في ذكرى رحيله الاولى

 


 

عبد الله علقم
30 December, 2020

 

 

من الأرشيف:

(كلام عابر)
ما ممكن تسافر
جمعتني به سنوات الطلب في جامعة الخرطوم قبل أكثر من خمسة عقود من الزمان. كان يسبقني في الدراسة بسنة،هو في كلية الحقوق وأنا في كلية الآداب. جمع بيننا أكثر انتماؤنا المشترك لتنظيم الجبهة الاشتراكية، وهو تنظيم وسطي مكون من مجموعة تنظيمات صغيرة علا نجمه عقب ثورة أكتوبر 1964 وكان مستهدفا من اليمين واليسار.. الاتجاه الاسلامي والجبهة الديمقراطية في آن معا. شاركته لفترة تحرير جريدته الحائطية التي كانت تحمل اسم "المسؤولية" ثم تخلى عنها وأصبحت أصدرها منفردا.تعلل مرة بكثرة مشاغله في التنظيم ومرة أخرى بتغير توجه الجريدة ولكن أدبه الجم منعه أن يقلها صراحة أن خطاب المجلة لم يعد يناسبه. كان الخطاب مماثلا لغير الجميل السائد يومها في معظم الجرائد الحائطية في الجامعة.
عرف فضل الله بالكلم الطيب حيث لم تجد الكلمات الساقطة والبذيئة طريقها لقلمه أو للسانه ولو على سبيل المزاح.نموذج حقيقي للإنسان الصادق الودود في تعامله، المهذب رفيع الخلق في مسلكه وفي خطابه. كان يتحكم في مشاعره وردود أفعاله حتى لو كان في أشد حالات الغضب، وهو نادرا ما يغضب من أحد وليس في قلبه الرقيق غلا على أحد. ترأس المجلس الأربعيني لإتحاد طلاب جامعة الخرطوم في 66-1967،وكانت رئاسته للمجلس نموذجية من حيث الحياد التام وطول البال والهدوء والمقدرة على امتصاص غضب وانفعال الفرقاء بالحياد التام والموضوعية. فرض استقامته الشخصية على الآخرين.
رغم أنه لم يسعى في يوم من الأيام للشهرة إلا أن الشهرة أحاطت به منذ أن كان طالبا في بداية المرحلة الثانوية في مدرسة ودمدني الثانوية وذلك عبر انتشار الأغنية الشهيرة التي لا تزال ترددها القنوات الفضائية والإذاعات إلى اليوم" من أرض المحنة من قلب الجزيرة.. برسل للمسافر أِشواقي الكتيرة" والتي صدح بها الفنان الراحل محمد مسكين. غنى له عثمان حسين، عبدالعزيز محمد داؤد،أبو عركي البخيت، أم بلينا السنوسي، ومحمد مسكين وغيرهم لكن اشتهر بثنائيته مع الفنان محمد الأمين الذي قال عنه أكثر من مرة،أي فضل الله، إن خارطة الغناء السوداني تغيرت تماما بعد ظهور محمد الأمين. كان فضل الله صوت ثورة أكتوبر القوي حينما أنشد محمد الأمين "المجد للآلاف تهدي بالشوارع كالسيول.. يدك زاحفها قلاع الكبت والظلم الطويل",وأنشد قبل ذلك"أكتوبر واحد وعشرين.. يا صحو الشعب الجبار.. يا لهب الثورة العملاقة.. يا مشعل غضب الأحرار". وهذا النشيد تحديدا ألفه فضل الله وهو مسافر على ظهر "لوري" من الخرطوم إلى مسقط رأسه في ود مدني بعد انتصار ثورة أكتوبر والإفراج عنه وعن عدد من طلاب الجامعة من المعتقل. عبقرية شعرية وموهبة منطلقة لا تعترف بقيود المكان والزمان.
استهوت الصحافة فضل الله فهجر مهنة القانون ليتفرغ تماما لمهنة المتاعب التي بدأها بمجلة الحياة وشغل عدة مناصب حتى شغل كرسي رئيس مجلس إدارة جريدة الصحافة، وبعد الانتفاضة 1985 استقر في جريدة الخرطوم رئيسا للتحرير وناشرا شريكا لدكتور الباقر أحمد عبدالله والأستاذة ابتسام عفان. كنت أكتب مع فضل الله أحيانا في مجلة الحياة،وبشكل راتب في جريدة "الخرطوم" اعتبارا من 1988 ولكن "يا فرحة ما تمتش" جاءت القدم الهمجية في 30 يونيو 1989 فتوقفت "الخرطوم" عن الصدور ولكن إدارتها استطاعت تفادي مصادرة المطبعة ببيعها لرجل الأعمال الشهير صلاح ادريس. زرته في يوليو 1989 في مكتبه في جريدة "الخرطوم" الممنوعة من الصدور مثل غيرها من الصحف، وسألته إن كانت هذه هي نهاية "الخرطوم" ولو مؤقتا، ولكن فضل الله "بطنه غريقة" فلم يخبرني صراحة أنهم سيعاودون الصدور من القاهرة.استنتجت من حديثه أن الجريدة ستصدر من جديد. وفعلا صدرت "الخرطوم" من القاهرة وكان صدورها نقلة كبيرة في تاريخ الصحافة السودانية. تصدر الجريدة يوميا في القاهرة وتوزع في نفس اليوم في مصر ودول الخليج مع فتح مكتب دائم للجريدة في جدة. كانت تجربة صعبة ومغامرة حقيقية لكنها نجحت ونقلت الصحافة السودانية لآفاق جديدة.وانتظمت من جديد في الكتابة الراتبة في "الخرطوم". استطاعت "الخرطوم" في مهجرها اجتذاب الكثير من الأقلام السودانية المهاجرة فزادت التجربة ثراء. كان صدور الخرطوم في المهجر عملا بطوليا يحفظه التاريخ لفضل الله وللباقر ولطاقم تحرير وإصدار "الخرطوم" في وقت كانت معارضة نظام الإسلامويين تكلف الكثير، وكان مجرد الاحتفاظ بنسخة من جريدة "الخرطوم" قد يقود مباشرة لبيوت الأِشباح.
ولما عادت "الخرطوم" لتصدر مرة ثالثة من الخرطوم أصبحت تصدر من طبعتين.طبعة محلية في الخرطوم وطبعة خليجية ترسل موادها من الخرطوم عبر الأقمار الصناعية للمطبعة في جدة وتوزع في نفس يوم صدورها في المدن السعودية والخليجية. كانت لفضل الله دائما اليد الطولى في كل انجاز عظيم. استمرت "الخرطوم" صوتا للسودان وللسودانيين في مهاجرهم.طبعا لم تكن مساحة الحرية المتوفرة لها في الخرطوم بعد عودتها من القاهرة كافية للحفاظ على خط الجريدة المعارض السابق فقد كان يسري عليها بالضرورة ما يسري على الصحف الأخرى في السودان من تضييق غير أن الطبعة الخليجية تتمتع بحريات نسبية لم تكن متوفرة آنذاك في السودان. في جميع الأحوال وفي كل مراحل إصدار "الخرطوم"، كان فضل الله رغم رقته شديد الصرامة فيما يتعلق بأخلاقيات المهنة والإنضباط والقواعد الخلقية الدقيقة التي تحكم العمل و الكتابة في "الخرطوم"، وكان ينفر من الكلمة الساقطة والهابطة نفور الصحيح من الأجرب.كان يخفي في داخله شخصية قوية ملتزمة رغم كل الرقة والسماحة التي تميز بها.
أتاح لنا فضل الله حضور الفنان محمد الأمين والفنان أبوعركي البخيت لبعض رحلاتنا في أيام الجمع للجنائن القريبة من الخرطوم. أذكر أن محمد الأمين شارك جمعيتنا (جمعية الفكر السوداني) ذات مرة رحلة لجنائن بتري سنة 1967 وهناك أتحفنا بأغنيته الجديدة التي لم يكتمل تلحينها بعد وهي "زاد الشجون"..وكنا أول من استمع لهذه الأغنية التي أصبحت بعد اكتمال تلحينها وبنيانها الموسيقي من أيقونات فن الغناء السوداني.
رغم أني عاصرت ميلاد عدد من أغنيات فضل الله "الحب والظروف"، "بعد الشر عليك"، "الجريدة ولكني مثل كثيرين غيري لم أستطع التوصل لمعرفة شخوص تلك الأغنيات والتي في الغالب لم تخرج من أسوار الجامعة. فضل الله "بطنه غريقة" ويستحيل أن تتحصل منه على ردود شافية لاستفساراتك عن المعنيات بتلك الأغاني وأعتقد أن روح الشاعر الحقيقي قد تغلبت عليه، فما من شاعر يفك رموز شعره أو يشرح خباياه وإنما يترك ذلك لتقدير المتلقي دون الشك في ذكائه أو التدخل في خياراته.
اختار فضل الله العمل في صحف نظام مايو العسكري وتدرج في المناصب حتى شغل منصب رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير في جريدة "الصحافة" اليومية ، وكانت تصدر آنذاك صحيفتان يوميتان فقط هما "الصحافة" و"الأيام" المملوكتان لدولة مايو. لم يحاول فضل الله التملص من انتمائه لنظام مايو العسكري بعد سقوطه، ولكنه برر مشاركته ذلك النظام العسكري يأسه من نظام الأحزاب التي حكمت البلاد مرتين، وكانت كل مرة تنتهي بإنقلاب عسكري، والشعارات الجميلة الجذابة التي طرحها عسكر مايو بعد نجاح انقلابهم واستيلائهم على السلطة. لكن الشعارات شيء والتجربة والتطبيق الفعليين شيء آخر. شغل فضل الله منصب رئيس المجلس القومي للصحافة والمطبوعات فترة من الوقت قبل أن يشتد عليه المرض، ومهما كانت نجاحاته في ذلك الموقع فإنها كانت للأسف تصب في نهاية الأمر في مصلحة نظام لم يؤمن به فضل الله في يوم من الأيام،ولم يجني مكسبا شخصيا لا من نظام الإسلامويين ولا من أي نظام آخر، يعصمه الزهد وتمنعه مناعته الخلقية على مدار السنين.
في يوم الأحد 29 ديسمبر وسنة 2019 الميلادية توشك على الرحيل، رحل فضل الله في صبر وهدوء.الموت حق علينا جميعا وكل ابن أنثى وإن طالت سلامته** يوما على آلة حدباء محمول،ونرضى ونؤمن بقدر المولى عز وجل وقضائه، لكن تضاعف حزني لأن البعد الجغرافي حال بيني وبين زيارته في مرضه ووداعه قبل رحيله. أتمنى أن يجمعنا الله به في جنات النعيم.
و...
وداعا فضل الله.
(عبدالله علقم)
abdullahi.algam@gmail.com

 

آراء