فندق الأكروبول بالخرطوم: ليليان كريق هاريس .. تلخيص وترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
بدر الدين حامد الهاشمي
4 September, 2012
4 September, 2012
تقديم: هذه السطور هي بعض ما جاء في مقال نشر في مقال نشر في العدد السادس والأربعين من المجلة البريطانية " دراسات السودان" الصادرة في يوليو من عام 2012م، للكاتبة ليليان كريق هاريس، وهي سيدة منحدرة من عائلة عمل كل أفراد أجيالها المتعاقبة بالتبشير المسيحي. حصلت الكاتبة على درجة الدكتوراه في تاريخ الصين من جامعة جورج تاون الأميركية، وهي متزوجة من السفير البريطاني الأسبق في الخرطوم (الن قولتي)، مع احتفاظها باسمها على غير عادة الغربيين. قضت المؤلفة مع زوجها السفير في السودان أربعة أعوام متصلة (1995 -1998م). قد يذكر الناس أن ذلك السفير البريطاني كان قد أمر بمغادرة السودان بعد تأييد بريطانيا لعملية القصف الأمريكي لمصنع الشفاء.
تخصصت الدكتورة هاريس في السنوات الأخيرة في قضايا الدفاع عن المرأة في أرجاء العالم المختلفة، وتقول إنها ملتزمة بأمر حل النزاعات، والتعايش (السلمي) بين المسلمين والمسيحيين، وأنشأت العديد من الجمعيات الخيرية خدمة لقضايا المرأة، إحداها مخصصة لتقديم منح دراسية لنساء النوبة.
في هذا المقال المعنون " فندق الأكروبول بالخرطوم" تسجل الكاتبة انطباعاتها – بصورة لا تخلو من بعض طرافة مستلمحة- عن معلم هام من معالم العاصمة السودانية، وعن أصحابه الأغاريق، وبعض من عملوا فيه من السودانيين ، ولعقود طويلة. لا تغفل الكاتبة – المهتمة بالسياسة السودانية- بالطبع أيضا أن تشير في ثنايا المقال إلى الأوضاع السياسية في البلاد.
لابد هنا من الإشارة إلى ما كتبه الطيب صالح في أحد مقالاته في مجلة "المجلة"، وشوقي بدري في عدد من المقالات الاسفيرية، عن الجالية الأغريقية ، وتأثرها بالمجتمع السوداني وتأثيرها عليه، ولكن لا علم لي بغير ذلك من كتابات منشورة لسوداني عن هذا الفندق التليد، أو لغيره من معالم وسط الخرطوم القديمة أو عن الجالية الأغريقية. إن صح هذا، فهذا أمر يبعث على الأسى والأسف، ودليل آخر على ضعف همة كثير من باحثينا في الكتابة عن معالم البلاد، و/ أو استصغارهم لشأن مثل هذه الكتابات، وكأنهم في شغل شاغل بالبحث والتنقيب في عظائم الأمور وخطيرها! المترجم
**** *************** *************
عندما كان زوجي "ألن قولتي" يعمل سفيرا لبريطانيا في السودان في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي كان فندق الأكروبول مسئولا عن تزويد حفلات البريطانيين في الخرطوم بالطعام والمشروبات. وعن هذا الطريق تعرفت على جورج باقويولاتس (صاحب الفندق) وزوجته اليانورا. بيد أني لم أتعرف على الرجل بطريقة أعمق إلا في مارس من عام 2001م في أول رحلات عودتي للسودان، بعد أن كنت قد غادرته على عجل (وخشية من أن لا يسمح لي بالعودة له تارة أخرى) في عام 1999م. في ذلك العام (2001م) ولجت – وللمرة الأولى- فندق الأكروبول الأسطوري في الخرطوم، وصرت منذ ذلك الحين، من زبائنه الدائمين كلما حضرت للسودان.
الوصول لفندق الأكروبول وضيوفه:
في زيارتي الأولى (للسودان) وصلت للأكروبول قادمة من مطار الخرطوم في الساعة السادسة صباحا قادمة من لندن عبر فرانكفورت والقاهرة. كنت في أشد حالات الإعياء والإنهاك، وقدماي تعانيان من تشنج مؤلم. سعدت بغرفتي الواسعة المريحة، والتي ذرعتها جيئة وذهابا لعدد من الدقائق في محاولة للتخلص من تلك الآلام القابضة في قدمي. وأنا أمارس تمريني الرياضي ذاك، لاحت مني التفاتة لإعلان معلق على باب الغرفة يقول: "نأسف لعدم قبولنا بالملابس الداخلية للنساء." عجبت جدا وقلت لنفسي: "أي نوع من النساء تبلغ بها الحمق والطيش أن تتخلى عن ملابسها الداخلية الحميمة!" دفعني الفضول أن استكشف المزيد في بيتي المؤقت هذا، فمشيت نحو الحمام لأجد مرآة لابد أن أطول رجل من قبيلة الدينكا هو الذي قام بتعليقها. صرت أقفز بكل ما أوتيت من قوة – ودون فائدة- لأري أسناني وأنا أنظفها بالفرشاة، وكان أقصى ما استطعت رويته هو حاجبي. بعد ذلك أقفلت جهاز التكييف، ولففت قدمي المتألمتين بمنشفة، واعتمدت على المروحة البطيئة المخدرة لتأخذني لعالم النوم. أفقت في نحو الثامنة صباحا، حين جاء "السفرجي" العجوز بجلابيته المميزة وهو يحمل طعام الإفطار. في ذلك اليوم وقعت في غرام ذلك الفندق.
كانت تلك بداية لعدد من الزيارات المتتالية لفندق الأكروبول في خلال عدد من السنوات. تعلمت بسرعة أن غرفة الطعام في الطابق الثاني هي كنز لا ينضب للمعلومات، وللتعارف وخلق الصداقات والصلات المفيدة، والاستثنائية أيضا. رغم أنني من اللواتي يفضلن تناول طعام الإفطار (والذي لا يتعدى عادة قطع القريب فروت) في صمت، إلا أني قد وقعت بسهولة في مصيدة الحديث مع زبائن الفندق وهم يتناولون طعام الإفطار، ومنهم على سبيل المثال عالم نفسي أمريكي يعمل مع القساوسة الكاثوليك المصابين بعلل نفسية، وممثل لرابطة كرة القدم الانجليزية، وعلماء آثار، وسياح من مختلف الدول، وقساوسة إنجيليين من جنوب لندن، وممثلين لمنظمات إغاثة دولية، وعالم لاهوت دينماركي، ونمساوي كان يعمل على تنمية الجنوب قبل أن يتم طرده من هناك مع ثلة من رفاقه. لم يكن لي أن أقابل كل هؤلاء الرجال – وغيرهم من الرجال والنساء- لولا هذا الأكروبول! كان غالب من ذكرت يريد أن "يفعل شيئا ما" لمساعدة السودان، عدا قلة من المقامرين الذين كانت غايتهم التكسب المادي من المصاعب التي يكابدها السودان. لحسن الحظ، ومع افتتاح مزيد من الفنادق الفخمة في الخرطوم، تناقصت أعداد الفئة الأخيرة في الأكروبول. ظللت أصر على الإقامة في هذا الفندق في أي زيارة لي للسودان لا أكون مدعوة فيها للإقامة في مقر سفارتنا بالخرطوم.
يذكرني الأكروبول بالبنسيونات القديمة في الولايات المتحدة، وربما بعائلتي وهي تجتمع في "حفل لم الشمل" في فندق صغير على الحدود مع ويلز. في ذلك النزل التاريخي سعدت بصداقة مخلصة، ومعلومات غزيرة، ونصائح قيمة من مالكيه ومن نزلائه أيضا. في سنوات ما بعد الألفية الباكرة شملت رفقتى في ذلك الفندق كثير من رجال الأعمال الأوربيين والأسيويين، ونشطاء حقوق الإنسان، وعمال التنقيب عن البترول الذين صلت جلودهم حرارت الشموس، ومبشري الإنجيل المتخفين بصورة أقل من مقنعة كمدرسين، ورجال مشبوهين يتحدثون بلغات أوربية شرقية، ويتحاشون محادثة بقية نزلاء الفندق.
ذات صباح، وبينا كنت أتناول إفطاري لمحت في قاعة الطعام شخصين (أجنبيين) يبعث منظرهما على الشك، وخطر لي أنهما قد يكونان من تجار السلاح. فكرت في التعرف عليهما، وكمدخل مناسب لذلك عرضت عليهما أخذ صورة لهما. خلافا لردة فعل السودانيين الطيبين والذين يعشقون التبرع بالظهور في كل صورة، لم تثمر - للأسف- دعوتي للشخصين المريبين للتصوير غير ثورة غاضبة، وتهديد ووعيد بتحطيم آلة التصوير، وعظامي أيضا! رغم أن وجود مثل هذه النوعية من النزلاء قليل نسبيا اليوم، إلا أن عددا أكبر من ضيوف الفندق في السنوات الماضية كان بحاجة ماسة لنصائح أمهاتهم فيما يتعلق بالسلوك المهذب. كنت أعجب أحيانا لإدارة الفندق ... كيف تمد حبال الصبر الجميل تجاه تصرفات أولئك النزلاء الأوباش.
كان من ضمن هؤلاء الضيوف قليلي التهذيب شاب صغير السن يرتدي سروالا قصيرا أسودا شديد الضيق ملتصق بجسده، كالذي يرتديه عادة هواة ركوب الدراجات (في حر السودان اللافح!). كان ذلك الحدث الغر يحمل دراجته إلى داخل غرفة الطعام مرتين أو ثلاثة في اليوم، وغالبا أثناء تناولنا للطعام.
مما أذكره أيضا في إحدى زياراتي توقف جميع من كانوا يتناولون طعامهم في قاعة الفندق عن المضغ وهم ينظرون في اندهاش لا يوصف لرجل عربي (أو لعله أفغاني) دلف إلى القاعة وهو يبدو وكأنه مخدر أو مخمور، أو كأنه يسير وهو نائم، لا يستر جسده غير جلباب ناصع البياض يشف عما تحته (دون ملابس داخلية)! لم يرض السفرجي بابكر (وزميله والذي يحمل نفس الاسم) عن ذلك المنظر، أما نحن فقد ألجمت المفاجأة ألسنتنا! (أشارت الكاتبة أن هذين الرجلين، بابكر وبابكر، ظلا يعملان كنادلين في الأكروبول منذ عام 1954م، وهناك خادم اسمه "علي" ظل يعمل في الفندق منذ بداية الخمسينات، ولم يتقاعد إلا مؤخرا).
رغما عن ما ذكرت، فإنه يجب التأكيد على أن الإقامة في فندق الأكروبول معقولة الثمن بالمقارنة مع الفنادق الأخرى بالخرطوم، ويفوقها بأنه فندق صغير مريح ولطيف ويرحب بالنزلاء من كل صنف، بل قيل أنه أكثر فندق "صديق للنزلاء" في كل المناطق جنوب القاهرة. ظل الأكروبول، ومنذ عقود، نقطة التقاء (صديقة) لتبادل وتلقي المعلومات، ويعد "واحة" ظليلة للقادمين من حر الخرطوم اللافح، وسمومها المشبعة بذرات الرمال... هو مكان يمكنك أن تعثر فيه على كل ما تريد (تقريبا). ظلت ذكرى هذا الفندق العتيق حية وعبر السنين الطوال، عند الكثير من الصحفيين الباحثين عن قصص وأخبار تصلح لتخفيف الأنباء المؤلمة والتقارير المتواصلة عن الحرب، والخيانة، والمجاعة، وانتهاك حقوق الإنسان في سائر أرجاء السودان. سمعت أحد الصحفيين السودانيين يقول بأنه "قد أفلح عمال الإغاثة، والصحفيون، ورجال الأعمال في تعلم فضائل توفير المال والحفاظ على صحة الجسد والعقل والروح بهجرهم لفنادق الخرطوم التي تبدو في ظاهرها كبيرة فخيمة، وتفضيلهم لكفاءة هذا الفندق المتقشف البسيط: الأكروبول." فندق الأكربوبل له من اسمه نصيب...مثل سميه، ذلك النصب التاريخي الأغريقي. هو في الواقع نسخة أقل فخامة من سلسلة فنادق تاريخية تضم فنادق بيرا بلاس في اسطنبول، وسانت جورج في بيروت (قبل اشتعال الحرب اللبنانية الأهلية).
كيف بدأت قصة فندق الأكروبول ؟
فر الأغريقي "بيناقهز اثانااوسس باقويولاتس" خلال الحرب العالمية الثانية بجلده من أتون معارك الحرب الأهلية في جزيرته "سافلاونيا"، وهاجر لمصر حيث وقع هنالك في غرام فتاة اسمها "فلورا ادريان فانوس" في الإسكندرية وتزوجها. قررا بعد حين أن يهاجرا للخرطوم بحثا عن حياة أفضل ومعاش أكرم. كانت تلك هجرة منطقية، إذ أنه في تلك الأيام كانت أعداد الأغاريق في الخرطوم قد بلغت آلافا كثيرة. في البدء عمل بيناقهز باقويولاتس، ولفترة بسيطة، في خدمة السلطات البريطانية كمحاسب. هجر بعدها العمل الحكومي وافتتح ناديا ليليا مقابلا لقصر الحاكم البريطاني. سارت أموره حينا من الدهر على أفضل حال، حتى ضج جاره (الحاكم البريطاني نفسه) بالشكوى من الضجيج العالي، والموسيقى الصاخبة، التي كانت لا تنفك تشق سكون ليالي الخرطوم الهادئة وحتى ساعات الصباح الأولى. تم بالطبع قفل النادي، وبطريقة تعوزها الكرامة. كان على الرجل الإغريقي أن يبحث له عن عمل آخر يكسب منه عيشه. أثبتت وظيفة بابا باقويولاتس الجديدة عمق فهم الرجل لبلده الثاني، السودان. كان الرجل، وبحكم احتكاكه بالسودانيين، قد لاحظ حبهم للحلويات، وغرامهم بالمشروبات الكحولية، فقام بافتتاح محل لصنع الخبز والحلويات (الباسطة والكنافة الخ)، ومحلا آخر لبيع الخمور. لم يقف طموح باقويولاتس عند هذا الحد، فقد كان رجل أعمال حقيقي، وصاحب رؤية نافذة وبصيرة ثاقبة، فأفتتح فندق الأكروبول في مبنى استأجره لهذا الغرض وذلك في عام 1952م (يجب هنا ذكر أن الأستاذ/ مصعب محمد علي كتب في جريدة الصحافة بتاريخ 16 أغسطس 2012م أن هذا الفندق أفتتح عام 1956م.)
توفي بابا باقويولاتس في عام 1967م، فانتقلت ملكية الفندق لأولاده الثلاثة: اثاناثيوس (وهم أكبرهم) وجورج (وكانا في العشرينات من العمر)، وقيراسموس، والذي كان في ذلك الوقت ما يزال طفلا. تزوج اثاناثيوس من فتاة أغريقية اسمها إنجيلا،بينما اقترن جورج بفتاة إيطالية اسماها اليانورا. لعب أربعتهم أدوارا هامة في تطوير وإدارة الفندق. رغم أن قيراسموس عاش لعدد من السنوات مع زوجته "كوليت" خارج السودان، إلا أنه كان يشارك أيضا في إدارة فندق العائلة. لا شك أن فندق الأكروبول هو "عمل من أعمال الحب labour of love" ومزارshrine على شرف بيناقهز اثانااوسس باقويولاتس وقرينته فلورا فانوس باقويولاتس (والتي رحلت عن الدنيا بسلام في فبراير من عام 2010م في بيت ولدها جورج بالخرطوم).
نعود لرصد بدايات إنشاء الفندق... ظل فندق أكروبول يعمل بصورة ممتازة إلى حين قيام الرئيس نميري بإصدار قوانين الشريعة الإسلامية في (سبتمبر) 1983م، وكان من مقتضياتها تحريم بيع وتناول المشروبات الكحولية، وكان ذلك سببا لأسف وحزن نسبة كبيرة من السكان (لا تخلو بعض ما تسطره هذه الكاتبة من تعميم كاسح وجزافية وأحكام قطعية وقيمية لا تعرف التوسط. المترجم). وبعد مرور سنوات طويلة على قيام نميري بإصدار قراراته الجمهورية تلك، وإراقته لمئات القوارير من "جوني ووكر" وغيرها من "المشروبات النجسة" في مياه النيل، لا يزال مجتمع الخرطوم يتحدث بعاطفة حزن وأسف صادقة على ما حدث ذلك اليوم. في ذات المساء أيضا تم إغلاق حانتين ومحلين لبيع المشروبات الكحولية تمتلكهم عائلة باقويولاتس. مما يجدر ذكره أن العائلة لم تعوض أبدا عن ذلك الإغلاق لمحلاتها.
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]