في رحاب جامعة الاحفاد … بقلم: طلحة جبريل
6 January, 2010
talha@talhamusa.com
ذلك الصباح كان صباحاً "امدرمانياً" مفيداً ورائعاً ورائقاً، بل لعلني اقول إنه كان استثنائياً. كان الموعد الذي حددته الاستاذة "عاطفة القمري" هو العاشرة صباحاً عند البوابة الرئيسية.
من المدهش ان تحب مدينة ما وانت لا تعرفها. حب تولد من الاستماع لحكايات وحكايات عن هذه " البقعة" المعطونة في التاريخ. معرفتي بمدينة امدرمان سطحية للغاية ، الى حد أنني كنت اعتقد ان حي " ود ارو" يقع جنوب " الفتيحاب".
أحببت في امدرمان "روحها". هذه الروح وجدتها في أهل امدرمان الذين التقيتهم في مشارق الارض ومغاربها. وما زلت أقول لو كانت بلادنا تعايشت بالهدوء والتمازج الذي تعايش بها سكان امدرمان، ربما تجنبنا الكثير من العنف والحروب والمشاكل .
تأملوا حروبنا. ألسنا شعباً ما يزال يعيش مرحلة التناحر التي وصلت في بعض الاحيان الى حالة الحرب الاهلية. اليست هي حروب في عمقها بين المدن والقبائل.
في ظني ان " روح امدرمان" هي التي كانت وحدها كفيلة بان تجعلنا نتجنب حالة الحرب بين المدن والقبائل التي نعيشها الآن.
تأملوا حرب الشرق وحرب دارفور. اليست هي تأكيد على أننا نعيش فعلاً وقولاً حرباً بين المدن والقبائل. أليس ابناء المدن هم بالضبط الذين ينطبق عليهم مصطلح " اولاد البحر" الذي اصبح تلوكه الالسن كثيراً بسبب هذه الحرب.
أمدرمان هي امدرمان مدينة لا تشبه الا نفسها. وليت مدننا الاخرى تتطبعت بروحها.
وقفت عند البوابة الرئيسية، اتأمل طالبات في منتهى الأناقة والحيوية، يتوجهن بخفة ونشاط نحو المباني التي شيدت بذوق معماري واضح .
جاءت الاستاذة القمري في موعدها، وهذا أمر استثنائي في بلد يعتقد ناسه أن عدم الحضور في الموعد " مسألة عادية جداً في السودان" وفي بعض الاحيان يلقون على مسامعك مزحة لاتستاغ " مواعيد سودانيين" .
هكذا يقول الناس دون أن يرف لهم جفن.
عبرنا البوابة الرئيسية الى داخل الفناء.
هأنذا اذن داخل "جامعة الاحفاد للبنات". الفكرة التي بذرت في بداية القرن العشرين، وصمدت على الرغم من تقلبات الزمن حتى تحول الحلم الى حقيقة في عام 1995. تاريخ له أكثر من دلالة، أن تتم المصادقة على قيام جامعة خاصة للبنات في عاصمة البلاد الوطنية، وجماعة " التوجه الحضاري " ايامئذ لم تكن تتسع لهم أرض السودان الواسعة وارادوا ان يتمددوا شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. ويضربون ذات اليمين وذات اليسار، يحركهم في ذلك الاعتقاد الذي يقول إن"السيناريو الإسلامي" هو بالضبط نهاية تاريخ الصراع على السلطة يرى فرصته انتصاراً نهائياً وأبديا للحق لا يجوز بعده تداول للسلطة. لان من ينتزع السلطة بالقوة لايمكن أن يقبل بتداولها قط عبر صنادق الاقتراع. هكذا علمنا التاريخ.
كان موعدي مع الدكتور قاسم بدري رئيس الجامعة في العاشرة صباحاً. ذهبنا الى مكتبه، وهو مكتب عادي ليس في أبهة الجامعة نفسها، يعج بالناس بعضهم اساتذة واداريين ومجموعة أخرى خمنت انهم ضيوف. مكتب مفتوح يمكن لاي أحد ان يدخله دون تعقيدات بيروقراطية. لكن لم نجد الدكتور قاسم بدري نفسه، قيل لنا إنه يلقى درساً جامعياً.
أقترح علي زيارة " مكتبة الحفيد" . مكتبة ذكرتني بالمكتبات العامة في المدن الامريكية. نظيفة ومرتبه وتتسم بالهدوء الذي يحتاجه كل من يطالع أو يعكف على انجاز بحث علمي.
عدت من جديد الى مكتب الدكتور قاسم بدري وقيل لنا إنه سيأتي بعد قليل. وقفت انتظره أمام المكتب. ثم قيل لي إنه هو ذلك الشخص الذي يتبادل حديثاً ودياً باسماًً مع مجموعة طالبات. كان يمازح الطالبات. يعرف أغلبهن بالاسم. ارتدى بنطالاً من الجينز وقميص أبيض مخطط. من الواضح انه لا يهتم كثيراً بهندامه. من مشيته وطريقة لبسه تيقنت أن روح فنان قابعة في دواخله. هكذا خمنت.
أعتذر عن التأخير في الموعد لانه كما قال دخل في نقاش مع الطالبات، وعرفت انهن في سنتهن الاولى في الجامعة. قادني الى مكتبه وعندما لاحظ انه يعج بالناس، اقترح ان ننتقل الى مكتب أحد الاساتذة المجاور لمكتبه.
دار نقاش طويل بيننا عن الجامعة، وظروف التعليم في السودان. عندما قلت له إنني من خلال نقاشات مع بعض طلاب وطالبات في مناسبات مختلفة ، لاحظت أن معرفتهم بتاريخ السودان لا يعتد بها، وفي تقديري ان سبب ذلك هو ضعف المناهج، والانتقال الفجائي في بعض الجامعات الى سياسة تعريب فاشلة، والى سلم تعليمي قبل المرحلة الجامعية أكثر فشلاً، حيث تحشو عقول التلاميذ بمواد لا يحتاجونها قطعاً.
روي لي الدكتور قاسم بدري انه لاحظ في يوم لقائنا، وجود طالبة في السنة الاولى التي يلقى عليهن دروساً في علم النفس، من أسرة احمد رضا فريد ، وهو احد أعضاء " المجلس الأعلي للقوات المسلحة" الذي كان يمثل أعلى سلطة في عهد نظام الفريق ابراهيم عبود. وعندما سأل الطالبات إذا كنا يعرفن من هو " احمد رضا فريد"، لاحظ انه لا توجد طالبة واحدة تعرف من هو الرجل. وعندما سألهن اذا كنا يعرفن " ابراهيم عبود" أكتشف ان من يعرفن الرجل، وهي معرفة مشوشة، لا يتجاز ثلاثة أو اربعة طالبات.
قدم لي نبذة وافية عن الجامعة وتاريخ مدارس الاحفاد. ودعاني مشكوراً الى القاء محاضرة أمام الطالبات في زيارة اخرى. ثم اصر بلطف شديد أن يرافقني الى " مكتبة الحفيد" من جديد حيث طلب من المشرفة على المكتبة ان تجمع لي مجموعة من الكتب عن الجامعة ومدارس الاحفاد وعن الشيخ بابكر بدري ، وهو جد قاسم بدري وكذلك عن والده يوسف بدري مؤسس جامعة الاحفاد. وطلب مني الدكتور قاسم بدري وبالحاح أن اعود الى زيارة الجامعة من جديد، وودعني بحرارة ملفتة، قبل أن اواصل جولتي في باقي مرافق الاحفاد.
من أكثر الامور التي أثارت دهشتي ، وعرفتها لاول مرة ، ان الشيخ بابكر بدري ، الذي أدخل تعليم البنات في السودان وأسس أول مدرسة علمانية وليست دينية للبنات في مدينة رفاعة عام 1907 . كان جندياً في جيش عبدالرحمن النجومي الذي ارسله الخليفة عبدالله التعايشي لغزو مصر.
كان الشيخ بابكر بدري الذي استقرت اسرته القادمة من منطقة الرباطاب في رفاعة انتقل الى مدني، حيث سينضم بعد ذلك الى جيش المهدية الذي دخل الخرطوم. وتعرض الى الأسر بعد فشل حملة ود النجومي وبقى أسيراً في مصر مدة ثلاث سنوات. ثم شارك في معركة كرري التي خاضتها جيوش المهدية ضد حملة كتنشنر، وامتهن بعدها مهنة التدريس، ليصبح عام 1919 أول مفتش تعليم سوداني في فترة الحكم الثنائي، ليؤسس مدارس الاحفاد المختلطة عام 1930 ، وهي المدارس التي طورها ابنها يوسف بدري حتى تحولت الى " جامعة الاحفاد للبنات".
ولعل من مفارقات الزمان أن معظم من يوجدون في مفاصل السطة الحاكمة اختاروا هذه الجامعة لتدرس فيها بناتهن. وهي جامعة تدرس العلوم الحديثة وبالانجليزية التي عملوا على الغاء التدريس بها في جامعات أخرى.
أبناء الشعب يدرسون في الجامعات التي جمعت لها الكتب والمراجع من أرصفة الاسواق في دمشق وعمان، أما أبناء النخبة الحاكمة فانها تدرس في جامعات على غرار الاحفاد او يرسلون الى الخارج.
تضم جامعة الاحفاد حالياً كليات للطب والصيدلة والتنمية الريفية والادارة وعلوم الأسرة وعلم النفس والتربية، والعلوم والتكنلوجيا والكومبيوتر.
جلست طويلاً اثناء الجولة الى الدكتورة سمية محمد الزين البدوي عميدة كلية الدراسات الادارية. استمعت الى شرح مسهب عن المقررات ، والجهود التي بذلت حتى تبقى الجامعة منارة علمية ، والحفاظ على استقلاليتها، ومدى ارتباطها بالمجتمع ، وعنايتها بالبيئة المحلية، والعادات والتقاليد، والدور الذي تقوم بها في بث الوعي المجتمعي، وتلطفت بدعوتي لالقاء محاضرة امام الطالبات حول " تجربة شخصية".
من بين الأمور التي استرعت انتباهي في الدور الذي تقوم به الجامعة، حملة ضارية تخوضها ضد تلك الجريمة المجتمعية التي تتعرض لها البنات في بلادنا و تسمى " الخفاض الفرعوني". وهي قطعاً جريمة بكل المقاييس الدينية والاجتماعية والصحية. وما يدعو للأسى والحزن ان هذه الجريمة ما تزال ترتكب يومياً، ضحاياها فتيات صغيرات لا يملكن من أمرهن شيئاً. ولعل أكثر ما يقلق إن هذه الظاهرة الحيوانية ما تزال منتشرة وبنسب مرتفعة جدا حتى داخل العاصمة.
وهو ليس أمر مؤسف بل مخجل.
في ظني ان جامعة الاحفاد من منارات العلم التي يحق لبلدنا أن يعتز بها، إذ لا توجد حالياً جامعات للبنات الا في بوسطن في الولايات المتحدة ، وجامعة اخرى في الهند. هناك بالطبع كليات في الخليج العربي للبنات لكن لا توجد جامعة مستقلة متكاملة للبنات الا في السودان. اليس هذا ما يدعو للفخر.
" الاحداث"
مقالات سابقة
جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط
http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1