غسل أموال الجرائم البيئية 

 


 

 

تؤدي الرفاهية والرخاء إلى التبذير والإسراف في الاستغلال المتواصل للموارد الطبيعية. وكذلك يؤدي الفقر المرتبط بزيادة معدلات النمو السكاني إلى الاستغلال المستمر والمفرط للموارد الطبيعية. وغالبا ما تكون الموارد الطبيعية محدودة، وكثيرا ما تكون غير قابلة للتجديد في أحيانٍ كثيرة. كما تعزى أهم أسباب تدهور البيئة في كثير من الدول النامية لنقص الإرادة السياسية لفرض سياسات بيئية جيدة وتحويلها إلى ممارسات فعالة. فضلاً عن أن تدهور الوضع البيئي يفرض أعباءً ضخمة على الاقتصاد على المدى البعيد، حيث أن تكاليف معالجة التلوث تزداد كلما زادت مدة إهمال علاج ذلك التلوث. ومن جانب آخر يُعد الإنسان هو المسئول الأول والمسبب الرئيسي لهذه الأضرار بسبب الاستغلال غير العقلاني للموارد الطبيعية. ومع ظهور التغيرات المناخية في الأرض تزايدت المشاكل البيئية، وعلى إثر ذلك بدأ الاهتمام العالمي من خلال موجة من التحذيرات حول أهمية العمل لإعادة التوازن الطبيعي للمناخ الذي بدأ يظهر اختلاله ظاهراً للعيان، وأصبح موضوع البيئة يحتل الصدارة والأولوية في الاهتمامات سواءً على الصعيد الدولي أو المحلي، حيث عُقدت العديد من المؤتمرات والاتفاقيات الدولية من أجل ضمان حماية الارض وتحقيق التوازن البيئي.

وتدعو الاتفاقيات الدولية الخاصة بمكافحة التلوث إلى أن تقوم الجهة التى يتسبب نشاطها فى إحداث ضغوط على البيئة، أو تلك التي أنتجت أو استخدمت أو تاجرت في المواد الخام أو المنتجات شبه النهائية أو المنتجات التي تحتوي على المواد المضرة بالبيئة، أن تقوم هذه الجهة بدفع رسوم مقابل تسببها في هذا التدهور، كما تتحمل التكلفة كاملةً لدرء تلك المخاطر البيئية وعلاج الأضرار التي وقعت. كذلك تم تجريم الإضرار بالبيئة وتم ضمه إلى الجرائم الجنائية، لأنه يتسبب في إحداث تغييرٍ في خواص البيئة بما يؤدي إلى الإضرار بالكائنات والموارد الحية أو غير الحية ومِنْ ثَمَّ، يؤثر سلباً على ممارسة الإنسان لحياته الطبيعية، فالتلوث يمثل جريمةً بيئية لما يخلفه من آثارٍ مدمرة، وإتلاف للبيئة الطبيعية. كما ويدخل في هذا الباب أيضاً الإتجار غير المشروع في النباتات والحيوانات.

ونجد أنه على الرغم من عدم وجود تعريف عالمي للجريمة البيئية، إلا أنه يشار إليها، بشكل عام، على أنها هي الجرائم المتعددة الضارة بالبيئة، والتي يمكن أن يُكْتَسَبُ منها أموالا ضخمة يمكن غسلها. مثل العديد من الأفعال غير القانونية  كقطع الأشجار وتطهير الأراضي والتعدين والاتجار بالنفايات. وتشمل الجرائم البيئة أيضا القطع غير القانوني للأشجار: حصادها أو معالجتها أو نقلها أو شرائها أو بيعها كأخشاب بما يتعارض مع القوانين المحلية والدولية. كما ويشير التطهير غير القانوني للأراضي إلى الاستحواذ غير القانوني على الأراضي وتطهيرها والمضاربة في الزراعة أو البناء أو العقارات. وحديثاً أصبحت جريمة الغابات مصطلحًا شاملاً لوصف النشاط الإجرامي في قطاع الغابات تغطي سلسلة التوريد بأكملها، من الحصاد والنقل إلى المعالجة والبيع، بما في ذلك قطع الأشجار غير القانوني وتطهير الأراضي. ويشير التعدين غير القانوني إلى نشاط التعدين الذي يتم تنفيذه بدون إذن من الدولة (في حالة عدم وجود حقوق للأرض وتراخيص التعدين والتنقيب أو تصاريح نقل المعادن)، ويمكن أن يشمل نشاط التعدين في وجود إذن من الدولة، ولكن تم الحصول عليه عن طريق الفساد. ويشمل الإتجار بالنفايات التصدير غير المشروع و/ أو التخلص غير المشروع من نفايات الأجهزة الإلكترونية (النفايات الإلكترونية) والبلاستيك والمواد الخطرة، وجميعها تعتبر من بين الوسائل الجديدة التي باتت تستخدم في غسل الأموال وتمويل الارهاب. وعلى وجه العموم تتقارب هذه الجرائم مع بعض الجرائم الخطيرة الأخرى، مثل العمالة القسرية، واستخدام من هم دون سن العمل. ومع ذلك فلكل دولة نطاق قانون مختلف يجرمها بنطاق متقارب أو مختلف من خلال تفسيرها للجرم نفسه.

وظهرت مؤخراً بعض الانتهاكات الخاصة بالبيئة ناتجة عن أعمال العصابات الاجرامية والمجموعات المسلحة المتشددة والمنتشرة في كثير من دول العالم خاصة الدول النامية التي تعاني من مشاكل أمنية أو عدم استقرار سياسي. وفقا لتقرير "منظمة العمل المالي" الذي صدر في يوليو 2021م، تم اعتبار أن الجرائم البيئية هي أكثر الجرائم في العالم التي تدر عائدات مهولة، حيث تحقق مكاسب إجرامية تتراوح بين 110 إلى 281 مليار دولار كل عام. وتتركز هذه الجرائم، كما أسلفنا، في قطاع الغابات والتعدين غير القانوني والإتجار بالنفايات. وتؤثر هذه الجرائم في المدى البعيد على الصحة والسلامة العامة والأمن البشري والاجتماعي، وعلى التنمية الاقتصادية عموما. كما إنه من أخطر آثارها تغذية الفساد، وتداخلها مع جرائم خطيرة أخرى مثل المخدرات والإتجار بالبشر.

 لقد أدركت الأمم المتحدة و"مجموعة الدول الصناعية السبع" و"مجموعة العشرين" والهيئات الدولية الأخرى الحاجة إلى معالجة مشكلة التدفقات المالية من الجرائم البيئية. وفي ديسمبر 2019م أصدرت الأمم المتحدة من خلال قرار الجمعية العمومية رقم 74/177  تحث فيه جميع الدول الأعضاء إلى تجريم الإتجار غير المشروع في مختلف أنواع الحيوانات والنباتات البرية المحمية، والجرائم الأخرى التي تؤثر على البيئة، مثل الإتجار بالأخشاب والمعادن الثمينة والأحجار وغيرها من المصادر الطبيعية، وتلك الجرائم التي تشترك فيها الجماعات الإجرامية المنظمة باعتبارها جرائم خطيرة (أي تجريم غسل هذه الجرائم). ويدعو ذلك القرار أيضا إلى تسريع العمل في استهداف مكافحة التدفقات المالية غير المشروعة، وغسل الأموال، والتدهور البيئي. كذلك هنالك حاجة ماسة إلى منع ومعالجة غسل الأموال الناشئ عن الجرائم البيئية لمساندة لخارطة الطريق لتمويل خطة 2030م للتنمية المستدامة.

ومعلوم أن كثير من البلدان النامية ليس لديها وعي مجتمعي كافٍ، ولا وإرادة سياسية قوية لمتابعة الجرائم المالية البيئية، كما تفتقر للأدوات الحكومية القادرة على كشف وتعطيل هذه التدفقات المالية غير المشروعة. وقد يكون لقليل من تلك الدول بعض القوانين التي تجرم على الأقل، بعض من جوانب الجريمة البيئية (وليس كلها)، أو من خلال جرائم جنائية محددة. ولكن عادةً ما تكون التشريعات واللوائح في تلك البلدان في كثير من الأحيان محدودة الصياغة. وتواجه مكافحة الجرائم البيئية عدداً من التحديات، منها محدودية التنسيق بين الجهات الرقابية المسؤولة عن سلطات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب (AML / CFT) ، مثل المحققين الماليين والمشرفين والجهات الفاعلة المنفذة لمكافحة الجرائم البيئية وسياسات الحماية. كذلك تفتقر تلك الدول إلى الصلاحيات أو الموارد اللازمة لإنفاذ القانون والتحقيق وتعقب عائدات الجرائم البيئية.

ونشرت مؤخرا مجموعة العمل المالي (FATF) تقريراً عن مخاطر غسل الأموال من الجرائم البيئية

 (Money Laundering from Environmental Crime) دعت فيه الدول إلى مراجعة تعرضها لمخاطر هذه التجارة غير المشروعة. وجعلت "مجموعة العمل المالي" من الأولوية زيادة تعزيز فهم حجم وطبيعة غسل الأموال المتحصل عليها من الجرائم البيئية على نطاق أوسع، وتبادل أدوات الممارسات الجيدة بشأن المكافحة والمنع، إذ أن المعرفة بالأساليب الحالية التي يستخدمها المجرمون لغسل أموالهم المكتسبة من الجرائم البيئية قليلة جدا. كما أن التدابير التي يجب أن تتخذها الدول لاكتشافها ليست كافية. لذا يلزم تعزيز وعي السلطات الوطنية والقطاع الخاص بنطاق وطبيعة مخاطر غسل الأموال الناشئة عن الجرائم البيئية للممارسات الجيدة التي يمكنهم اتخاذها لمكافحتها. كما يُعد تحديد الإجراءات والسياسات ذات الأولوية على المستويين الوطني والدولي للمساعدة في مكافحة المكاسب الجنائية من الجرائم البيئية أمرا بالغ الأهمية.

لقد أصبح من أوليات التصدي العالمي للجرائم المالية أن تقوم الدول بتوسيع قاعدة التشريعات واللوائح للتصدي لمخاطر غسل الاموال الناتجة عن الجرائم البيئية، حيث تعتبر معايير مجموعة العمل المالي ملائمة لذلك الغرض، إذ أنها توفر إطاراً مفيدًا للدول متمثلاً في مؤسساتها الحكومية والقطاع الخاص أيضا، من أجل التصدي لغسل الأموال المتحصل عليها من الجرائم البيئية. وشملت توصيات مجموعة العمل المالي تجريم غسل الأموال لمجموعة من الجرائم البيئية المختلفة، وتحديد وتقييم لمخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب جغرافيا عبر مناطق الجريمة. كذلك شملت التوصيات الأدوات التي تمكن من إتخاذ خطوات للتخفيف من هذه المخاطر وإدخال تدابير وقائية، مع توفير أدوات لقياس مخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب، مثل الإبلاغ عن المعاملات المالية المشبوهة، خاصة في القطاعات الاكثر تعرضاً للمعاملات المشبوهة مثل المصارف وتجار المعادن والأحجار الكريمة والمحامين ومقدمي خدمات الثقة والشركات الخدمات المالية.

وتقوم الدول الاعضاء في منظمة العمل المالي "الفاتف/ مينا فاتف" بقياس مخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب (في كل دولة معينة) لها، فيما أصطلح عليه بـ (التقييم الوطني لمخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب). ويعرف هذا التقييم بأنه هو الأداة التي تستخدمها الدول بهدف تحديد ماهية المخاطر التي تواجهها، بالإضافة الى تحليل هذه المخاطر وفهمها، حيث يعتبر النهج القائم على المخاطر مكونا رئيسيا من مكونات أنظمة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. ويعد الغرض من التقييم هو تحديد التهديدات المتوقعة من خلال منهجية متفق عليها، والتزاماً بالمعايير الدولية. وتعد المخاطر التي تشكلها الجرائم البيئة ضمن التقييمات المخاطر الوطنية، وبالتالي يجب على دولتنا "السودان"، وهي من الدول المتوقع أن يتم تقييمها خلال الأعوام القادمة، العمل على تجنب الآثار السالبة في حالة الإدراج ضمن قوائم عمليات المراجعة الدولية من قبل فريق مراجعة التعاون الدولي المنبثق عن مجموعة العمل المالي. وتشمل هذه القائمة الدول التي لديها جوانب قصور في بعض أو كل المتطلبات، سواءً على المستوى الفني، أو في جانب الفعالية، وتدني درجات الالتزام بالتوصيات والمعايير الدولية، والتي لها الكثير من الآثار والانعكاسات السلبية على سمعة الدولة، وعلى الثقة في أنظمتها الرقابية والمالية.


nazikelhashmi@hotmail.com

 

آراء