في ذكرى رجلٍ نادر

 


 

 


الشهرة الواسعة والنجومية الساطعة في دنيانا هذه يحظى بهما دائماً المخترعون والعلماء والمفكرون والفنانون والرياضيون بسبب أنهم قدموا أشياء أساسية للبشرية.. بعضها يسد وبعضها يرضى حاجات الإنسان الحسية والمعنوية، لكن ليس بالضرورة أن يشتهر كل من في هذه المنظومة، فهناك أفراد كُثر أفادوا وأسعدوا مجتمعات بالمثل إلا أنهم ظلوا مغمورين في نطاق محلى ضيق كالجندي المجهول.  ولو نظر القارئ من حوله سوف يجد عشرات الأشخاص من هذه الفئة المغمورة سواءً في أسرته أو قريته أو في مدينته أو في عمله.
هذه الشخصية التي سوف ألقى الضوء عليها هو إنسان بسيط عاش حياة بسيطة إلا أنه استمتع بها أيما استمتاع وأخال ذلك في أُخراه، فقد عمل لها في دنياه.  إلا أنها كانت شخصية ذات أهمية وتأثير فيمن حوله.  ومن الغرائب أن أهمية هذا الشخص شكّلها عاملان مهمان لكن في غاية الاختلاف، هما فِكره الديني ومهنته.
فيما يتعلق بمهنته فقد كان سائقاً لعربة النظافة التابعة لبلديات الخرطوم التي كانت تجوب الشوارع لجمع القمامة آنذاك. أما فكره الديني فقد انتمى إلى جماعة أنصار السنة المحمدية، أو الخامسيين أو الوهابيين كما يسمونهم، وحتى في جماعة أنصار السنة فقد كان (حنبلياً) في طريقة تفكيره وتعامله مع الآخرين.  ومن ذكائه فقد استغل مهنته هذه لدعم نهجه الديني واطروحاته الفكرية التي كانت ذات سِمة وطابع خاص خُتِم عليه "عبد الغفور طمبل".
بدايةً سوف أقدم تعريفاً مختصراً لمن لا يعرفون هذا الرجل.. اسمه "عبدالغفوردهب طمبل" من قرية دبيرة بوادي حلفا المديرية الشمالية .. قد يكون من مواليد سنة 1922 وعاش فترة شبابه في القاهرة وعمل فيها كسائق تاكسي ثم رجع إلى السودان في كبره وعمل سائقاً في البلدية وعاش في منطقة السجانة بالخرطوم ثم رحل إلى منطقة الصحافة حيث عمَّر بيتاً وذلك عندما كانت هناك حكومة تخطط وتوزع الأراضي ضمن الخطط الإسكانية لذوي الدخل المحدود.  كان هذا الرجل طويل القامة عريض المنكبين أسمر اللون وما تبقى من شعره كان يطلق له العنان فتجده يتدلى كثيفاً في مؤخرة رأسه تجاه الرقبة وخفيفاً جداً في المقدمة وعلى الجانبين الأيسر والأيمن شعره يلتصق مع لحية طويلة بيضاء وحاسر الرأس ويلبس نظارة سوداء. ولما كان متأثراً بالحياة المصرية فقد كان يرتدى جلابية مصرية منها كل الألوان، عدا الأبيض ، بلياقة وأكمام طويلة  تقفلها زراير عند جهة الكف وجيب صغير في المقدمة يتدلى منه منديل ملون وفيه مسواك الأراك. وكان دائماً يحمل عصاً صغيرة لا ليتوكأ عليها إنما تحسباً للكلاب الضالة في طريقه وسوف ترون أهمية العصا عندما تعلمون فيما بعد أن هذا الرجل كان يركب خ11 مهما كان طول المشوار.
كان في سن والدِي، عليهما رحمة الله، وبحكم صداقتهما كنت أراه كل يوم جمعة منذ أن هاجرنا إلى الخرطوم 3 في عام 1965 وحتى وفاته في عام 2002.  ولذلك فكل الذي سوف أرويه لكم قد رأيته بعيني رأسي أو سمعته من فمه مباشرة.  كان يصلى صلاة الجمعة في مسجد أنصار السنة المحمدية في جهة الخرطوم 3 بإمامة المرحوم الشيخ محمد هاشم الهدية وبعد الصلاة مباشرة نجده في منزلنا القريب لمسجده.  ومن الأشياء الغريبة أن هذا الرجل كان لا يعترف بوسائل المواصلات الحديثة رغم أن مهنته الأساسية سائق بمعنى أنه كان يقضى مشاويره كلها مهما طالت وبعدت سيراً على الأقدام.. يأتينا ماشياً على قدميه من الصحافة إلى الخرطوم 3 ثم يروح فى زيارات لأهلٍ فى الصافية وشمبات ثم بالعكس.  لا أبالغ إذا قلت لكم أنه لم يجلس على سيارة قط غير سيارة الشغل أثناء ساعات العمل فقط، وربما كان ذلك سر تمتعه بالصحة والحيوية والابتسامة في كل الأوقات. فرياضة المشي ما تزال هي من أهم أنواع الرياضات وعرفنا مؤخراً أن لها تأثير إيجابي على النفسيات. لا أطيل عليكم في هذا الجانب الشخصي ولنذهب إلى الوقائع لتتحدث بنفسها نيابة عن عبدالغفور.
نبدأ أولاً بمهنته.. في زمنه كانت هنالك حكومة وبلديات تهتم بالبيئة الصحية للإنسان وكانت هناك سيارات بنز كبيرة بصناديق مغطاة تجوب شوارع الخرطوم وأزقتها يومياً لجمع القمامة ونقلها على حساب الدولة، وكانت الأمور في هذا الجانب تسير بانتظام كالساعة بدون جباية رسوم نفايات أو غيره. وكانت القمامة تحفظ في أكياس وتوضع أمام كل منزل وتأتى السيارة لتحملها إلى المكب خارج المدينة، وللتنبيه كان العمال يطلقون صافرة معروفة لمن لم يخرج كيسه.. تماماً كما يحصل الآن في المدن الكبيرة مثل لندن وباريس ونيويورك.. ولذلك كانت الخرطوم مدينة نظيفة آنذاك.. فأين نحن اليوم من الخرطوم التي فازت مؤخراً بجائزة أوسخ مدينة في العالم !  الشاهد في يوم من الأيام عندما همّ العم عبدالغفور أن يتحرك بسيارته من إحدى الأزقة خرجت امرأة متأخرة من دارها تحمل أكياسها وبدأت تصيح بأعلى صوتها " يا بتاع الوساخة يا بتاع الوساخة أقيف.."  فلبى نداءها وعاد إليها العم عبد الغفور وترجل من سيارته ورد عيها بسؤال : " لمن هذه الوساخة؟ " فردت عليه: "هي لنا طبعاً ".  فقال لها العم عبدالغفور: " طيب مين بتاع الوساخة ؟... أنا بتاع النظافة يا ست.." .. فتوارت السيدة خجلاً إلا أنه كان المنطق والحقيقة،  وقد كان درساً لهذه السيدة سوف لن تفكر في تكراره أبداً.  لقد كان ذلك بالفعل درساً سابقاً لعصره فيما يُعرف حالياً في الغرب بالـ political correctness أي الصواب السياسي أو اللياقة الأدبية أو اللباقة الاجتماعية – فغير مسموح في أمريكا مثلاً أن تصف شخصاً بأنه أسود أو زنجي، بل تقول امريكي-أفريقى ولا تقول المعاقين وانما  تقول ذوي الاحتياجات الخاصة -  واستبدل عمنا عبد الغفور " ناس الوساخة"، التي قالتها السيدة،  بالعبارة اللائقة "ناس النظافة"، أي أن التركيز يكون على الجانب الإيجابي والمقبول إجتماعياً وقانونياً.
بمناسبة عمله قال لي العم عبدالغفور يوماً ما.. أن أمتع أيام الشغل بالنسبة له ولعماله عندما يأتي دورهم في تنظيف شارع الجمهورية في منطقة وسط السوق وتحديداً جهة مخبز "بابا كوستا" حيث يحملون من هناك كل الأشياء (مثل الخبز والحلويات والسندوتشات والتورتات والعصائر إلخ..)، التي يود محل بابا كوستا التخلص منها لأى سبب من الأسباب، في بطونهم والباقي في أكياسهم.. وعندما اندهشت !  قال: " لا يهم نأكل كل ذلك باستمتاع شديد وما يجراش حاجة و الحمد لله كل واحد منا يزيد وزنه 5 كيلو في هذا الأسبوع.. ".. وأضاف كنا ننتظر هذا الأسبوع بفارغ الصبر حتى نأكل شيء (نضيف) ولذيذ !   محل بابا كوستا كان محلاً راقياً و كبيراً ونظيفاً تشتم منه رائحة الخبز والكيك  والجتوهات والطيبات من على بعد أميال فتصاب بالجوع حتى لو كنت متخماً.. لكنى اليوم أتحسر ويتقطع قلبي حزناً وعطفاً عندما أرى أطفالاً ورجالاً ونساءً يفترشون الأرض أمام صناديق القمامة ينبشون الأكياس وينافسون القطط والكلاب ! أين نحن الآن من بابا كوستا ! بل أين أنت منا يا بابا كوستا ؟  
من خلال العمل نمت علاقة حميمية بينه وبين العمال الذين كانوا يعملون معه حيث كانوا يعتبرونه أباً روحياً لهم.. ورزق أحدهم طفلاً فبارك له العم عبدالغفور وسأله ماذا أسماه؟  فأجابه الأب أن المشاورات جارية مع الأهل في كاجوكاجو لاختيار الاسم.. وبعد عدة أيام سأله نفس السؤال وتلقى نفس الإجابة بأن المشاورات ما تزال جارية.  وبعد أسبوعين كرر له نفس السؤال فرد عليه الأب سميناه " ود البلولة ".. فضحك العم عبدالغفور ضحكته المعهودة العالية وقال له مستعجباً: " بالله ود البلولة دا عايز مشاورات !!"  لقد كان يتمتع بروح الطرفة والتعليقات الفكاهية دائماً وخاصة مع عماله فأحبوه.
أما عن فكره الديني فمثله مثل كل جماعة أنصار السنة كان لا يعترف بالشيوخ والفُقرا الأمر الذي يعدونه شركاً بالله بل هو يذهب إلى أكثر من ذلك ويجاهر بالعداء ويناقش ويتحدى خاصة من يعتقدون بقدرات الشيوخ والفُقرا ومعجزاتهم في علاج المرضى والِخلفة والسرقات إلخ.. وعنده مواقف كثيرة في هذه الناحية سوف أروى لكم بعضها.   في مرة من المرات دخل حديقة القرشي بسيارته ليحمل أوساخها وكان هناك في إحدى أركانها مقبرة قديمة غير معروف مَن تحتها ؟ وكانت محاطة بسياج من حديد وسيخ وزوايا مثبتة.. كان منظراً مغرياً للمحتاج إلا أن أحداً لم يتجرأ حتى من لمسه خوفاً من كرامات الشيوخ.  ولما كان العم عبد الغفور يبنى بيته في الصحافة وتعثر البناء لنقص في السيخ، دفعته الحاجة وأغرته الفكرة،  فأمر العمال بإزالة السياج من المقبرة ليحملها ضمن الأوساخ فخاف العمال ورفضوا طاعته لأول مرة وقالوا له: " تحتو في شيخ كبير يا عم !".. فترجل من السيارة وأزال السياج بنفسه وحمّله على السيارة.  وأثناء سيرهم في الطريق إلى اتجاه بيته تحت الإنشاء مالت السيارة شمالاً وسقطت منها كمية من السيخ على سيارة صغيرة كانت تسير في الاتجاه المعاكس وتحطم زجاج السيارة الصغيرة من جراء ذلك.. هنا أدرك العمال قوة الشيخ وكراماته.. وصاحوا كلهم فيه بصوت واحد :" ما كلمناك يا أخي ده شيخ وإنت ما بتسمع الكلام.."  قال لم أهتم بما يقولون.. ورفعت السيخ من الشارع واعتذرت لصاحب السيارة وتوارى عنى العمال خوفاً وواصلت المسيرة في الشارع ثم واصلت المسيرة في بناء المنزل بنفس السيخ وسكنت فيه "وما جراش حاجة" لأنها كانت مجرد صدفة وحادث عابر من حوادث السير.  المهم "ضرب عصفورين بحجر" فقد نفذ أفكاره بعدم تعظيم القبور وتقديسها واستفاد من الحديد والسيخ ليكمل بناء داره.
وحادثة أخرى مشابهة.. في منطقة الحزام الأخضر عندما كانوا يفرغون الأوساخ من السيارة رأى جمهرة من الناس يلتفون حول مقبرة مجهولة الهوية في منطقة خالية من المقابر.  كانت فرصته.. فتوجه إليهم بسيارته وبدأ معهم نقاشاً حول البدع والشرك وحاول إقناعهم أن الذي يرون إنما هو كوم زبالة "وما في تحت القبة شيخ.." وعندما اشتد النقاش واحتدم حرك سيارته ووقف بإطاراتها الأربعة فوق تلك المقبرة المزعومة وسط دهشتهم ثم تحداهم قائلاً لهم: "هذه سيارة ألمانية ماركة بنز قوتها 110 حصان فشيخكم كم حصان؟ إذا كان شيخاً بحق دعه يقلب سيارتي."  هنا وجَم الجميع وتحيروا من هذا الرجل الجريء ثم انفضوا صامتين من حوله إلى حيث أتوا وفشل مشروع الشيخ والضريح في الحزام الأخضر.
وفي موقف مماثل، وأثناء قيادة عم عبدالغفور لكومر البلدية،  وجد في طريق خارج المدينة سيارة لوري (مبنشرة) يقاسي سائقها لوحده في فك و نفخ الإطار (اللستك) فذهب إليه لتقديم العون كعادته.  وعندما حاول عبدالغفور والسائق فصل اللستك الضخم عن جسم اللوري تحركت الرافعة ( العفريتة) قليلا وكاد اللوري أن يميل جانباً فصاح السائق جزعاً : " يا السيدي الحسن!! ".  فغضب عبدالغفور ووبخ السائق وأعطاه درساً في الشرك وعاد إلى كومره، فقال له السائق:  "يا زول هوي .. سيدي الحسن حينفخك ".  فرد عليه عبدالغفور ساخراً :  " بدل ما ينفخني خليه ينفخ ليك لستكك ده ! "  وادار سيارته تاركاً السائق لشأنه في الخلاء.
في إحدى المرات دعاه صاحب طاحونة جديدة في القرية لحضور وليمة غداء "كرامة"، وكان الناس عادة يفعلون ذلك في البلد لجمع الرجال للمساعدة في حمل وتركيب طاحونة أو ساقية أو أي شيء جديد يحتاج إلى أيدى مساعدة..وكانت العادة أيضاً أن الوليمة تكون في شكل صحن "فتة" مخلوطة بقليل من الخبز وكثير من الأبريه.  أما اللحم ورأس الخروف فتكون مقصورة على صحن شيخ القرية وأسرته وأحبابه ومريديه فقط.  وبعد وليمة الغداء والشاى السادة طٌلب من الحاضرين التحرك لرفع وتركيب الطاحونة الجديدة فلبى كل من أكلوا الوليمة الطلب ما عدا العم عبدالغفور الذى رفض الطلب وبقى في مكانه بل قال محتجاً : " دعوا شيخ عبدالله يرفع الطاحونة لأنه هو الذى أكل رأس النيفة واللحم..ونحن أكلنا فتة عيش وأبريه بس..!"  هنا قصد العم عبد الغفورالشيخ الذى تم تمييزه عنهم فقط لمجرد أنه شيخ من شيوخ إحدى الأحزاب الطائفية السياسية.
كان يرى أن الاجتماع لأجل العزاء وإقامة السرادق هو نوع من أنواع البدع والمحدثات وفيه مخالفة صريحة لهدى السلف الصالح ولذلك عندما توفت والدته، رحمها الله، والتي كان يعالجها لشهورعدة في الخرطوم، نادى إثنين من جيرانه ودفنها في ليلها وذهب في الصباح إلى عمله كالمعتاد وبعد أيام سمع أحد أقربائها، والذي كان يعمل مديراً كبيراً لإحدى المصالح الحكومية، بوفاة قريبته فغضب غضباً شديداً وذهب لمنزل عبدالغفور تتبعه سيارة نقل محملة بكل أنواع الفاكهة والطيبات للفراش والعزاء.  وهناك دارت مشادة كلامية بينهما باعتبار أنه لم يبلغه بوفاة قريبته ودفنها من دونه ثم لم يقم فراشاً لبنت الأصول.. فرد عليه عبدالغفور: " لو كنت تزورها في حياتها مرة في الشهر وتأتى بربع كمية الفواكه هذه لما ماتت قريبتك... ولمعلوميتك هي أصلاً ماتت بسبب فقر الدم الحاد".  هنا أُحرج المدير وصمت الرجل وأدرك أنه أخطأ في حق المرحومة.
وحادثة أخرى مشابهة.. توفت إحدى قريباته في منزله فحدد الموجودون آنذاك أن يتم الدفن الساعة السادسة مساءً باعتبار أن شقيقها قد تحرك من بورتسودان لحضور مراسم الدفن.  وعندما عاد العم عبدالغفور من عمله سأل وعرف اتجاه الحاضرين فرفض تأخير الدفن جملة وتفصيلاً وقال غاضباً: "هي تياترو حتفتح ساعة ستة ؟!" ويقصد أهي مسرحية...! وفعلاً تم الدفن ظهر ذلك اليوم دون انتظار لأحد.
كما ذكرت لكم كان ضد إقامة العزاء والمآتم والسرادق وكان يحاربها بشدة وينتهز بل يخلق الفرص لنقاش هذا الموضوع مع من يؤيدون.  ومن شدة اهتمامه بذلك كان يحرص على حضور كل المآتم لا للتعزية بل لفتح أبواب النقاش والجدل حيث كان مكاناً وتجمعاً ومرتعاً خصباً لتنمية أفكاره ونشرها، فالمأتم الذي يحضره العم عبدالغفور، والذي كان يجمع كل ألوان الطيف من علماء ورجال الدين وغيرهم، يكون حلبة للنقاش الساخن والجدل بين المؤيدين والمعارضين وكانت تعتبر دروس مفيدة في أمور الدين وكان في ذلك العزاء الحقيقي لأهل الميت.  ولذلك إذا غاب العم عبدالغفور عن المأتم لأي سبب من الأسباب كان أهل الميت يفتقدونه قبل المعزّين.  الشاهد أنه نظرياً كان ضد إقامة المآتم لكن عملياً كان حضوراً في المآتم لغرض يهمه كما أسلفنا.
من المشاهد التي كنت أراها كل يوم جمعة كان يخرج مع والدي بعد الغداء مباشرة إلى المستشفيات في الخرطوم لزيارة المرضى أياً كانوا.  وكان كلما يعود من تلك الزيارات يقول هذه الحكمة وهي مؤكد دعوة إلى المنهج الاشتراكي : " نزور مرضى السل والقلب والصدر في مستشفى الشعب، ونمشى مسافة خطوات لندخل مستشفى الخرطوم والجنوبية لنزور مرضى الضغط والسكرى وكل أمراض السُمنة.. بالله لو هؤلاء المرضى السُمان أعطوا قليلاً مما يأكلون إلى مرضى السل والصدرية وفقر الدم لأصبحوا كلهم أصحاء ولخلت كل المستشفيات من المرضى وارتحنا نحن من الزيارات.."  وفعلاً يقال أن التخمة أشد فتكاً من الجوع.  فهل يا ترى يمكن تطبيق فكرة العم عبدالغفورعملياً، بغض النظر عن النظرية الشيوعية الخاصة بتوزيع الثروة على الأفراد، أم يتعثر ذلك مع أطماع الانسان التى ليست لها حدود؟
ومن هواياته أنه كان يحب القراءة وخاصة كتب التفسير بكل أنواعها وكان في نقاشه مع العلماء وغيرهم يرُد كل شيء إلى القرآن الكريم، والسنة المطهرة،  فكانت مرجعيته كتاب الله والأحاديث الصحيحة.  ولتبسيط الشرح للناس كان يسمي القرآن الكريم "الكتالوج".. فإذا ناقشته في أي موضوع يقول لك (نشوف "الكتالوج" بقول هنا إيه..)  وقد كان دائماً يحمل هذا الكتالوج في جيبه.   وأحياناً سمعته يفسر القرآن والأحاديث باللغة النوبية للحجات الكبار وكن يفهمن عليه. حيث كان يشرح آيات القرآن الكريم بطريقة مبسطة مستعينا بالأمثلة المحلية والكلمات الدارجة.  وعلى سبيل المثال فقط أذكر أنه كان يشرح الآية في سورة الأنعام  " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ....."  فقال لهم : " هو طريق مستقيم فما ترحوش شمال أو يمين وتخَرِّموا وتدخلوا الزقاقات لاحسن ترّوحوا في داهية ! ".
كانت له قصص ونوادر كثيرة وسوف أختم هذا المسلسل من القصص التي تنّم عن حِكم وعِبر العم عبدالغفور بواقعتين محليتين خفيفتين. الأولى.. عندما كنا جالسين في أمسية يوم جمعة في منزلنا إذ حل علينا شيخ كبير من شيوخ قريتنا مرتدياً ملابس الشيوخ الأزهرية مكتملة من جلابية وقميص وقفضان وجِبة وسديرى وسروال ومركوب وملفحة وطربوش أحمر عليه عمامة بيضاء صغيرة.  وبما أنه كان قادماً من سفر سألته عن حقيبة سفره حتى أضعها له فى الغرفة فرد قبله العم عبدالغفور قائلاً : " ما هو لابس كل هدومه..وما يحجتاج لشنطة !  " لقد قصد الشيخ وأراد أن يفتح معه باباً لنقاش وجدل عن الشيوخ والزى الإسلامي وتمّيز الشيوخ في اللبس والألقاب والكهنوت وما إلى ذلك.   ومزح معه الشيخ  ثم كان نقاشاً وجدلاً طويلاً لم ينتهى إلا مع صلاة المغرب إلا أن أحدهما لم يقتنع بوجهة نظر الآخر.  الواقعة الثانية..  دعاه جاره لفطور صحن "قراصة بالملوحة" وهو ما يعرف "بالتركين" وبعد الفطور حذره جاره بعدم شُرب الماء إلا بعد ساعتين من الفطور وعندما سأله عن السبب أجابه: "حتى لا يختلط الماء مع الملح فيسبب لك عطشاً دائماً " كانت الإجابة غير مقنعة للعم عبدالغفور فقال له : " هل تلك التعليمات مكتوبة في علبة التركين ؟"  ويبدو أن العم عبد الغفور كان قد تعود على  مرجعية "الكاتلوج" فيريد مرجعاً وتعليمات الإستعمال في كل شيء حتى في "التركين".
كلما تذكرت حدثاً أو موقفاً للعم عبد الغفور تزاحمت وتراصت في ذهني أحداث ومواقف أخرى كثيرة له تتدافع للخروج من حبسها إليكم، ولو تركتها وأطلقت العنان لقلمي لتحررت لتملأ كتب ومجلدات عن هذا الرجل النادر الفريد.  اختلفنا معه أو اتفقنا فقد كان الرجل مجتهداً يخطئ ويصيب فالكمال لله وحده.  والأهم كانت شخصية تتميز بالبساطة والوضوح والقناعة بما يعمل والثقة العالية بالله ثم بنفسه، محب للدعابة وإدخال الفرح والسرور في نفوس الآخرين. ولذلك كان رائداً من الرواد في مجال الدعوة الإسلامية بالتى هي أحسن، وجاءت من بعده أجيال جديدة نرجو لها أن تحذوا حذوه ولذلك ستظل سيرته ماثلة في الأذهان عبر الأزمان، فرجل مثله ذاكرة خالدة وإن غادر الحياة.
وخير ما أختتم به سيرته العطرة.. اللهم إنه في ذمتك وحبل جوارك، فَقِهِ فتنة القبر، وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، فأغفر له وأرحمه، إنك أنت الغفور الرحيم.


reeshs@hotmail.com

17 مارس 2016

 

آراء