في اطار الحديث عن تعديل الوثيقة الدستورية (3/5)

 


 

 

التحليل الواقعي لفضاء الانتقال هو المدخل الموضوعي للدستور المأمول
ضمن إجراءات الشروع في صناعة دستور للفترة الانتقالية في السودان، من المهم جداً دراسة العوامل الفاعلة و العناصر المحركة للاوضاع الدستورية في السودان خلال الفترة الانتقالية، و في هذا الاطار من المهم الانتباه إلى ان الدستور الانتقالي يساعد المواطنين و الحاكمين إلى الانتقال إلى الدولة المدنية الديمقراطية من خلال إجراءات سلسة بقدر الامكان و يضمن الوصول الى الاهداف النهائية للفترو الانتقالية. إن عدم التوفيق في إجراء تحليل علمي و موضوعي يقود على أحسن تقدير الى إضطراب الفترة الانتقالية، و في أسوأ تقدير إلى فشل الانتقال السياسي. من المتوقع أن يقود التحليل الجيد للاوضاع السياسية و الاجتماعية، إلى تقدير جاهزية المؤسسات المجتمعية و الرسمية في الاضطلاع بمهمة الانتقال الديمقراطي، و يساعد التحليل كذلك في التوقع المبكر للازمات الدستورية و بالتالي يحد من أثر تلك الازمات على المسار الديمقراطي و كذلك يعمل على توفير مؤسسات قوية و مؤثرة لحل النزاعات الدستورية و تفرض الحلول التي تقترحها.
ليس من اليسير الانتقال بالسودان إلى الديمقراطية بعد أكثر من ثلاثين عاماً من الدكتاتورية الصماء، التي خلفت حرب أهلية طويلة و نزاعات إجتماعية و سياسية على كافة المستوريات، أسهمت في غرس قيم الدكتاتورية و إنتهاكات حقوق الانسان، و جعلت منها سلوكاً و نمطاً في حياة الأفراد و المؤسسات المجتمعية، بجانب التدهور المؤسسي المريع و التهجير المتعمد للكوادر و الكفاءات السودانية، تحت سياسة ما عرف (بالتمكين). و بالتالي من المهم إعطاء تلك التحديات، التقدير الذي تستحق، دون القفز من فوقها، و تحديد العناصر المؤثرة في تلك التحديات، سلباً و إيجاباً، و العمل على إستيعابها في التنظيم الدستوري للمرحلة الانتقالية. و من المتصور بموجب ذلك أن يكون الدستور الانتقالي، مختلفاً في بعض موضوعاته، و في تنظيمه للعلاقات الدستورية، عن الدساتير الدائمة، و ذلك ببساطة بسبب أن الدستور الانتقالي يعالج موضوعات ذات صفة مؤقتة و ذات طبيعة إستثنائية، لا تعبر بالضرورة عن الصورة المثلى للدستور الديمقراطي المأمول، و الذي يفترض أن يتم التأسيس له بعد إستقرار المجتمع و مؤسساته، في ظروف ديمقراطية و عبر مؤسسات ديمقراطية.
أهم الالتزامات السياسية و الترتيبات المتصلة بالمرحلة الانتقالية:
من أهم الموضوعات التي يجب أن تناقشها الوثيقة الدستورية للمرحلة الانتقالية هي بلا شك أولويات المرحلة الانتقالية، و هذا يتطلب بالضرورة التوافق حول تلك الاهداف بصورة دقيقة. و بالتالي من المهم رسم إستراتيجية لتحقيق تلك الاهداف، من خلال تثبيت المبادئ و تأسيس المؤسسات التي ستضطلع بتلك المهام. و في هذا الصدد من الضروري تنظيم دور المؤسسات التي تعمل على تحقيق تلك الاهداف الانتقالية بصورة منسجمة و متسقة، بالقدر الذي تتكامل فيه دور المؤسسات.
وفق الحالة السودانية الراهنة، من الواضح ان إتفاقية جوبا للسلام في السودان، أصبحت أحد أهم المحددات التي يجب مراعاتها عند صياغة الاحكام الدستورية للمرحلة الانتقالية. و الإتفاقية وضعت إلتزامات إنتقالية للمساعدة للوصول الى سلام شامل و نظام ديمقراطي للحكم. و من المهم على الوثيقة الدستورية الانتقالية أن تفصل تلك الاحكام العامة التي وردت في الاتفقية إلى أحكام تفصيلية تساعد في تطبيقها في السياق الدستوري الانتقالي، و بما ينسجم مع الأهداف الكلية للدولة السودانية. و بالقول أن أتفاقية جوبا قد وضعت أحكاماً و إلتزامات إنتقالية، نقصد أن الاتفاق قد تم مع مؤسسات حكم إنتقالي، و بالتالي من المهم الوضع في الاعتبار أن الترتيبات المستقبلية الدائمة للنظام الديمقراطي و آليات الحكم فيه تتم من خلال مؤسسات ديمقراطية تتم فيها الحوارات الدستورية عبر إعتماد مبادئ (الشمول و التشاركية و التوافق و الشفافية)، حتى تضمن سلام مستدام يخاطب جذور أزمة الحكم و الديمقراطية في السودان. ملخص ما تم ذكره، أن إتفاقية سلام جوبا تظل هي أحد أهم الوثائق التي تؤطر أي تفكير في تعديل الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية.
كذلك من الوثائق الهامة التي ظلت تؤطر العلاقات خلال الفترة الانتقالية، كان الاتفاق السياسي بين قوى اعلان الحرية و التغيير و المجلس العسكري الانتقالي الموقع في يوليو 2019، و بالنتيجة الوثيقة الدستورية التي تم تأسيسها بناءا على نظرية (الشراكة) التي جاءت في الاتفاق السياسي. أهمية الوثيقتين في أنهما أسستا لمبدأ إشراك (المؤسسة العسكرية) في الحكم خلال الفترة الانتقالية. و اذا كان المقصد النهائي من الاتفاق السياسي هو ضمان إستقرار الفترة الانتقالية دون نزاع بين مؤسسات الدولة و المجتمع، و كذلك لضمان توحيد الجهود الوطنية للوصول للغايات خلال الفترة الانتقالية و التي على رأسها تحقيق السلام و تفكيك بنية الدولة الدكتاتورية و الحد من الفساد و بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية. إن التحليل العلمي الدقيق للاوضاع السياسية و الاجتماعية يساعد بشكل كبير في تحديد آليات الوصول الى تلك الاهداف الكبيرة.
إذا كان إتفاق جوبا، و الاتفاق السياسي، و الوثيقة الدستورية، من الوثائق التي نستقرأ من خلالها الموضوعات التي توافقت عليها العناصر المؤثرة في مسار التحول الديمقراطي، برغم ما شابها من ضعف في إدراك متطلبات الواقع السوداني، إلا انها ظلت تعبر خلال فترة الانتقال و قبل انقلاب 25 إكتوبر 2021 عن حالة من التوافق حول تلك الوثائق. و يختلف الاتفاق السياسي بين الفريق عبد الفتاح البرهان و الدكتور عبد الله حمدوك، عن تلك الوثائق، في أنه كان تعبيراً عن الأزمة السياسية بين مكونات الحكم و لم تكن تعبر عن حالة توافق سياسي و بالتالي كانت سبباً في تشظي الوضع الدستوري بشكل تام.
في الختام، من المهم القول أن صناعة الدستور الانتقالي او إعادة صياغته، ستظل من الموضوعات المعقدة و الحساسة جداً في مسار الانتقال الديمقراطي في السودان، و تعقيدات صناعة الدستور الانتقالي في كل الدول التي مرت بمثل هذا الانتقال، كانت بسبب الاضطراب السياسي و الاجتماعي الذي خلفته الدكتاتورية و الحروبات الاهلية، و بالتالي إن قراءة الاوضاع الدستورية و تحليلها من المناظير السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية، أمر في غاية الاهمية، و هذا المنهج يستدعي الانتباه إلى كل العناصر و الموضوعات المهمة و إستيعابها في إطار التفكير الاستراتيجي و في إطار صياغة أحكام دستورية تنظم موضوعات الحكم و الحريات في فترة ما بعد الدكتاتورية .

advosami@hotmail.com
////////////////////////////

 

آراء