في الأزمات : السماح رباح … بقلم: عمر الترابي

 


 

عمر الترابي
23 October, 2010

 


 alnahlan.new@hotmail.com
تعيش البلاد إحدى أصعب الأوقات في تاريخها المديد، إذ أزف ميعاد امتحانها الأكبر و تقرير مصيرها، ومصير شعبها وتاريخه ومستقبله، ذلك الحدث الذي سيُمتحن فيه كل السودان بكل قيمه وإراداته و مبادئه ومثله، فتقرير المصير يُمكن وصفه إجمالاً بأنه التحدي المفصلي الحقيقي أمام الأمة السودانية، و هو الفعل الذي سيعيد تعريف (كل شئ) وتأسيسه على مفاهيم جديدة. ليس تقرير المصير وحده هو الذي يجعل الأوقات صعبةً وحرجةً، بل إن قضايا السودان الأخرى وأزماته المتمثلة في دارفور وتداعياتها، و كوارث الفيضانات، والضيق الاقتصادي، والتحول الديمقراطي، والمليشيات المسلحة، أزمة مياه النيل، والضغوط الدولية، وبوادر التطرف، والأزمات السياسية الأصيلة والمفتعلة بتصريحات غير موافقة... ، كل هذه الأزمات تتضافر على السودان المسكين! وكل ذلك يلقي بظلاله على الساحة السياسية، ويزيدها تعقيداً بشكل يدعو المتابع للشفقة ويبعث في النفوس الحسرة والألم، و باختصار شديد: الساعات القادمات هي أوقات حرجة، وبطبيعه الحال فإن الناس يتفاوتون في تفاعلهم مع الأوقات الحرجة، لذلك لا بد من يطور الساسة و القادة نظرتهم إلى علوم إدارة الأزْمَات، و يرقوا رؤيتهم لمفاهيم إدارة القضايا الحرجة، و يستفيدوا من فرضيات العلوم الإدارية، فالوضع الذي نحن بصدده إن لم تراع حساسيته سيكون على أقل تقدير (كارثي).
إن تقرير المصير سيعيد تعريف كل شئ، أيّاً كانت نتيجته وأيّاً كانت زاوية النظر، لذلك يجب التعاطي معه بعقلانية، ومن فاته حظ دراسة مآلاته فليجلس إلى من درسها و توقعها، إذ أنه لم يبق وقت للتعلم والدراسة والتخطيط، بل انه ليس بالكفيل لاتمام اجراءات نيفاشا، بطبيعة الحال يُفترض أن تكون الجهات المعنية (الأحزاب والسلطات) قد (درست، وفهمت، ووعت) كل الرؤى التي خرجت من مراكز الدراسات و الخبراء، و ينبغي أن تكون قد أهلَت وفقاً لها قيادات محددة لتبرز في هذه المرحلة (الحرجة)، إذ أن هذه المرحلة ليست كأي مرحلة، ومن البديهي معرفة أن لكل مرحلة رجال، فهذه هي مرحلة الحكماء و أهل الوعي الحذر، لا الشجعان الذين يبزون أقرانهم في الحروب -مثلاً-، فهي مرحلة الحكماء الذين يُقَدِرُون أبعاد أفعالهم وأقوالهم، لا أولئك الذين يطلقون كل شئ بلا حساب بتلقائية كأنهم لا يحدثون أحداً. إنها تتطلب نوعاً مسمياً من الرجال الذين يضبطون قولهم بالحرف و المعنى، و يراعون الحال ولا يخرجون عن السياق، ويعبرون بأمانة عن رؤى التنظيمات وقواعدها، بلا انفعالات وإساءات تفرط العقد، فإن هذه المرحلة من (القلائل) التي لا تكون فيها القوة هي الحجة الأكثر إقناعاً، و يكون فيها التنازل رفعةً وتضحيةً مقدرة، وتكون فيها الجرأة وليدة الجهل.
ماذا نريد؟، إننا نريد من المجموعة السياسية أن تبني منظومات سياسية مستعدة لمواجهة الأزمات، حينما يحدث ما لا تتوقعه، لا تنهار وتبدأ في التخبط. تجتاز الاختبار الإداري بتوظيف الوعي وتمكين الإرادة، تستفيد من تجارب الآخرين و من رؤاهم. إننا نمنى النفس أن يُلجم المتفلت، وأن يتقدم داعي التعايش و التسامح. نتمنى أن نستطيع مناقشة الأمور بعيداً عن النظرة المشحونة والموجهة -أصلاً-، و أن نطرح الآراء الحقيقية للمناقشة، أن تقوم القرارات الأحزاب والسلطة على تراتيب وخطوات مدروسة، بعيداً عن العجلة والغضب.
يشير البعض إلى أن الخلل الذي جعل من الاستفتاء أزمة أن الناس غفلوا عن الاستفتاء وترتيباته -في فترة سابقة- و اخلتلط عليهم بعض القول والفعل وضاعوا في أتون المشاكسات السياسية، وتراكمت تأجيلات (مبررة) لأشياء مرتبطة بالاستفتاء ولكن الاستفتاء ظل عصياً على التأجيل، وبسبب المشاكسات أصبح تأجيل الاستفتاء في حد ذاته (قضية) يقف الناس حيالها، بل إنها أضحت (مبدأ)، فالحديث عن التأجيل مجرد الحديث يجعل المتحدث مصنفاً، فلم يوجد من سُمِح له شرح طلب التأجيل ومبرراته، وانشغل المجتمع السياسي في هذا الصراع وسُكب عليه كل مرارات الشراكة وكل تاريخ الحرب، حتى أفاق وهو يقرأ عن رؤى شريكي نيفاشا عن ما بعد الاستفتاء وكل منهما يحمل رؤية مختلفة تماماً عن الآخر، وإلى الآن لا تزال التريبات الإجرائية عالقة، لا نعلم ماذا سيكتب في بطاقة الاقتراع، لا نعلم التفاصيل المهمة، ونتناقش في الذي يفترض أن يكون قد كتب أول يوم في قانون الاستفتاء.
بل إن البعض بدأ اليوم بالإنقلاب على نيفاشا، والحق أن الخلل ليس في نيفاشا ولكن الخلل في البناء الفلسفي الغائب، الفلسفة صانعة المفاهيم غابت! فجاء «فكر الوقت» الذي بسببه ظن البعض أن السلام هو عدم الحرب!، وظن أن مجرد التوقيع على اتفاقية يعني أن الأمور سويت والمشاكل حلت، ونحن في هذا الصدد يجب أن نتعظ، فهناك مفاوضات تجري الآن في الدوحة لحل قضية دارفور، ويقف الجميع داعماًَ لخيارها، ولكن يجب أن ينتبه الناس إلى ما يقوله الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت ( 1724 - 1804 ) « إن معاهدة من معاهدات السلام لا تعد معاهدة إذا انطوت نية تعاقديها على أمر من شأنه إثارة الحرب من جديد»، فالحرب (في الجنوب و في الغرب و في كل الدنيا) لا تقوم لأن بعض الناس ليسوا ظرفاء و لا لأنهم يحبون العنف والقتل والدمار، ولكنها تقوم لأسباب جوهرية تجعلهم يسترخصون أرواحهم في سبيل قضايا يرونها جوهرية، فعلينا أن نعالج القضايا لا حاملين السلاح، فأولئك هم عرض من أعراض القضية، وعلينا أن ننتبه أن علاجنا للحرب إذا كان فقط لمجرد إخماد نارها والارتياح من صداعها فذلك لا يعدو كونه تأجيلاً لها وهدنة لا تحقق سلاماً، وفي تلك الحالة فإن الحرب -بلا شك- ستعود من جديد وبشكل أقوى.
إن الوضع المتوتر الذي تعيشه البلاد، يأتي بآثار سلبية على اقتصادها و اسمها، وبلا شك لا يوجد أحد يريد ذلك، خاصة أن ذلك يأتي بمردود سلبي على مواطنيها، وعليه فإن على الساسة و أهل الرأي أن يزيلوا هذا التوتر، و يعلوا من قيم التسامح، و يضاعفوا من رغبات الخير، و ينتبهوا إلى ما يقولون، فما يكب البلدان على هاوية المزالق غير القول المتفلت؟!، و لا بد أن تضاعف جهود الحوار الديمقراطي، و يفَعَّل الأسلوب العلمي (الواقعي) في التعاطي مع القضايا، و تغلّب روح النصوص على الحروف، فلتصبح السقوف مفتوحة، ولا بد من الحوار حول اجراءات الاستفتاء بشكل كاف -حتى لو أدى ذلك إلى تأجيله- وبنفس القدر لا بد من أن يأخذ الحوار في دارفور كفايته، حتى يحدد كل معالم السلام حتى لا نندم حين (وقف الحرب).
الله وحده يعلم ما يمكن أن نساق إليه لو استمر هذا التشاحن والتوتر الذي تشهده الساحة السياسية، و هذا التنكر لخيارات السلام، إن الأوقات الحرجة تجعل البعض يقول ما لا يريد، فنحن نحتاج إلى قدرة على ضبط النفس و التعامل بمسؤولية في هذه الفترة، وأن نولي التسامح حقه وقدره، فهو وحده الذي يصنع السلام، و الله المسؤول أن يوفق السودان به الإعانة بدءاً وختماً، والسلام والصلاة على من قال (السماح رباح(.
صحيفة الصحافة :التاريخ: 22-أكتوبر-2010    العدد:6204
 

 

آراء