسية للبقاء.. وبالرغم من أن داروين وقتها قد أمضى وقتا طويلاً في دراسة عينات الكائنات الحية وصفاتها وفصائلها المتنوعة والتي جمعها خلال رحلته الطويلة بشواطئ أمريكا الجنوبية، افتقرت استنتاجات داروين للتجارب العملية المساندة لتصوره الخاص عن كيفية توريث الصفات الجديدة وانتقالها من جيل لآخر.. وبينما كان مقتنعا وقتها بأنه سيتوصل حتما لاكتشاف القانون الذي سيحكم طبيعة توريث الصفات عبر الأجيال المتعاقبة إلا أنه فارق الحياة قبل أن يصل لأي نتيجة.. وأشك وقتها في أنه عبر منهجه النظري ذاك كان سيفلح في التوصل لإجابات، في مكان آخر شرق القارة العجوز كان الراهب مندل آنذاك قد نال تعليما متواضعاً بالعلوم الحيوية، فهو لم يرتد أي من الجامعات العلمية المرموقة وقتها بل درس كورسات بعلوم علوم النبات والحيوان والرياضيات والفيزياء لمدة عامين بجامعة فيينا وخضع لامتحانين مادة الأحياء لنيل رخصة تسمح له بتدريس العلوم.. ما نعرفه فعلاً هو أن مندل قد رسب بالامتحانين، لكننا لا نعرف إن كان قد رسب بسبب جهله بالعلوم أم بسبب توتره واضطرابه أثناء تأدية هذه الاختبارات، فقد عُرف عنه الانطواء والخجل والارتباك الاجتماعي، لكن هناك أدلة كثيرة على نبوغه العلمي منذ الصغر، فيوهان مندل ابن المزارعين البسطاء نشأ محباً للعلم ولكن محدودية دخل أبويه لم تسمح له بتتبع درب العلم، فما وجد غير الأبرشيات والأديرة مرتعا لفضوله خصوصا لأن حياة الرهبان تحمل عن كاهنة مشقة كسب العيش وتوفر له مكتباتها ملاذا مريحا لمتابعة أهوائه وقراءاته.. ورغم توفر الفرصة لاستكشاف الدنيا خلال سنين دراسته بڤيينا فقد استعجل بالانصراف عنها بعد ان فشل في نيل إجازة التعليم ليعود لدير مدينة برنو مجددا راهبا ومدرساً بديلاً. ليس لدي أي شك أن برأس مندل كانت تدور ذات الأسئلة التي تشغل بال كل البيولوجيين آنذاك، ولكنه بدل أن يغوص مندل بتقديم أطروحات نظرية من خلال مراقبته مثلما فعل نظيره داروين، خاض مندل تجربة مختلفة تماماً.. عبر عملية مؤلمة وطويلة دامت لثمان سنوات، قام داروين بتهجين فصائل مختلفة من نبات البازلاء، تحمل صفات مظهرية معينة كالطول ولون الأزهار وشكل ولون الحبوب والثمار.. ووجد أنه عندما يهجن نباتات بازلاء طويلة ببازلاء قصيرة تنبت في الجيل الجديد بازلاء طويلة فقط.. وقد أشار في تفسيريه لهذه الظاهرة أن هناك صفات قوية كالطول تستطيع أن تسود وتطغى في الهجين الجديد (صفة سائدة) بينما تتنحى وتنسحب الصفات الأقل قوة كالقُصر من الهجين الناتج (صفة متنحية) ولا علاقة لهذه الصفات بنوع الوالد، أباً كان أو أماً. كما لاحظ أيضاً أنه عندما يهجن نبتتين من الجيل الهجين فإن الصفة التي تنحت واختفت بالجيل الهجين السابق تعود للظهور مجدداً ولكن بنسبة أقل. كانت هذه الملاحظة في حد ذاتها اكتشافا يرد بوضوح على تساؤلات فيثاغورس وأرسطو.. ولكن مندل بدقته المتناهية، أراد أن يحسب لنا بالضبط كم من الهجين سينتج لنا حاملاً صفاته المتنحية وكم سيحمل صفاته السائدة.. وقد تطلب عمله المضني لكي يحسب لنا هذه النسب والاحتمالات بدقة أن يعالج ويحلل كماً هائلا من البيانات الاحصائية.. وأن يزرع 28 ألف نبتة بازلاء ويجمع 40 ألف زهرة ويشق بيديه ما يقارب ال 400 ألف بذرة منتجة كلها من حصيلة عمله بالزراعة في مساحة بحديقة الدير تمتد أبعادها في 6x20 متراً أمام شباك حجرته بالدير. يكرس فيها ما يقرب العقد من عمره، ليهجن أجيالاً متعددة ومتعاقبة من فصائل مختلفة من البازلاء. ولو استخدمت لكم هنا مثال الأرانب الأسبق، فإن مندل لم يتوقع لنا كيف ستكون صفات الأرانب الهجينة كما فعل سابقوه، بل قدم رصدا إحصائياً دقيقاً لنسبة الأرانب الوليدة وصفاتها التي نتجت من تزاوجها مع الأجيال المتعاقبة. لكم أن تتخيلوا سيداتي سادتي مقدار الدقة والصبر والملل الذي قد يتحمله عمل من هذا النوع، ولا أظن أن أحداً آخر غير مندل كان بمقدوره تحمل كل هذا العمل، وقد قرأت أيضاً أنه صرح بوقت ما " أن الأمر يتطلب حقاً بعض الشجاعة للتصدي إلى عمل بهذا الإمتداد" والحقيقة أن بحثه لم يتطلب شجاعة وحسب بل صبراً وقدرة تحمل وعزيمة perseverance لم تهتز بمضي السنين. ليس هذا وحسب، بل تخيل أن تبذل مجهوداً عظيماً لتجيب عن أسئلة أرّقت البشرية لألفي عام، وعندما تتوصل لإجابة مقنعة وبالأدلة القاطعة الواضحة لا تجد من بين زملائك من يسمعها منك.. في الواقع نشر غريغور مندل ورقته العلمية بدورية تهم علماء النبات، وقدمها بمحاضرة بقاعة متواضعة لجمهور يقل عن 40 شخص أكثرهم من المزارعين المحليين لا العلماء. لم يفهم أحد من الحضور وقتها كيف تجيب تجاربه الطويلة في تهجين البازلاء عن أسئلة الوراثة المعقدة، وربما تململ المزارعون يومها من سماع الأرقام والحسابات التي طرحها هذا الراهب. راسل مندل أغلب علماء الأحياء وقتها يطلعهم على استنباطاته المهمة، ولكن لأن تقديمه لها بورقته لم يكن وفق تقاليد البيولوجيا المعروفة آنذاك، فهو في الحقيقة لم يكن ملما بها بصورة كافية، وإنما هي حدة ملاحظته ودقة أرقامه ومهاراته كبستاني قد أعانته للتوصل لنتائجه، ولكنها لم تعنه كثيراً في اقتحام أبواب مجتمع العلماء المنيعة واقناعهم بقراءة ورقته العلمية.. واكتفى غالبيتهم بحشرها في مكتباتهم أو تأجيل الاطلاع عليها لحين إكمال أعمالهم الأكثر أهمية.
يعتبر علم الوراثة Genetics الذي ولد فعلاً في بدايات القرن العشرين بعد إعادة اكتشاف ورقة مندل المدفونة، هو من أكثر وأسرع العلوم تطوراً في العصر الحديث، فقد استفاد من التقدم التكنولوجي بمجالات مختلفة ليضع أمامنا فهماً أعمق لطبيعة أجسادنا ولخصائص الحياة وكائناتها المختلفة، المتواجدة الآن والمنقرضة، بل وتصوراً أدق عن وظائفنا الحيوية ومسببات الأمراض الشائعة كالسكر والسرطان وأمراض أقل شيوعا كتشوهات الأجنة النادرة مثلاً.. وقدم حلولا عبقرية بمجالات الزراعة والرعي وصناعة الدواء وإجابات عن حقب غير معروفة بالتاريخ الطبيعي، ومقاربات بعلوم الاجتماع والأنثروبولوجي وحتى الاقتصاد السياسي. لذلك ما زلت أتعجب أحيانا، كيف لمعلمي مادة الوراثة أن يدخلوا فصول الدرس متلعثمين ومترددين، فإن المتوقع حين يدخل أي شخص ليسرد مثل هذه القصة المدهشة يكون أقرب بدخول ارخميدس بلاط ملكه صارخاً وجدتها.. وجدتها. أو على الأقل كحال بيتسون العالم الذي أعاد اكتشاف ورقة مندل عام 1900 وكرس أعواما عديدة بعدها يبشر بنتائجها في قاعات المحاضرات ويقدم مفاهيم عملية على صحة نتائجها ويفند حجج منتقديها.. لم يقدم بيتسون حقيقة أي اضافة علمية على علم الوراثة سوى انه أطلق عليها الاسم Genetics العلم الذي يهتم بدراسة المادة الوراثية وانتقالها من جيل لآخر، والجين Gene الوحدة الوظيفية التي تحمل الصفة الوراثية وتعبر عنها، مصطلحان مازلنا نستخدمها حتى الآن. وأنه عرفنا على شخص يدعى غريغور مندل.
استحق غريغور مندل الذي لم يُقرأ ويُفهم عمله حقا إلا بعد قرابة الأربعين عام بعد نشره لبحثه أن يسمى لاحقا و بإجماع كبير من المجتمع العلمي في القرن العشرين بأنه الأب المؤسس لعلم الوراثة الحديثة.. بعد أن قلب علم الأحياء رأساً على عقب ومات دون أن يعرفه أحد حقا، تاركاً إرثا علميا من ورقة بحثية واحدة من 41 صفحة كتبت باللغة الألمانية ومعنونة باسم رتيب أسماه "تجارب في تهجين النباتات" ونعياً متواضعاً في الصحيفة المحلية بمدينة برنو عاش فيها يرأس الدير حتى وفاته “ كان لطيفا كريماً وطيباً… وقد أحب الأزهار".
هذه الكلمات هي بمثابة اشادة مني واحتفاء بحياة وانجاز غريغور مندل، ودعوة لنتذكر فضله في اليوم العالمي للأمراض النادرة (28 فبراير) والذي نحتفل به سنويا لرفع التوعية عن الأمراض النادرة، وهي الأمراض التي تصيب 1 من كل ألفي شخص او أكثر. وتشكل المسببات الوراثية قرابة الـ 80% في هذا النوع من الأمراض.. من أشهرها متلازمات التليف الكيسي وسيندروم انجلمان، بالإضافة للكثير من المتلازمات غير المشخصة بعد في بلدنا من أشهرها الأنيميا المنجلية والثلاسيميا.. يصيب هذا النوع من أمراض الأطفال بصورة أكبر و تتمظهر في شكل عيوب خلقية، وأعراض مزمنة، وكثيرا ما تتسبب في الوفاة المبكرة للطفل المريض او اعاقات متعددة، مما يشكل ألما كبيرا للطفل ولأسرته منذ وقت مبكر.. يعد التحدي الأكبر في مجال الأمراض النادرة هو تيسير التشخيص الطبي والجزيئي للمتلازمة حتى يتسنى للانظمة الطبية توفير الخدمات الأنسب بحسب احتياجات المريض الآنية والمتوقعة.. ونهدف من هذا الاحتفال السنوي أن نلقي الضوء على الأبحاث العلمية الخاصة بالامراض النادرة و لتيسير عملية تشخيص المرضى وحث اكتشاف علاجات خاصة بهم.

د. هنادي عبد الرحمن
hanadiabdelrahman@hotmail.com

/////////////////////////////

 

آراء